مع زيارة الرئيس الأمريكى جو بايدن السعودية فى منتصف يوليو المقبل، تكون علاقات البلدين قد اقتربت من محطة استقرار جديدة، بعدما تعرضت لإشكاليات كادت أن تتحول على إثرها إلى مسار آخر؛ فمنذ تولى الرئيس بايدن فى يناير 2021 اتسمت علاقات البلدين بالتوتر؛ واتخذ خطوات سلبية عديدة ضد المملكة، أهمها تقليص صادرات السلاح، وسحب بعض بطاريات صواريخ باترويت. وبشكل عام، تراجع اهتمام بايدن بالأمن الوطنى السعودى، رغم هجمات الصواريخ والدرون الحوثية، بل تراجع عن قرار سلفه دونالد ترامب باعتبار الحوثيين جماعة إرهابية.
وكانت للمملكة مواقفها المقابلة؛ فلم تستسلم لهذه التوجه، بل شرعت فى اتجاهات مختلفة لكسره، عبر ثلاثة مسارات: الأول، التحرك على الساحة الأمريكية الداخلية لدفع الرئيس بايدن إلى تغيير مواقفه. والثانى، تعزيز العلاقات مع روسيا والصين. والثالث، السعى لتسكين الأزمات وبناء تحالف إقليمى يشكل بديلاً عن تراجع الضمانة الأمنية الأمريكية.
فقد عملت المملكة على التأثير على مواقف الحزب الديمقراطى الأمريكى، وتعزيز وجهة نظر مؤيدة لها من داخل الأوساط الحزبية، برزت نتائجها تالياً فى بعض الكتابات الأمريكية المؤيدة لعودة العلاقات إلى سابق عهدها، بالأخص بعد صلابة المملكة فى مواجهة الضغوط الأمريكية لزيادة صادرات النفط، كما احتفظت فى الوقت نفسه بعلاقاتها مع الحزب الجمهورى وعناصر من إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب (خاصة صهر الرئيس جاريد كوشنر).
وفيما يتعلق بتعزيز العلاقات مع كل من الصين وروسيا، فقد كان ذلك توجهاً خليجياً عاماً سابقاً على إدارة بايدن، لكن جرى إعادة تفعيله بعد قدومها. وبعد ثمانى سنوات على انعقاد الجولة الثالثة للحوار الاستراتيجى الخليجي- الصينى عام 2014، وخلال زيارة أمين عام مجلس التعاون الخليجى للصين فى يناير 2022 أصدرت وزارة الخارجية الصينية ومجلس التعاون الخليجى بياناً مشتركاً، اتفقا فيه على أن الظروف اللازمة لإقامة شراكة استراتيجية بين الصين ودول المجلس باتت ناضجة، وأنهما سيعملان معاً على استكمال المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بينهما، والتوقيع على خطة العمل المشتركة للحوار الاستراتيجى للفترة (2022- 2025) فى أسرع وقت ممكن، وعقد الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجى بين الصين والمجلس فى العاصمة السعودية فى الوقت المناسب.
كما انطلق الحوار الاسترتيجى الخليجي-الروسى الخامس فى الأول من يونيو 2022 فى الرياض، بحضور وزير الخارجية سيرجى لافروف فى ظل ذروة الحرب فى أوكرانيا، وبعد مرور 6 سنوات على آخر جولة للحوار الاستراتيجى بين روسيا ودول المجلس عام 2016. وعلى الرغم من أنه لم يصدر بيان مشترك عن الاجتماع، إلا أن مجرد انعقاد الحوار الاستراتيجى مع روسيا -فى ظل ذروة الأزمة والحرب- أكد سعى الموقف الخليجى للضغط على الحليف الأمريكى.
مع ذلك، فلم يكن التوجه الخليجى لتعزيز العلاقات مع روسيا والصين من منطلق عدائى ضد الولايات المتحدة، ولكن من منطلق فهم واقعى وبراجماتى لتوازنات العالم والأقطاب الصاعدة فيه. وكانت للسعودية القدرة على الذهاب فى هذا المسار إلى مديات أبعد، وعلى الأرجح أنها سوف تستمر فى هذا المسار، حتى بعد زيارة الرئيس الأمريكى.
