آمنة فايد

باحثة مشاركة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

في ظل تصاعد الآمال بقرب خروج العالم من حَجْر جائحة كوفيد–19، يحل بالبشرية تهديد جديد يشنه فيروس "جدري القرود"، وهو فيروس نادر تشبه أعراضه الجدري، اكتشف عام 1958 لانتشار العدوى بين القرود، وتم تسجيل أول حالة إصابة بشرية به عام 1970 في جمهورية الكونغو الديمقراطية. ومنذ ذلك الوقت انتشر المرض في بلدان أخرى عديدة وسط وغرب أفريقيا، وتراوحت نسبة الوفيات بين إصابات الفيروس غالبًا ما بين 1% بالنسبة لسلالة غرب أفريقيا، و10% بالنسبة لسلالة الكونغو[1].

وبينما سُجلت أول حالة إصابة من خارج أفريقيا عام 2003 في الولايات المتحدة الأمريكية، انطلقت في الأسابيع القليلة الماضية، موجة جديدة من تهديدات الفيروس بإصابة المئات في العديد من الدول الغربية والشرق أوسطية، والتي اعتبرت إصابات غير نمطية لكونها خارج موطن الفيروس الأصلي، أفريقيا، ما أدى لوجود مخاوف من تطور وتحور الفيروس.

فعلى الرغم من استبعاد منظمة الصحة العالمية لمخاوف تكرار سيناريو جائحة كوفيد–19، وتأكيدها في أكثر من مناسبة، على ثقتها في إمكانية الحد من انتشار الفيروس بين البشر في البلدان التي لا تعتبر موطنًا له كالدول الأفريقية، مُشددة في إطار ذلك على أهمية الاكتشاف المُبكر للإصابات، لاتخاذ الإجراءات العلاجية والوقائية اللازمة، ومؤكدة على ثبوت فعالية لقاح الجدري في الحد من أعراض وانتشار عدوى جدري القرود،[2] إلا أن حالة من القلق قد أصابت الحكومات والشعوب، خوفًا من تكرار مأسآة جائحة كوفيد–19، التي لم يتعافى العالم بعد من تداعياتها الإنسانية، والاقتصادية، والسياسية.

بل إن المنظمة نفسها عادت وأكدت- بعد أن أبلغت بتجاوز إصابات الجدري التي أبلغت بها حاجز الـ1000 إصابة خارج الدول الأفريقية- في 9 يونيو الجاري (2022)، أن خطر توطن جدري القرود في البلدان التي لم يكن ينتشر فيها من قبل هو خطر حقيقي[3].

مُؤثِّرات عديدة

إن انتشار الأوبئة بشكل عام يؤدي لموجات من الخوف الفردي والجماعي، تؤثر بدورها على أنماط تفكير، واستجابة الأفراد والجماعات لتلك الأوبئة، بما ينعكس على صحتهم النفسية، وسلوكياتهم العامة في ظل الجائحة، وهو ما يُطلق عليه "سيكولوجيا الأوبئة"، حيث يقول جوسلين رود، صاحب أطروحة "ديناميكية إدراك المخاطر في ظل انتشار الوباء": "ما لاحظه علماء الأوبئة الأوائل في القرن الـ19، أنه ليس هناك بالضرورة علاقة مُتناسبة بين عدد الوفيات والخوف الناجم عن المرض. الأمراض الجديدة التي تظهر بشكل دوري تُثير الكثير من القلق حتى لو كان عدد ضحاياها قليل"[4].

وانطلاقًا من هذا الأساس يمكن تناول أبرز الظواهر والتحديات التي تؤثر بشكل كبير على المجتمعات؛ أفرادًا وجماعات، وتتحكم في تشكيل أنماط سلوكهم في ظل تفشي الأوبئة والأمراض، وذلك على النحو التالي:

1- المعلومات المُضلِلة: وتأتي هذه المعلومات نتيجة عدة أسباب، لعل أبرزها وأهمها عدم الدقة والشفافية في تداول المعلومات المُتاحة بشأن الأوبئة عند بدء ظهورها وانتشارها، سواء فيما يخص أسباب ظهورها، أو وسائل علاجها، أو إجراءات الوقاية منها، وهو الأمر الذي يُفسح المجال لانتشار الاجتهادات، والإشاعات والمعلومات الخاطئة، المُضللة التي يختلقها الأفراد والمجموعات، وكذلك الدول وبعض الجهات، وفقًا لتصوراتهم، ومصالحهم، ورؤيتهم الخاصة، كانتشار نظريات المؤامرة في ظل جائحة كوفيد–19.

تلك الاشاعات تزيد بدورها حالة اللايقين التي يعاني منها الأفراد، نتيجة وفرة المعلومات وتداخلها وتعارضها، بما لا يعطي مجالاً لتحديد المعلومات أو التعليمات الصحيحة التي يجب تصديقها، واتباعها، لاسيما في زمن العولمة وسرعة انتقال الأخبار والبيانات، الذي تلعب فيه منصات التواصل الاجتماعي دورًا خطيرًا في تغذية، وتنامي تحديات فترات الأوبئة.

