أعلنت الحكومة الباكستانية مؤخراً أنها تتفاوض مع التنظيم الإرهابي طالبان باكستان المسمى (Tahreek-e-Taliban Pakistan-TTP)، وذلك بوساطة من طالبان أفغانستان، كما أعلن الطرفان حدوث بعض التقدم بعد ثلاث جولات تفاوض أسفرت عن إعلان طالبان باكستان عن وقف دائم لإطلاق النار في 3 يونيو 2022، كما أفرجت الحكومة الباكستانية عن اثنين من أعضاء الحركة كانا يواجهان عقوبة الإعدام، وتوافق الطرفان على استمرار التفاوض.
حركة طالبان باكستان مسئولة عن عشرات العمليات الإرهابية داخل باكستان ضد قوات الشرطة والجيش بل والمدنيين، ومن أكثر هذه العمليات دموية الهجوم الذي قامت به في 16 ديسمبر 2014 ضد المدرسة العسكرية في مدينة بيشاور، والتي أسفرت عن مقتل 130 تلميذًا و15 من المدرسين، والتي تعد أسوأ حادث إرهابي في تاريخ باكستان، كما ينسب لها محاولة اغتيال الطالبة مالالا يوسف زادة الناشطة في مجال تعليم الفتيات، كما قامت بنحو 46 عملية إرهابية داخل باكستان منذ ديسمبر الماضي فقط أسفرت عن مقتل 79 شخصًا، فضلاً عن أنها كانت على علاقة بقيادات تنظيم القاعدة، وسبق أن أعلنت اعتزامها القيام بعدة عمليات انتقامية، في الولايات المتحدة و أوروبا، ردًا على مقتل أسامة بن لادن في 2011، كما سبق أن أعلنت مسئوليتها عن تفجير سيارة مفخخة في ميدان تايمز بنيويورك في 1 مايو 2010. ولذلك فإن هذه الحركة وقادتها على قوائم الإرهاب الدولي لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا. كما أن هناك الكثيرين، في داخل باكستان وخارجها، الذين يتحفظون على هذه المفاوضات مع منظمة إرهابية، ويتحسبون من نتائجها والتي يمكن أن تسفر عن الإفراج أو العفو عمن أياديهم ملطخة بدماء الأبرياء.
أما من يؤيدون هذه المفاوضات فيرون أن أي صراع لا يمكن أن يستمر للأبد، وأن التفاوض هو السبيل الوحيد لتحقيق قدر من السلام والاستقرار، ويستشهدون بأمثلة عديدة من التاريخ، منها ما قامت به الولايات المتحدة نفسها والتي تفاوضت مع طالبان أفغانستان بعد صراع استمر نحو 20 عامًا، وأسفر عن الاتفاق الذى وُقَع في الدوحة بتاريخ 29 فبراير 2020، والذي بمقتضاه انسحبت القوات الأمريكية من أفغانستان في أغسطس 2021، كما يشيرون إلى أن هذا التنظيم يضم في داخله أجنحة مختلفة التوجهات ما بين أقصى التطرف والمعتدل، ومن المهم تشجيع الأجنحة المعتدلة هذه، ومن بينها جماعة الأحرار داخل التنظيم الأكبر (TTP).
نشأة طالبان باكستان
تعود نشأة طالبان باكستان إلى عام 2002، في منطقة القبائل الباكستانية على الحدود بين باكستان وأفغانستان، والمسماة تاريخياً (منطقة القبائل المدارة فيدراليًا) (FATA) والتي تقطنها قبائل البشتون ذات الامتداد العرقي في أفغانستان، ونظرًا للطبيعة الطبوغرافية لهذه المنطقة وطبيعة سكانها من هذه القبائل، فقد كان هناك صعوبة دائمًا في السيطرة عليها منذ الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، وأصبح لها وضع خاص، وقوانين عرفية تحكمها، ومع نشأة باكستان منقسمة عن الهند عام 1947، استمر وضعها الخاص في الدساتير الباكستانىة، ولم يتم تعديل وضعها الا حديثًا في عام 2018، بإجراء تعديل على الدستور الباكستاني أدى الى ضمها لإقليم خيبرباختونخوا والذى يضم بدوره قبائل بشتونية، وكان يسمى حتى وقت قريب مناطق الحدود الشمالية الغربية، تجنبًا لاستخدام كلمة باختون والتي تعنى البشتون في إحدى اللهجات، نظرًا لوجود حراك قومي قديم في هذه المناطق، شجعته أفغانستان، للاستقلال أو التواصل مع باقي القبائل البشتونية في أفغانستان، وهو ما كان يهدد وحدة أراضي الدولة الباكستانية الوليدة.
