السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

عندما تولت كوريا الشمالية رئاسة مؤتمر نزع السلاح في جنيف منذ ثلاثة أسابيع ثارت ثائرة الكثير من الدول والمنظمات غير الحكومية، حيث أصدرت مجموعة كبيرة من الدول بياناً يندد بالأمر، وشرعت في تخفيض مستوى تمثيلها، بينما كانت المنظمات غير الحكومية تدعو إلى مقاطعة الاجتماعات. المبررات التي سيقت في هذا الإطار تطرح الكثير من التساؤلات أكثر مما تقدم من إجابات على ثلاث مستويات. أولها ما يتعلق بالدولة التي تولت الرئاسة وما أثاره ذلك من ردود فعل. وثانيها يتصل بالدول التي انزعجت من ذلك. وثالثها يرتبط بتلك الهيئة الدولية متعددة الأطراف المعنية بنزع التسلح ذاتها.

كوريا الشمالية التي تولت رئاسة مؤتمر نزع السلاح في الفترة من 30 مايو الماضي (2022)، وتستمر حتى 24 يونيو الحالي، من الدول التي امتلكت السلاح النووي بالمخالفة لأحكام اتفاقية منع الانتشار النووي. إذ أجرت حتى العام 2017 ست تجارب نووية. وفي الوقت الراهن هناك مؤشرات وتكهنات كثيرة حول استعدادها لإجراء تجربة نووية سابعة. كما أن لديها برنامج لتطوير الصواريخ، بما في ذلك الصواريخ طويلة المدى والعابرة للقارات، وتلك التي تطلق من الغواصات. ومنذ بداية العام 2022 أجرت ثمانية عشرة تجربة إطلاق للصواريخ، بعضها كان متعدداً. وكانت هناك محاولة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها لاستصدار قرار إدانة جديد من مجلس الأمن ضد بيونج يانج على خلفية ذلك. لكن الفيتو الصيني والروسي حال دون إصدار القرار. الولايات المتحدة من جانبها أضافت عقوبات جديدة أحادية على كوريا الشمالية.

هناك ترسانة كبيرة من البنود التي تضمنتها الكثير من قرارات مجلس الأمن بالنسبة للعقوبات المفروضة عليها، إضافة إلى العقوبات الأحادية المفروضة من قبل دول أخرى مثل الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية.

كوريا الشمالية التي قال مندوبها إلى مؤتمر نزع السلاح إن بلاده ما زالت في حالة حرب مع الولايات المتحدة، دائماً ما تؤكد على أن ما تقوم به على صعيد دعم قدراتها العسكرية، بما في ذلك القدرات غير التقليدية يقع ضمن حقوقها الطبيعية والمشروعة، سعياً لحماية مصالحها وأمنها القومي، ووجودها. فهي ترى أن ذلك تتهدده الولايات المتحدة التي تناصبها العداء، وتقوم بكل ما من شأنه الإضرار بها. وتعدد في ذلك مؤشرات من بينها القوات الأمريكية المرابضة في الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية، وتكديس الأسلحة في المنطقة، والتدريبات العسكرية المكثفة التي تجريها. من ثم فإن كوريا الشمالية تعد كل ذلك على أنه استهداف لها، وتضيف إليه قرارات فرض العقوبات، ليس فقط الأحادية، بل وتلك التي تصدر عن مجلس الأمن.

إذا كانت كوريا الشمالية قد انسحبت من اتفاقية منع الانتشار النووي، وأجرت ذلك العدد من التجارب النووية، ولا تقيم وزناً لقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة وبعد كل ذلك تتولى رئاسة الهيئة الدولية المعنية بنزع السلاح في العالم يصبح طرح السؤال حول كيفية حدوث ذلك مسألة بديهية. كما يصبح من المهم مناقشة ما طرحته الدول المعترضة وما تقوم به في الوقت ذاته بالنسبة لقضايا نزع التسلح.

سياسة مزدوجة

ثمانية وأربعون دولة أصدرت بياناً نددت فيه بتولي كوريا الشمالية رئاسة مؤتمر نزع السلاح، وعددت فيه سلوكيات بيونج يانج التي تراها متعارضة مع الأهداف التي يرمي المؤتمر إلى تحقيقها، والتي ذكر بعضها للتو. فما الذي صنعته تلك الدول من أجل تحقيق تلك الأهداف؟.