2- التداعيات الاقتصادية: فقد أثبتت دراسة أجرتها لجنة المخاطر العالمية، خلال عام 2016، أن الأمراض الوبائية ستُكلف الاقتصاد العالمي أكثر من 6 تريليونات دولار خلال القرن الـ 21[5]. ولعل أكثر ما يُغذي حالة الخوف العامة من تفشي عدوى جدري القرود، هو تزامنها مع تدهور الوضع الاقتصادي العالمي بسبب جائحة كوفيد-19 التي تمتد لأكثر من عامين، وأزمة الحرب الروسية – الأوكرانية، التي اندلعت مؤخرًا.

إذ تمتد تداعيات وتحديات فترات الأوبئة، لتلقي بظلالها على أهم محركات النمو الاقتصادي في العالم، نتيجة فرض قيود على حركة التجارة، والسياحة، والتنقلات بشكل عام، خوفًا من انتقال العدوى وانتشارها على نطاق أوسع سواء بين الدول بعضها البعض، أو داخل الدولة نفسها، ما يؤدي بطبيعة الحال لفقدان جزء كبير وأساسي من مصادر الدخل القومي، التي تعتمد على عائدات خطوط السفر الجوية، والبحرية والبرية.

هذا، بالإضافة إلى تداعيات إجراءات حالات الطوارئ وما يترتب عليها من حظر تجوال، وإغلاق للمحال التجارية، والمولات، والنوادي، والكثير من المؤسسات، إلى جانب تقليص ساعات العمل باليوم، الأمر الذي تقل معه فرص العمل وكسب الرزق، خاصة للعاملين بالأجر اليومي. والجدير بالإشارة إليه هنا، هو ما تتسبب فيه حالة الخوف والذعر إثر بدء ظهور الوباء وانتشاره، من تدافع إلى الصيدليات، والمتاجر لتخزين المستلزمات الصحية والغذائية اللازمة، ما قد ينتج عنه نقص حاد، ومفاجئ في المنتجات، وارتفاع شديد، وسريع في أسعارها.

3- غياب الثقة في مؤسسات الدولة: يؤثر عامل الثقة في مؤسسات الدولة، لاسيما الصحية، في ظل أزمنة الأمراض والأوبئة على مدى شعور الأفراد بالخوف والهلع. فكلما كانت الدولة أكثر قدرة على تقديم المعلومات والبيانات اللازمة، والدقيقة حول الوباء، وأسباب انتشاره، وسبل الوقاية منه، فضلاً عن توفير كافة الخدمات الصحية، والوسائل المتاحة للعلاج من أدوية، ومستشفيات، ولقاحات، كان الشعب أكثر شعورًا بالأمان والثقة في قدرات الدولة على مواجهة الوباء، والحد من انتشاره. وعلى العكس كثيرًا ما تكشف أزمات تفشي الأوبئة والأمراض، على غرار جائحة كورونا، عن ضعف، وهشاشة الهياكل الصحية في مواجهة الأزمة، ما يزيد ليس فقط من حالة القلق والزعر، إنما يُضفي حالة من السخط، والغضب الشعبي، لاسيما مع امتداد فترات الوباء، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتضاؤل قدرة الدولة على إدارة الأزمة، والخروج منها.

4- الحَجْر الصحي والعزلة الاجتماعية: وفقًا لنظرية "فخ هوبز"، فإن الخوف بين البشر يتراكم جراء الخوف، فيسعى الخائف إلى الدفاع عن نفسه بالتسلح، فيدفع الآخر الخائف من التسلح إلى مزيد من التسلح، وهكذا دواليك، حتى يصبح الجميع عدو الجميع، وهذا ما تجسده أزمنة الأوبئة والأمراض، إذ تتغير أنماط العلاقات بين الأفراد، ويصبح الجميع خائفًا من انتقال العدوى بين بعضهم البعض، فيبدأ في اتخاذ إجراءات الوقاية الخاصة به، والتي يأتي على رأسها الابتعاد عن الآخرين، وتجنب مخالطتهم[6].

فبعد مرور أكثر من عامين على بدء ظهور وانتشار كوفيد–19، وما صاحب تلك الفترة من إجراءات صحية، واجتماعية احترازية ووقائية، فضلاً عن فترات الحجر الصحي في المستشفيات والمنازل لمرضى الكوفيد، من المتوقع أن يعيش العالم الآن حالة من الخوف الشديد من تكرار تلك المأساة الاجتماعية التي استبدلت نزعة التقارب والاندماج بين الأفراد، بمشاعر القلق والعزلة، حتى بين أفراد أصغر وحدة في المجتمع، وهى العائلة.

فقد فرضت الإجراءات الوقائية على الأفراد التباعد الاجتماعي، وأوقفت رحلات السفر والتنقل بين الدول، ما منع الأسر من الانتقال للعيش سويًا. فتسببت في تفكك الأسر، وسلبت الأفراد روحانيات وممارسة الشعائر الدينية في المساجد والكنائس، وأغلقت المدارس والجامعات ليحل محلها التعليم الرقمي في المنازل. فحُرم الأطفال والشباب من حقهم في تلقي تعليمهم بالكفاءة المطلوبة، وبالمُعايشة الواقعية التي تُساهم في تكوين فكرهم، وشخصياتهم، وتؤثر عليهم نفسيًا بدرجة كبيرة.

