أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تسلط الزيارات الخارجية الأولى للقادة الضوء على أولوياتهم الرئيسية. وفي حالة اليمن، لا ينطوي هذا الأمر على السياسة الخارجية فقط لمجلس القيادة الرئاسي الجديد، حيث لا يوجد هامش كبير بين السياستين الداخلية والخارجية، إذ تتصدر الأزمة اليمنية بشكل عام محاور أى جدول أعمال في تحركات مجلس القيادة برئاسة رشاد العليمي. فالمجلس تشكل في أبريل من العام الجاري، على وقع دينامكيات جديدة، لعل أهمها أربعة عوامل رئيسية: أولها، عامل تشكل المجلس ذاته كمظلة سياسية وأمنية لفرقاء المشهد اليمني باستثناء الحركة الحوثية. وثانيها، إطلاق عملية الهدنة ما بين الحوثيين والحكومة الشرعية برعاية الأمم المتحدة. وثالثها، مسار المفاوضات النووية مع إيران لإحياء الاتفاق النووي. ورابعها، الحرب الروسية-الأوكرانية.

في هذا الإطار، تأتي الجولة الخارجية الأولى للرئيس العليمي إلى كل من الكويت وقطر ومصر، وبالتالي يمكن القول إنها جولة عريبة، فلا شك أن اليمن يحتاج إلى حاضنته العربية في ظل تأثير العامل الإقليمي غير العربي المتمثل في الدور الإيراني في الأزمة اليمنية. وصوّب العليمي خطابه في القاهرة نحو هذا الهدف مباشرة، حيث قال: "مصر تقف معنا أيضاً في إطار التحالف الداعم للشرعية الدستورية، بهدف استعادة الدولة وإسقاط الانقلاب المدعوم من إيران". وفي موقع آخر فى الخطاب ذاته، أشار العليمي إلى دور مصر المهم لنهضة عربية، حيث قال إن "مصر تكتب التاريخ من جديد بالنهضة وتماسك شعبها والالتفاف حول القيادة السياسية ممثلة في أخي فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي صار مثالاً للقائد الشجاع وصمام أمان لبلده وشعبه العزيز وملهم لنهضة عربية حديثة".

ويعزز الخطاب المصري في العموم هذا الاتجاه، فالرئيس السيسي أكد في خطابه المشترك مع العليمي على أن اليمن "كان دوماً بوابة كبرى من بوابات العروبة"، وأضاف أيضاً: "أكدت على الدعم الكامل لوحدة الدولة اليمنية واستقلالها وسلامة أراضيها، ورؤيتنا لما يمثله أمن واستقرار اليمن من أهمية قصوى لمصر وللعالم العربي بأسره".

ويتماشى هذا الخطاب للرئيس مع خطابات سابقة - لاسيما في زيارته إلى العراق ومشاركته في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في أغسطس 2021- على نحو يعكس أحد جوانب السياسة الخارجية المصرية في محيطها الإقليمي والعربي، من زاوية صيانة الأمن القومي العربي، والحد من تأثير التدخلات الإقليمية غير العربية في الشئون الداخلية للدول، وذلك بشكل عام دون الإشارة إلى قوة أو طرف بعينه.   

في واقع الأمر، فإن العامل الإقليمي أحد أبرز العوامل ذات التأثير في المشهد اليمني، وكثيراً ما اعتبر المراقبون أن الحرب في اليمن هى تجسيد لحرب بالوكالة، بالنظر إلى تحليل أدوار الفاعلين الإقليميين في المشهد الصراعي، وحروب الوكالة هى بطبيعتها من الحروب غير النمطية التي تسعى إلى إحداث تغييرات ذات أثر مزدوج فى الداخل والخارج. ولكن أثبتت هذه الحرب في اليمن، كما هو الحال في العراق وربما لبنان من قبل، أن العامل العسكري لا يحسم هذه الحروب، وأن معضلة التجربة العربية عموماً في هذا النمط أن الوكلاء المحليين يشكلون تحدياً هائلاً، فمن ناحية هناك صعوبة في هزيمة هذه الأطراف عسكرياً، بالإضافة إلى أنه يصعب استئصالها محلياً، وبالتالي فإن المعادلة هى كيف يمكن الحد من دورها كوكيل من جهة، وإعادتها إلى المعادلة الوطنية أو القومية من جهة أخرى.