من ضمن الدول التي أصدرت البيان دول نووية طبقاً لمعاهدة منع الانتشار. تلك الدول مطالبة طبقاً للاتفاقية بالعمل على التخلص مما لديها من ترسانات نووية. فما الذي تم على هذا الصعيد؟. ربما تكون قد قامت بتخفيض عدد الرؤوس النووية لديها بالفعل، لكنها حرصت على استمرار عدد كبير وكبير جداً وتبلغ قدرته التدميرية مدى قد تفنى معه البشرية إذا تم استخدامه. ليس هذا فحسب بل إنها تعمل جاهدة على رصد الميزانيات الضخمة لتطوير تلك الترسانات، عبر إنتاج أسلحة نووية نوعية وتكتيكية في الوقت ذاته. أي أن منطق الاستخدام الفعلي لتلك الأسلحة لم يتم إسقاطه. لا يقف الأمر على الدول المعترضة على رئاسة كوريا الشمالية أو الساعية لفرض عقوبات إضافية عليها، وإنما ينسحب إلى قوى أخرى مواقفها لا تستقيم مع مواقف الشريحة الأولى، وهي تمتلك السلاح النووي أيضا. ويكفي هنا الإشارة إلى ثلاثة أمور: أولها يتمثل في الجدل الدائر بين الولايات المتحدة والصين حول الترسانة النووية لكل منهما، وما يطرح حول الزيادات الكمية والنوعية فيها، ناهيك عما يطرح بخصوص الشفافية. وثانيها يرتبط بالحالة الروسية-الأوكرانية، وما صاحبها من رفع روسيا حالة التأهب النووي لديها، والإشارة إلى هذه القضية أكثر من مرة. وهذه قضية لها دلالات كثيرة، وهي موجهة للولايات المتحدة والغرب أكثر من توجيهها لأوكرانيا. الأخيرة أيضاً لم تخف ما يمكن اعتباره ندماً على تخليها عما كان لديها من سلاح نووي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، خاصة وأنه لم يتم الالتزام ببنود مذكرة الضمانات التي وقعت بهذا الخصوص، وكان من بين الضامنين روسيا. وثالثها يتعلق بما أظهره تقرير معهد ستكهولم للسلام الأحدث حول مستقبل الترسانات النووية في العالم، والذي توقع زيادة تلك الترسانات في المستقبل على ضوء التطورات الاستراتيجية في العالم والتفاعلات فيما بين القوى الكبرى. والواقع أن هذا ربما يكون واضحاً على ضوء التوترات الآخذة في التزايد على خلفية ما يحدث بين روسيا والغرب من ناحية، وما يحدث بين الولايات المتحدة والصين من ناحية أخرى في الظرف الراهن. لكن كانت هناك مؤشرات قبل ذلك تُنبئ بما توصل إليه معهد ستكهولهم. فالأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش ومنذ حوالي ثلاث سنوات أعرب عن التخوف من أن يأخذ تخفيض الأسلحة النووية اتجاهاً معاكساً، وأرجع ذلك إلى طبيعة العلاقات بين القوى النووية ومستوى الثقة الذي وصلت إليه، إذ أنه وصفها بأنها "غارقة في عدم الثقة"، لا سيما وأن ذلك قد اقترن بتزايد الخطاب المتعلق بفائدة الأسلحة النووية، وهو ما اعتبره أمراً خطيراً. وبالعودة إلى ما ذكره معهد ستكهولهم من أرقام حول السلاح النووي في العالم، فقد أشار إلى وجود 12705 رأس نووي في العالم حوالي تسعون بالمائة منها لدى الولايات المتحدة وروسيا.

إذن فالدول النووية ماضية في دعم ترساناتها وليس تخفيضها، والدول المالكة للسلاح النووي خارج نطاق اتفاقية منع الانتشار لا توجد أي مؤشرات على إقدامها على السير في طريق التخلي عما تمتلكه، بل قد تسعى هي الأخرى لزيادة ما لديها كماً ونوعاً، كما تفعل كوريا الشمالية عياناً جهاراً. والأخطر من ذلك أنه بدأت تسمع أصوات في دول غير نووية حول أهمية امتلاك السلاح النووي باعتباره رادعاً مهماً وأساسياً. كل هذه العوامل تجعل النظام الدولي لمنع الانتشار النووي كله موضع تساؤل، وتنذر بما يمكن تسميته بالفوضى النووية.