5- استحداث مناطق انتشار العدوى: مع زيادة وتيرة التجارة، والسياحة، والهجرة، واللجوء، على الصعيد العالمي بشكل كبير في العقود الأخيرة، أصبح من البديهي، انتقال وانتشار الأمراض على نطاق واسع بين الدول والقارات حول العالم. فعلى الرغم من استيطان عدوى جدري القرود في أفريقيا لعقود، مع بعض الحالات القليلة خارج القارة، إلا أنه ما لبث وأن انتشر بصورة أكبر عبر حركة السفر والانتقالات، الأمر الذي أدى لبدء التعاطي مع العدوى بحالة من الخوف والفزع في الدول التي كانت تعتبر نفسها بمنأى عنها، حيث يقول جوسلين رود في أطروحته: "من المفارقة أنه في بداية انتشار الوباء، يكون السكان الأقرب إلى بؤرة الإصابات هم الأقل قلقًا. فكلما اعتاد الناس الخطر مع تسجيل إصابات مباشرة، تراجع قلقهم"[7]، أي أنه كلما كان ظهور الوباء أو انتشاره غير مُتوقع، وغير مُعتاد بالنسبة للأفراد، تزايدت مخاوفهم بشأنه.

6- التفسير الديني للأوبئة: يطرح بعض رجال الدين تفسيرًا  للأوبئة على أنها صورة من صور العقاب الذي ينزله الله على عباده لكثرة خطاياهم وذنوبهم، الأمر الذي ينعكس إما على علاقة الأفراد والمجتمعات ببعضها البعض، فتبدأ حالة من الكراهية والعدواة بين الأفراد والمجتمعات، ظنًا منهم أن بؤر انتشار الأوبئة والمرضى ليسوا فقط مصدر انتقال العدوى، إنما هم السبب في حلول اللعنة، والعقاب الإلهي لكثرة خطاياهم وفسادهم في الأرض، أو ينعكس على علاقة الأفراد بمعتقداتهم الدينية، وفقًا لدراسة ميدانية عن سيكولوجيا الأوبئة[8].

ختامًا، مع الوضع في الاعتبار حجم التحديات والتهديدات التي تمثلها الأوبئة على الصحة النفسية للأفراد، وعلى جميع مناحي حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي ظل مظاهر العولمة وما يترتب عليها من سرعة انتقال الأمراض والأوبئة حول العالم، بحيث لم يعد أى مكان في العالم بمعزل عن التقاط العدوى، باتت هناك حاجة مُلحة من منطلق الأمن العالمي، لتطوير وتعزيز استراتيجيات الوقاية الصحية الاستباقية، لإدارة مخاطر الأوبئة، والحد من سرعة انتشارها، من خلال إرساء نظام شامل لتبادل المعلومات والبيانات بشفافية وشمولية تُتيح لصناع القرار سرعة وضع السياسات، واتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع الأوبئة قبل تفشيها وانتشارها، بما يزيد من حالة الثقة والأمان لدى الأفراد، ويحول دون انتشار حالة الخوف والفزع التي تنتاب الشعوب وحكوماتها، بما يُعيق رشادة عملية صنع القرار، وضبط السلوك الفردي والجماعي في أزمنة الأوبئة.


[1] "جدري القرود..ماذا نعرف عنه وما درجة خطورته؟"، دويتشه فيله، 20 مايو، 2022، متاح على: https://bit.ly/3wFKujn

[2] "منظمة الصحة العالمية: يمكن وقف انتقال عدوى جدري القرود خارج دول تفشيه"، يورونيوز، 23 مايو، 2022، متاح على: https://bit.ly/3PIVqnI

[3] "1000 إصابة بجدري القرود عالمياً.. وتحذير من توطنه خارج إفريقيا"، صحيفة الاتحاد، 9 يونيو، 2022، متاح على: https://2u.pw/1v5pb

[4] "خبير أوبئة فرنسي يكشف سبب هلع الناس من كورونا وقلقه الوحيد"، سكاي نيوز عربية، 14 مارس، 2020، متاح على: https://bit.ly/3GfpPWu

[5] حسين معلوم، "الأوبئة والمخاطر الاقتصادية.. كورونا نموذجًا"، العين الإخبارية، 4 فبراير، 2020، متاح على: https://bit.ly/3MVEYiw

[6] فيديل سبيتي، "سيكولوجية البشر في أزمنة انتشار الأوبئة"، اندبندنت عربية، 21 مارس، 2020، متاح على: https://bit.ly/3wMaRD6

[7] "خبير أوبئة فرنسي يكشف سبب هلع الناس من كورونا وقلقه الوحيد"، مرجع سبق ذكره.

[8] فيديل سبيتي، مرجع سبق ذكره.