لعبت أطراف خارجية (دول، ومنظمات دولية وإقليمية، وفاعلون مسلحون من غير الدول) أدوارًا مؤثرة في الحروب الأهلية التي شهدها العالم العربي منذ خمسينات القرن العشرين، سواء من حيث اندلاع هذه الحروب، أو تغذية استمراريتها لفترات زمنية طويلة، أو تسويتها ووضع نهاية لها. وتُعد الحروب الأهلية التي جرت فصولها فى كل من السودان والصومال ولبنان حالات كلاسيكية بهذا الخصوص. كما أن تأثير القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، أصبح العامل الرئيسي في تحديد مسارات ومآلات الحروب الأهلية التي شهدتها كل من سوريا وليبيا واليمن في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”.

وقد أسهمت التدخلات الخارجية في الحروب الأهلية في مرحلة ما بعد “الربيع العربي” في عرقلة فرص التوصل إلى تسويات سياسية دائمة لها، حيث فشلت جهود الأمم المتحدة وغيرها في تحقيق هذا الهدف حتى مايو 2022. وأقصى ما تم التوصل إليه هو وقف لإطلاق النار وتهدئة للصراع، ولكن دون حله أو تسويته بشكل شامل ودائم. في هذا الإطار، تم “تدويل” هذه الحروب، بحيث أصبحت في جانب مهم منها بمنزلة حروب بالوكالة، تُدار بدرجة أو بأخرى من قبل أطراف خارجية، لها مصالحها وأجنداتها الخاصة، وتوظف علاقاتها وارتباطاتها مع فاعلين محليين منخرطين في هذه الحروب من أجل تحقيق هذه المصالح والأجندات.

ونظرًا لأن الحرب الأهلية الليبية تمثل حالة نموذجية لتدويل الحروب الأهلية في العالم العربي، فإن الهدف من هذه الدراسة هو رصد وتحليل وتقييم أدوار الفاعلين الخارجيين، الإقليميين والدوليين، في هذه الحرب، من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية: ما القوى الإقليمية والدولية التي تدخلت في الحرب الأهلية الليبية عبر مختلف مراحلها؟ وما أهدافها ومصالحها من وراء هذا التدخل؟ وما أشكال أو أساليب التدخل الخارجي في هذه الحرب؟ وما أبرز النتائج التي ترتبت على ذلك؟ ولماذا فشلت جهود الأمم المتحدة وغيرها في التوصل إلى حل سياسي شامل ودائم للصراع في ليبيا حتى الآن؟ وما آفاق مستقبل الأزمة الليبية في ضوء المستجدات الراهنة؟

والنتيجة الرئيسية، التي خلصت إليها الدراسة، مفادها أنه بعد مضي أكثر من عشر سنوات على إطاحة نظام القذافي، أفضى الإرث الثقيل لهذا النظام، والتدخلات الخارجية الكاسحة إلى تعميق الانقسامات الداخلية، واستمرار حالة الصراع، وعرقلة جهود ومحاولات التسوية السياسية. والآن، باتت ليبيا تقف على مفترق طرق خطير، تتجلى أبرز ملامحه: في الصراع على السلطة والشرعية بين حكومتي الدبيبة وباشاغا، واستمرار سطوة الميليشيات المسلحة، وتصدع أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتسييس قطاع النفط، الذى يشكل المصدر الرئيسي للدخل في البلاد. وما لم يتم التوصل إلى حل سياسي للخروج من هذا المأزق، فإن البلاد قد تنزلق إلى دائرة الحرب من جديد. وفي ظل هذا السيناريو، سوف تكون ليبيا فى منزلة صومال أخرى في شمال أفريقيا سواء لجهة تفكك الدولة الوطنية، أو غياب السلطة المركزية، أو هيمنة الميليشيات المسلحة، الأمر الذي سيفاقم من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم زيادة معاناة السكان.  

وثمة شرطان لتجنب هذا السيناريو الكارثي، أولهما: أن يرتفع الفرقاء السياسيون الليبيون إلى مستوى التحديات، ويقبلون بالتفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة من أجل التوافق على مسار سياسي يؤسس لتسوية سياسية شاملة ودائمة وفق ترتيبات وإجراءات محددة، ويقطع مع لعبة المراحل الانتقالية البائسة التي خبرتها ليبيا لسنوات. ثانيهما: أن بعض الأطراف الإقليمية والدولية، التي لعبت أدوارًا مؤثرة في تغذية الحرب الأهلية، تستطيع أن تقوم بأدوار مؤثرة أيضًا في تحقيق التسوية السياسية من خلال الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، ومساندة جهود الأمم المتحدة، وممارسة بعض الضغوط على الأطراف المحلية، ومعاقبة معرقلي التسوية السياسية. ويفترض ذلك بلورة بعض التفاهمات بين هذه القوى. فهل يمكن تحقيق هذين الشرطين خلال المستقبل المنظور؟ هذا هو التحدي الحقيقي!