 ومن المنظور الإقليمي، شكل اتفاق الهدنة الحالي تحولاً نوعياً في مسار الدور السعودي في الأزمة اليمنية، بالإضافة إلى عملية إعادة هيكلة السلطة الشرعية، والتي كانت الرياض ترغب في أن تكون الحركة الحوثية شريكاً فيها، حيث تلتزم الرياض من جانبها باستحقاق الهدنة، وتبادلها الحركة الحوثية نفس الالتزام، وهى خطوة مهمه يمكن البناء عليها، في ظل احتمالات رغبة السعودية في إنهاء دورها العسكري في الحرب، لكنها ستظل بحاجة إلى ضمانات إيرانية وحوثية، ليس فقط لبقاء احتمال العودة إلى التصعيد، ولكن أيضاً لأن المشروع الحوثي في حد ذاته يشكل تهديداً للمملكة، ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا الصدد إلى أن الرياض لا تدعم تياراً أيديولوجياً داخل اليمن، على نحو ما كان قائماً عندما فرضت المعادلة اليمنية في السابق إبان الحروب الستة، من ازدهار التيارات الإسلاموية الرديكالية.

وعلى الرغم من أن الرياض وطهران خاضتا خمس جولات تقريباً في العراق، دون أن تسفر عن نقلة نوعية في مسار الأزمة اليمنية، لكن كانت الآلية كاشفة عن الحاجة إلى تفعيل الحوار الإقليمي، سواء الذي جاء في صورة تلك الاجتماعات الخمسة، أو مؤتمر بغداد، لكن لا يمكن التقليل من شأن تلك الآلية حتى لو كانت نتائجها محدودة، فعلى سبيل المثال، لم تعيد إيران إرسال ممثل دبلوماسي للحوثيين بعد وفاة حسن ايرلو، وبالتالي لم تعد هناك إمكانية للاعتراف بالحوثيين كحكومة أمر واقع في صنعاء.

ومن الواضح أن القاهرة تدعم تنامي دور هذه الآلية، فالإقليم يتسع للحوار على طاولات الحوار، وليس فقط للحوار بالمدافع والانتشار العسكري، ومد الوكلاء بالأسلحة وإدخال البلاد في فوضى تحتاج إلى نصف قرن لإعادتها إلى نقطة ما قبل اندلاع الصراع وليس طموح الازدهار.  فمصر عضو في التحالف العربي، لكنها لم تنخرط عسكرياً في التحالف، إلا في حدود حماية أمنها القومي، حيث خريطة العلاقات الجيوسياسية بين مصر واليمن، فالأخيرة بوابة هامة لأمن مصر القومي في العمق الجنوبي، وليس مجرد تأمين عملية الملاحة البحرية، بالإضافة إلى دور مصر بطبيعة الحال على الصعيد الإقليمي، والتنسيق مع الشركاء الإقليميين في التعامل مع مهددات الأمن الجماعي العربي.

وخلال الشهر الحالي، أجرت مصر والسعودية تمرينين، أحدهما جوي وهو "فيصل 12"، وأشار بيان القوات المسلحة المصرية في هذا الصدد إلى أن التمرين يؤكد على عمق علاقات الشراكة الاستراتيجية والتنسيق المشترك والقدرة على التخطيط والتنفيذ للمهام مما يدعم ركائز الأمن والاستقرار بالمنطقة. وسبقه مباشرة تمرين آخر بحري مشترك وهو "الموج الأحمر- 5"، والذي كانت اليمن أحد الأطراف المشاركة فيه بالإضافة إلى الأردن وجيبوتي والسودان. وأشارت القوات المسلحة أيضاً إلى أن الهدف منه هو استمرار التنسيق العسكرى الدائم والمستمر بين الدول المطلة على البحر الأحمر، والتأكيد على مدى ما وصلت إليه القوات المسلحة للدول المشاركة من تنسيق وتوافق أظهر مدى تفوقها فى قدراتها العسكرية خاصة فى مجال الأمن البحرى.

وإجمالاً في هذه النقطة، يمكن القول إن الخطوط العربية تتقارب، وبالتبعية تتقلص فجوة التباين في السياسة تجاه اليمن، من حيث التأكيد على عدم فاعلية الحل العسكري الذي يستنزف كافة الأطراف، وأهمية إطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن، على أرضية استعادة الدولة الوطنية، بالإضافة إلى التعاون المشترك للتصدي لمهددات الأمن الجماعي، خاصة المهددات البحرية المتنامية، والتي يعتقد أنها قد تتفاقم في المستقبل القريب بفعل انتكاس الاتفاق النووي الإيراني والصعوبات التي تواجه إعادة إحياؤه من جهة، والتصعيد الإيراني- الإسرائيلي الذي يعود بواجهة أخرى في هذه المرحلة في سياق الموقف الإيراني المعارض لمساعي اسرائيل زيادة حضورها الأمني في المنطقة.