ونظرًا لهذه الأوضاع الخاصة لهذه المناطق القبلية، فقد هرب إليها الكثيرون من أعضاء تنظيمي القاعدة وطالبان أفغانستان عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان في نهاية 2001، ووجدوا ملاذًا آمنًا بين القبائل البشتونية. ولذلك فقد وصف باراك أوباما هذه المنطقة بأنها أخطر منطقة في العالم.
وفي عام 2002 وفي إطار الضغوط التي مورست على الرئيس الباكستاني الجنرال برفيز مشرف، استجابة لنداء الرئيس الأمريكي بوش الابن بأن "من ليس معنا فهو ضدنا"، وانخراطه في الحرب على الإرهاب، ومساعدة الولايات المتحدة في حربها على طالبان والقاعدة بعد الأحداث الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، فقد بدأت قوات الأمن الباكستانية عدة عمليات أمنية لملاحقة أعضاء تنظيم القاعدة وطالبان في هذه المنطقة، فنشأت في هذه الأجواء مجموعات من خريجي المدارس الدينية المنتشرة في المناطق القبلية تتعاطف مع طالبان أفغانستان المنتمية لنفس القبائل، واعتبرت أن ما تقوم به القوات الباكستانية من تحالف مع الأمريكيين هو عمل عدائي ضدها، كما اعتبرت، ومعها بعض قادة القبائل، أن التواجد الأمني الباكستاني بهذه الكثافة لأول مرة منذ نشأة الدولة عام 1947 يمثل تغييرًا للطبيعة القانونية الخاصة لهذه المناطق، وتشكلت جماعات مختلفة من طلبة المدارس الدينية لمقاومة القوات الأمنية الباكستانية ومساعدة أعضاء القاعدة وطالبان افغانستان، وفي عام 2007 انضمت هذه الجماعات المختلفة، التي تتشارك في أهدافها وفكرها تحت تنظيم واحد هو (طالبان باكستان) بقيادة المؤسس بيت الله محسود الذي قتل بعد ذلك في ضربة أمريكية في 5 أغسطس 2009، واستمر التنظيم في توجيه ضرباته للقوات الأمنية الباكستانية، كما اشترك مع طالبان أفغانستان في مكافحة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة على أراضيها، كما اشترك في عمليات ضد حكومتي حميد كرزاي وأشرف غاني الأفغانيتين.
وهذا التاريخ من حيث النشأة والعلاقات هو ما يفسر التقارب بين التنظيمين بسبب التشابه الفكري، والانتماء القبلي، ورفقة السلاح، وإن كان لكل منهما قيادتها وهيكلها التنظيمي، كما يوجد بعض الاختلافات في الأهداف والأساليب. وعلى سبيل المثال، فإن طالبان أفغانستان كانت تركز في عملياتها على الداخل الأفغاني فقط، أما طالبان باكستان فقد تورطت في عمليات إرهابية خارج حدود المنطقة.
دوافع الأطراف المختلفة من المفاوضات
بدأت هذه المفاوضات بعد فترة وجيزة من التوتر الشديد الذي حدث بين أفغانستان وباكستان في شهر إبريل 2022، حيث اتهمت باكستان في بيان صادر عن خارجيتها في 16 إبريل حكومة طالبان الأفغانية بأنها سمحت لتنظيم طالبان باكستان الإرهابي بأن يشن عمليات من أراضيها داخل باكستان، وأنها سبق أن طلبت منها عدة مرات اتخاذ موقف حازم من هذا التنظيم. وقد تزامن مع هذا البيان أن وجهت باكستان ضربة عسكرية داخل الأراضي الأفغانية في إقليمي خوست (Khost) وكونار (Kunar)، أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين حسب كابول، وكان رد فعل حكومة طالبان بتصريحات حادة منتقِدة هذه الضربات العسكرية ووصفتها بأنها عمل وحشي، كما حذر المتحدث الرسمي باسم طالبان من أن ذلك يمهد للعداوة بين البلدين، وأن على باكستان أن تعلم أنه في حالة قيام حرب فإنها ليست في صالح أي طرف.