وفى السياق الإقليمى، اتجهت السعودية إلى تسكين الأزمات وإفساح المجال أكثر للمسار الدبلوماسى، على نحو ما برز فى قمة العلا فى يناير 2021 لتسوية الأزمة مع قطر، وتهدئة العلاقات مع تركيا بزيارة الرئيس التركى إلى المملكة فى أواخر أبريل 2022، وجولات المحادثات الدبلوماسية مع إيران، وتهدئة الأوضاع فى اليمن (بتعزيز المسار الدبلوماسى لحل الأزمة، سواء من خلال دعم مجلس القيادة الجماعى، أو بالهدنات المتتالية مع الحوثيين، والمحادثات عبر قنوات خلفية معهم).
هكذا، تأتى زيارة الرئيس بايدن السعودية فى ظل تحولات كبيرة فى السياسة الإقليمية والدولية للسعودية، وفى ظل بيئة استقرار وتراجع للاشتباكات العسكرية. فهل يشكل ذلك أساساً لبناء تحالف أمنى ودفاعى جديد بين الولايات المتحدة والسعودية وعودة الضمانة الأمنية الأمريكية؟
قد لا تشير التحولات الراهنة إلى تحالف مستقبلى مستدام على غرار التحالف السابق، فقد جاءت تحولات إدارة بايدن نحو المملكة فى ظل الأزمة الأوكرانية وتبعاتها على سوق النفط العالمى، وأزمة أسعار الوقود داخل الولايات المتحدة وما تفرضه من مخاطر على مستقبل إدارة بايدن، كما جاءت التحولات فى سياق أكبر عملية من الشد والجذب بين الجانبين استمرت لأشهر طويلة.
وسوف يتوقف مستقبل العلاقات على مضمون الصفقة أو التوافقات خلال الأشهر الماضية، والتى سوف تخرج إلى العلن بعد إتمام الزيارة، التى تتمثل عناوينها الرئيسية في: تدفقات النفط إلى السوق الدولى، والملف الإيرانى، وملف التطبيع مع إسرائيل، والحرب الأوكرانية، والضمانات الأمريكية بشأن أمن الخليج، فضلاً عن بنود أخرى قد تكون أقل أهمية. هذه القضايا جميعها تضع أعباءً هائلة على مضمون العلاقات، التى كانت تتأسس فى السابق على معادلة بسيطة للمصالح المحددة بالعلاقات المباشرة بين الطرفين، وليست مرتبطة بقضايا دولية متشعبة، يمثل كل بند فيها إشكالية كبرى.
ويبدو أن أحد الأبعاد الجديدة فى العلاقات الخليجية- الأمريكية، يتمثل فى أن هذه العلاقات لم تعد من المسلمات، وإنما أصبحت بنداً يحتاج لتأكيد أهميته لدى كل إدارة جديدة، ويمر بـ»دورة إثبات» مع كل قادم جديد إلى البيت الأبيض، وما أن تتوصل دول الخليج إلى قناعات ثابتة بشأنه مع هذه الإدارة حتى تأتى إدارة جديدة، تحتاج لدورة إثبات أخرى.
ومن ثم، أصبحت هذه العلاقات تحتاج إلى الاجتهاد لأجل استمرار تأكيدها فى قناعات المسئولين، والمستويات الأدنى فى كل إدارة، وليس الرئيس الأمريكى وحده، بعد أن أصبحت أفكار ومشاورات المستويات الأدنى هى العنصر الأولى والأساسى لتأكيد القناعة الأولى التى يفترض أنها مسلم بها بشأن أهمية الخليج للولايات المتحدة، ويبدو أنها أصبحت قضية بيروقراطية، تخضع لكل علل البيروقراطية ومشكلاتها.
ذلك هو أخطر ما يهدد مستقبل العلاقة، وهى أنها لم يعد يحركها المبدأ العام والعقيدة المسبقة، ولم تعد محكومة بمفهوم أو مضمون أمنى ودفاعى مركزى، يمكن من التنبؤ بنمط مستقبلى للسلوك الأمريكى تجاه دول الخليج، وإنما ضمانة غير مستقرة، تحركها القناعة المرفقة بالدليل، وبحسب الحاجة والظروف.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 23 يونيو 2022.