وتظل اليمن رقعة جيوسياسية فارقة في هذه المعادلة، فقد تغيرت الحسابات العربية باتجاه احتواء الأزمة اليمنية، لكن لم تتغير الحسابات الإيرانية على الأرجح، وبالتالي ستظل الحركة الحوثية ورقة مهمة بيد إيران في إطار تلك الحسابات. وفى المقابل، فإن الأطراف العربية الفاعلة في الإقليم سيتعين عليها باستمرار تعزيز قدرات وإمكانيات الردع الاستراتيجي، خاصة وأن أحد الدروس المستفادة من سنوات الحرب في اليمن أنه لا يمكن الاعتماد على الحلفاء الغربيين في عملية الدفاع، وأنه لا ثوابت في هذا الأمر.

مصر والتطورات السياسية في الأزمة

يبدو أن مصر متفاءلة باتفاق الهدنة الذي جرى تجديده مطلع الشهر الجاري لمدة شهرين جديدين، ولم تكتف القاهرة بالترحيب السياسي بالهدنة والعمل على الوفاء باستحاقاتها، خاصة أنها أحد أطراف هذه النقلة النوعية في المشهد اليمني، فقد أشار الرئيس السيسي أيضاً إلى إعادة فتح الأجواء بين القاهرة وصنعاء مطلع الشهر الجاري، وهى خطوة مهمة للتعامل مع الأوضاع الإنسانية الصعبة في اليمن، وبالتالي تساهم مصر في رفع الأعباء على اليمنيين الذين أرهقتهم سنوات الحرب، بالإضافة إلى إسهامها في مساعي دفع العملية السياسية في المستقبل، بالتنسيق مع شركائها في الخليج (السعودية والإمارات)، والقوى الدولية المعنية بالوصول إلى تسوية سياسية، تنهي حالة الاحتراب الداخلي.   

لقد تشكلت خبرة مصرية متميزة في التعامل مع الأزمات الإقليمية، ويمكن الاستعانة في هذا الصدد بالحالة الليبية، حيث أن التوصل إلى عملية سياسية في المستقبل، أو إدارة قواعد اللعبة للوصول إلى هذا الهدف، يتطلب مد الجسور مع كافة الأطراف المعنية. صحيح أن هناك تبايناً في حسابات التعاطي مع الأطراف، إذ قد يتطلب الأمر الانفتاح على الحركة الحوثية كطرف مطلوب تصويب مساره باتجاه إعادته إلى التوافق اليمني، ولا يعني الانفتاح بالتبعية التطبيع مع الحوثيين بصيغة قبول الأمر الواقع، بل على العكس قد يعني الإسهام في تغيير الواقع سياسياً بما يصب في صالح كافة الأطراف، وهى عملية معقدة، وتتطلب سياسة النفس الطويل، وهى أيضاً خبرة أخرى يمكن وضعها في رصيد الخبرة  المصرية، وهى البناء التراكمي على الخطوات الإيجابية، دون استعجال الخطوة التالية.

كذلك؛ هناك إشارات من جانب العليمي للاستفادة من تجربة التنمية المصرية الملهمة، ومن المرجح أن تساهم مصر في عملية إعادة الإعمار حينما تنطلق في المستقبل، لكن قد يكون مصطلح "التنمية" المطلوب حالياً في الحالة اليمنية، وفق الظرف الراهن، مختلفاً عن سياق التنمية الشاملة، فقد ساهمت الحروب التي عاشها اليمن في العقدين الأخيرين قبل سقوط نظام الرئيس على عبد الله صالح، في إعاقة أى عملية تنمية لبنية بدائية تقريباً، ثم جاءت الحرب التي تلت الانقلاب الحوثي (سبتمبر 2014) لتفاقم من الأزمة، لكن تظل هناك حاجة إلى نقطة البداية في هذه العملية، لأنه لا يمكن إقامة تنمية شاملة قبل وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى الحاجة لعملية تمويل هائلة وضخمة بينما يواجه اليمن حالياً أزمة أمن غذائي بسبب الحرب، وأيضاً فاقمت منها الحرب الروسية-الأوكرانية، مع اتجاه المانحين الدوليين كأولوية لدعم أوكرانيا. 

في الأخير، يمكن القول إن الدور المصري في الأزمة اليمنية يظهر ويتعاظم كلما اقتربت التفاعلات من الثوابت المصرية المعتمدة منذ بداية الأزمات، وفي المقدمة منها بالطبع عدم الانخراط العسكري في الأزمات عموماً، بل على العكس العمل على خفض التصعيد، ودعم آلية الحوار على المستويات المختلفة، إلى جانب تعزيز القدرات الدفاعية لتحصين أمنها القومي من تداعيات الأزمة، فاليمن ركن جيوساسي مهم في معادلة الأمن القومي المصري، وفي الوقت ذاته لا تتعارض هذه الثوابت مع المرونة السياسية المطلوبة للتعامل مع المتغيرات التي تطرأ على حالة الأزمة.