وقد نبه هذا التوتر الدولتين لخطورة استمراره والتصعيد بينهما، لأنه يضر بكل منهما، فقد أدركت حكومة طالبان أفغانستان أن استمرار العمليات التي تقوم بها عناصر طالبان باكستان من أراضيها، يقوض التزامها أمام المجتمع الدولي، وفي الاتفاق التي وقعته مع الولايات المتحدة، بعدم السماح بأي عمليات إرهابية من أراضيها ضد أي دولة، ويؤكد شكوك الغرب وعدم ثقته فيها، ويدعم رغبته في عزلتها، واستمرار عدم شرعيتها وعدم الاعتراف الدولي بها، خاصة حينما يأتي الاتهام من أقرب حلفائها، والمدافعين عنها، والذي كان يطالب دائمًا المجتمع الدولي بالاعتراف بها، وهو جارتها وربيبتها باكستان، وفي نفس الوقت، فقد وجدت نفسها لا تريد أن تتصادم مع رفقاء السلاح وشركاء الفكر وأخوة القبيلة، وبالتالي فإن خيار المفاوضات بين إسلام آباد وTTP كان الحل الأمثل بالنسبة لها.
أما باكستان، فقد أدركت أن استمرار التوتر مع جارتها أفغانستان قد يؤدي إلى أن تفقد مصالحها الكبرى في هذه الجارة لصالح آخرين من بينهم الهند، بعد كل التضحيات والخسائر التي تحملتها من آلاف الضحايا ومليارات الدولارات، واستقبالها نحو ثلاثة ملايين لاجئ أفغاني على أراضيها على مدى أربعة عقود، ومحاولاتها المستمرة منذ 75 عامًا أن تضمن وجود حكومة صديقة في كابول وليست عدوة، وبالتالي وجدت أملا في أن يؤدي التفاوض إلى أن تكون العلاقات مع حكومة أفغانستان في الوقت الحالي مشابهة لطبيعة العلاقات في فترة طالبان الأولى (من 1996 إلى 2001)، التي كانت الفترة الوحيدة في تاريخ علاقات البلدين التي شهدت تقاربًا عميقًا، خاصة وأن باكستان وأجهزتها الأمنية هي من ساعدت طالبان في أن تتولى الحكم في هذه الفترة السابقة في أجواء الحرب الأهلية بين قادة المجاهدين بعد انسحاب القوات السوفييتية، كما تستهدف إسلام اباد من التفاوض تحقيق قدر من الهدوء والسلام خاصة في منطقة القبائل.
أما طالبان باكستان، فلم يكن أمامها سوى الرضوخ لضغوط كابول، وبالتالي عرضت عدة مطالب خلال التفاوض تسرب بعضها للإعلام منها، الإفراج عن بعض قادتها، وعودة بعضهم من أفغانستان لباكستان بكامل أسلحتهم دون تعرض، والمطالبة بتقليص التواجد الأمني والعسكري في منطقة القبائل، كما تطالب بإلغاء النص الدستوري الذي تم وضعه عام 2018 بضم منطقة القبائل لإقليم خيبر باختون خوا، أي عودة الوضع لما كان عليه قبل هذا التعديل من الناحية القانونية، والحد من التواجد السياسي والأمني للحكومة الفدرالية، إضافة الى مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه المفاوضات ليست هى الأولى من نوعها بين طالبان باكستان وإسلام آباد، فقد سبق أن قامت معظم حكومات باكستان على مدى العشرين عامًا الماضية بمفاوضات مع طالبان باكستان والوصول إلى بعض التفاهمات، ثم سرعان ما تفشل فتستأنف طالبان باكستان عملياتها الإرهابية، وتستأنف القوات الأمنية ملاحقتها وتوجيه ضربات لها، وكان من أمثلة ذلك ما قامت به حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان في أكتوبر 2021 من مفاوضات مماثلة مع طالبان باكستان، وكانت كذلك برعاية طالبان أفغانستان وتمت على أراضيها، وتوصل الطرفان لهدنة لمدة شهر انتهت في 10 ديسمبر 2021، ثم فشلت وانقطعت المفاوضات.
وفي ضوء ما سبق، فإن نتائج هذه المفاوضات سلبًا وإيجابًا، ستكون محل اهتمام المجتمع الدولي ككل، بالنظر لأهمية هذه المنطقة وتاريخها الذى أثبت انتقال ما يحدث فيها دائمًا إلى خارج حدودها و تأثيره على العالم أجمع.