بالنسبة لمؤتمر نزع السلاح في ظل هذه البيئة، فإنه بات في وضع التجميد الذي يقترب من الشلل. فكيف له أن ينجز وتلك هي حال العلاقات بين الدول الأعضاء وعلى رأسها القوى الكبرى. ولقد قالها الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق بان كي مون وهو يخاطب مؤتمر نزع السلاح في شهر أكتوبر من العام 2011: "لقد شلت هذه الهيئة الحيوية لفترة طويلة جداً بسبب تعدد الأولويات". ليس فقط تعدد الأولويات ما أشار إليه المسئول الدولي السابق وإنما تحدث عن ضآلة مستوى الشفافية بالنسبة للأسلحة النووية وسبل إيصالها. فقد قال في هذا السياق: "نحن في حاجة إلى تحسن كبير في الشفافية، فالمعروف عن المخزون الحالي من الأسلحة والمواد الانشطارية ومنظومات إيصاله قليل جداً". وبعد ثلاث سنوات تحدث بان كي مون مرة أخرى لمؤتمر نزع السلاح مؤكداً على أن حالة الجمود في عمله ما زالت قائمة. هذا الجمود كان قد تحدث عنه كوفي عنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة أيضاً في العام 2006، مطالباً أعضاء المؤتمر بضرورة "دراسة العناصر السياسية للمشكلة واتخاذ قرارات عملية وواقعية". ويكفي أن نعرف أن المؤتمر قد استمر لسنوات غير قادر على الاتفاق على جدول الأعمال. والسبب الرئيسي لذلك هو الاختلاف حو طريقة  تناول قضايا التسلح النووي.

حالة الجمود أو الشلل التي فيها مؤتمر نزع السلاح ممتدة بحسب الكثيرين منذ العام 1996 عندما تم التوصل إلى اتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية. فهل كانت كوريا الشمالية ترأس المؤتمر طوال هذه السنوات ومن ثم تعطل عمله؟.

إن تولِّى رئاسة المؤتمر مسألة آلية ميكانيكية طبقاً للطريقة التي وضعت لاختيار من يرأس المؤتمر. إذ لا يوجد انتخاب، وإنما هناك مداورة، وبحسب الترتيب الأبجدي طبقاً للغة الإنجليزية. أي أن كوريا الشمالية التي تولت مؤخراً الرئاسة لمدة شهر قد تولت الرئاسة من قبل، ويمكنها أن تتولاها بعد ذلك دون أن يتمكن أحد من الحيلولة دون حدوث ذلك.

الأكثر من ذلك: هل تملك الدولة التي تتولى رئاسة المؤتمر تحديد جدول الأعمال، أو التأثير على إصدار أو عدم إصدار قرارات من المؤتمر؟. في الواقع هذا يمكن أن تقوم به أي دولة عضو في المؤتمر. فطبقاً لآلية اتخاذ القرار والقائمة على التوافق، فإنه يمكن لأي عضو أن يعطل صدور قرار بعينه. وقد عد الكثيرون ممن درسوا القضايا المتعلقة بمؤتمر نزع السلاح تلك المسألة من الأمور التي تسهم في تعطيل عمله. ويمكن القول أنها تقترب من مسألة استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. لكن هل يمكن تغيير هذه القاعدة؟ وهل ستقبل الدول الأعضاء في المؤتمر بمثل هذا التغيير؟.

عقلية الحرب الباردة

في السياق ذاته، يشير الدارسون إلى أن الأمر مرتبط بعقلية الحرب الباردة التي حكمت تشكيل مؤتمر نزع السلاح، وهي التي ما زالت تحكم عمله، رغم وجود تغيرات كثيرة قد حدثت في العالم في العقود الثلاثة الماضية. لكن يلاحظ هنا أن كلاً من الصين وروسيا تتهمان الولايات المتحدة بالعودة إلى التصرف طبقاً لعقلية الحرب الباردة.

الحال الذي صار إليه مؤتمر نزع السلاح دفع البعض إلى المطالبة بإيجاد آليات بديلة له. لكن هل ثمة ضمانات لأن تكون الآليات الجديدة أكثر فعالية؟. المسألة لا ترتبط بهذه الآلية أو تلك، وببعض الجوانب الإجرائية هنا وهناك، بما في ذلك نوعية الدول التي تتولى الرئاسة، وإنما تتصل بإرادة سياسية لابد من توفرها لكي يكون هناك تقدم حقيقي باتجاه نزع التسلح، وعلى وجه الخصوص السلاح النووي. ولابد أن تكون تلك الإرادة متوفرة لدى القوى الخمس النووية مجتمعة. ولا يكفي أن تصدر بيانات بخصوص تقليل احتمالات الحرب النووية، بينما التصرفات تدفع باتجاه المزيد من التوتر النووي فيما بينها. فلم يعد هناك مفر من ضرورة التخلص من السلاح النووي. وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش مؤخراً: "دعونا نقضي على هذه الأسلحة قبل أن تقضي علينا ... في عالم تسوده التوترات الجيوسياسية وانعدام الثقة، هذه وصفة للإبادة".