د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

انتهت المفاوضات غير المباشرة، برعاية أوروبية، بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية التي عقدت في الدوحة بدون تحقيق نتائج إيجابية. ومع ذلك، فإن تحقيق نتائج إيجابية ربما لا يكون الهدف الأهم بالنسبة لإيران، التي اختارت عقد الجولة الأخيرة في الدوحة لحسابات جديدة خاصة بها ترتبط بزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمنطقة الشرق الأوسط في منتصف يوليو القادم، ومحاولة توسيع هامش الخلافات مجدداً بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وتجنب تحمل المسئولية عن فشل المفاوضات.

وكان المنسق الأوروبي الخاص بالمفاوضات النووية انريكي مورا قد أعلن، في 29 يونيو الجاري (2022)، أن المفاوضات غير المباشرة التي أجريت بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في الدوحة يومى 28 و29 يونيو الجاري، انتهت دون الوصول إلى نتائج إيجابية. إذ قال أنه "لسوء الحظ، لم يتحقق بعد التقدم الذي كان يأمله فريق الاتحاد الأوروبي كمنسق. سنواصل العمل بجهد أكبر لإحياء اتفاق رئيسي لمنع الانتشار ودعم الاستقرار الإقليمي".

لكن اللافت في هذا السياق، هو أن إيران عارضت هذه التصريحات، حيث وجهت رسائل عديدة بأن "جولة الدوحة" لن تكون الأخيرة، وأنها لم تتوقع من البداية الوصول إلى نتائج إيجابية، وأكد مستشار وفد التفاوض محمد مرندي أن "المفاوضات في الدوحة لم تفشل وستستمر".

دوافع عديدة

يمكن تفسير حرص إيران على اختيار الدوحة كمقر لعقد الجولة الجديدة من المفاوضات، وعدم تعويلها بشكل كبير على نتائج هذه الجولة في ضوء دوافع عديدة، يتمثل أبرزها في:

1- تأكيد صعوبة صياغة الترتيبات الأمنية الجديدة: لا يمكن فصل حرص طهران على نقل المفاوضات من فيينا إلى الدوحة، عن الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة في الفترة من 13 إلى 16 يوليو القادم، والتي ترى طهران أنها تتوازى مع مساعٍ تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وقوى إقليمية من أجل تشكيل تحالف أمني مناوئ لها في المنطقة. وهنا، فإن إيران ارتأت عقد الجولة الأخيرة من المفاوضات في قطر تحديداً لتأكيد أن هناك صعوبات وإشكاليات عديدة تواجه جهود تشكيل هذا التحالف، يتصل أهمها بأن علاقاتها قوية مع بعض الدول المرشحة لهذا التحالف، لا سيما قطر، التي تحولت إلى وسيط رئيسي في المفاوضات، وربما يكون لها دور أكبر في الجولات القادمة- إن عقدت- للوصول إلى صفقة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي.

2- التلميح إلى إمكانية إجراء محادثات مباشرة: كان لافتاً أن الجولة الأخيرة من المحادثات جرت على نحو ضيق مقارنة بجولات التفاوض التي كانت تجري في فيينا بداية من أبريل 2021، والتي ضمت أطرافاً أخرى مثل الدول الأوروبية وروسيا والصين، في حين اقتصرت جولة التفاوض في الدوحة على الوفدين الأمريكي والإيراني إلى جانب المنسق الأوروبي بشأن المفاوضات إنريكي مورا. وهنا، يمكن القول إن المسار الحالي للتفاوض جاء على نحو معاكس لما حدث في عام 2015، حيث بدأت الصفقة الأولى بعقد جولات تفاوض ثنائية وسرية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية تحولت فيما بعد إلى مفاوضات متعددة الأطراف وانتهت بالإعلان عن ما يسمى بخطة العمل المشتركة "الاتفاق النووي" أو "برجام" كما تتداوله وسائل الإعلام الإيرانية. في حين أن المفاوضات الحالية بدأت بمباحثات متعددة الأطراف تحولت إلى مباحثات ثنائية، وإن كانت علنية وغير مباشرة.

وهنا، فإن هذه المحادثات العلنية وغير المباشرة يمكن أن تمثل تطوراً في استراتيجية التفاوض الإيرانية، حيث كانت طهران ترفض من البداية الانخراط في مفاوضات جديدة مع واشنطن، ثم انخرطت في تلك المفاوضات المتعددة الأطراف وقبلت في النهاية عقد جولات ثنائية برعاية أوروبية في الدوحة. ويعني ذلك في المقام الأول أن إيران قد توافق، في مرحلة لاحقة، على عقد جولات مباحثات ثنائية مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، سواء كانت علنية أو سرية. وسبق أن أكد المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي أكثر من مرة، بأن "إيران تتفاوض مع الشيطان لدرء شره".  

3- توسيع نطاق الخلافات الأوروبية-الأمريكية: سعت إيران عبر الجولة الجديدة من المفاوضات في الدوحة إلى توسيع نطاق الخلافات مجدداً بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. إذ اعتبرت إيران أن نجاح إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في تقليص حدة الخلافات مع الحلفاء الأوروبيين خلال الفترة الماضية وضعها أمام خيارات محدودة وساهم في تضييق هامش الحركة وحرية المناورة المتاحة أمامها على الساحة الدولية. ورغم أن السياسة التي تبناها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تجاه إيران، ولا سيما ما يتعلق بفرض ما يسمى بـ"الضغوط القصوى" عليها فرضت تداعيات قوية على الاقتصاد الإيراني، إلا أن إحدى نتائجها تمثلت في تفاقم الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، على نحو سعت إيران إلى استثماره في المرحلة الماضية.

وهنا، فإن إيران تحاول مرة أخرى تعزيز فرص توسيع نطاق التباين بين الطرفين، على نحو بدا جلياً في تصريحات محمد مرندي، في 29 يونيو الجاري، التي قال فيها :"إن الأوروبيين اليوم أكثر اهتماماً بإيران، لأنهم بحاجة إلى نفطها، بسبب الحرب في أوكرانيا"، مشدداً على "ضرورة رفع العقوبات لكي نتمكن من تطبيق الاتفاق النووي من جديد". وأضاف أن "الضغط الأوروبي ينمو لحث الأمريكيين على القيام بخطوات جدية". وبد لافتاً أن وسائل الإعلام الإيرانية حرصت على ترويج مزاعم حول انتقادات أوروبية للموقف الأمريكي في المحادثات الأخيرة في الدوحة، والتي لم تساعد، في رؤيتها، في تعزيز فرص تسوية الخلافات، ومن ثم الوصول إلى صفقة جديدة تدعم فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي.

4- الرد على الانتقادات الموجهة للسياسة الإيرانية في المفاوضات: يبدو أن اختيار الدوحة تحديداً لتكون مقراً لانعقاد الجولة الأخيرة من المفاوضات لا ينفصل عن محاولة إيران الرد على الانتقادات التي وجهتها قوى إقليمية عديدة للمفاوضات النووية. فقد أشارت بعض هذه القوى إلى أن المفاوضات تجري حصراً بين إيران والقوى الدولية ولا تشمل دول المنطقة، رغم أنه من المفترض أن الأخيرة تكون طرفاً رئيسياً فيها، باعتبار أن التداعيات المحتملة لهذه المفاوضات، سواء نجحت أو فشلت، سوف تنعكس على المنطقة بشكل مباشر قبل أن تصل ارتداداتها حتى إلى القوى الدولية المشاركة فيها.

وقد ردت إيران على ذلك أكثر من مرة بتأكيد أنه لا داعي لإشراك أطراف جديدة في المفاوضات، وأنها تستعيض عن ذلك باستمرار التنسيق مع بعض دول الجوار، والتشاور معها بشأن تطورات تلك المفاوضات والملفات التي يجري التفاوض حولها. وكان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قد أكد، في 24 يناير الماضي، على أن "إيران لا ترحب بفكرة إضافة أعضاء جدد إلى المفاوضات"، مشيراً إلى أن إيران "تُبقى جيرانها على اطلاع بالقضايا".

وهنا، فإن عقد الجولة الأخيرة في الدوحة يعني أنها تريد إضفاء وجاهة خاصة على موقفها، والإشارة إلى أنها لا تتعمد إقصاء دول المنطقة عن التفاهمات التي يجري العمل على التوصل إليها بشأن الملف النووي، بل إنها تسمح لها بدور في تسهيل وتعزيز فرص الوصول إلى صفقة جديدة.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران تعتبر أن النتيجة الإيجابية التي انتهت إليها مفاوضات الدوحة لا تتمثل في الوصول إلى حلول وسط للخلافات العالقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما حول مطلب شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، وإنما تتصل بتوجيه رسائل مباشرة إلى العديد من القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري في هذه المفاوضات وما يمكن أن يترتب عليها من معطيات جديدة سوف تفرض انعكاسات مباشرة على الاستقرار والأمن الإقليمي في المرحلة القادمة.