تسعى إيران إلى الوصول إلى اتفاق نووى جديد مع القوى الدولية من خلال المفاوضات التى توقفت حالياً فى فيينا منذ 11 مارس الماضي، لكن ليس بأى ثمن. ففى رؤية طهران، فإنه إذا لم يتضمن الاتفاق النووى المحتمل عوائد إستراتيجية واقتصادية «مضمونة» ويمكن التثبت منها، فمن الأفضل عدم اعتماده أو بقاء الحال على ما هو عليه. وربما يفسر ذلك، إلى حد كبير، أسباب تعثر المفاوضات التى تجاوزت عامها الأول، برغم أن تصريحات بعض المسئولين الإيرانيين تشير إلى أنه تم الانتهاء من تسوية الجوانب الفنية التى مثلت محاور الخلاف بين طهران وواشنطن فى الفترة الماضية.
وقد بدأت إيران فعلاً فى الاستعداد مبكرا لخيار فشل المفاوضات وانهيار الاتفاق، وإن كانت حريصة على عدم الإعلان عن إنهائها، أملاً فى أن تؤتى سياسة «كسب الوقت» ثمارها وتضغط على واشنطن بشكل يضطرها فى النهاية إلى الاستجابة لمطالبها، أو تجنب تحمل المسئولية عن إخفاق الخيار الدبلوماسي. ففضلاً عن مواصلة جهود الالتفاف على العقوبات الأمريكية، لدرجة رفعت مستوى الصادرات النفطية إلى نحو مليون برميل يومياً، أى ما يمثل 40% من حجم الصادرات الإيرانية قبل الانسحاب الأمريكى من الاتفاق وفرض العقوبات الأمريكية، فإنها بدأت فى التعويل على تطوير علاقاتها الثنائية، على المستوى الاقتصادي، مع دول الجوار، مثل قطر وسلطنة عمان وطاجيكستان، إلى جانب روسيا والصين. بل إن وسائل الإعلام الرئيسية فى إيران، على غرار صحيفة «كيهان»، بدأت فى الترويج إلى أن «إيران بدون اتفاق أقوى من إيران باتفاق».
وبالتوازى مع ذلك، تواصل إيران تطوير برنامجها النووي، على نحو ما أكدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فى التقرير الذى صدر فى 30 مايو 2022، والذى كشف أنها تجاوزت الحد المسموح به فى إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% بنحو 18 ضعفاً، بعد أن وصلت الكمية المنتجة من هذه النسبة إلى 3809.3 كيلوجرام، فضلاً عن أنها زادت الكمية المنتجة من اليورانيوم المخصب من نسبة43.1٪ إلى 60٪.
دوافع عديدة
حرص إيران على تبنى هذا الموقف الذى تعتبره اتجاهات عديدة مجازفة، لا سيما فى ظل الأزمة الاقتصادية الداخلية التى تواجهها إيران فى الوقت الحالي، والتى انعكست فى تصاعد حدة الاحتجاجات الداخلية على ارتفاع أسعار السلع الغذائية وتدنى الرواتب وغيرها، يمكن تفسيره فى ضوء اعتبارات ثلاثة رئيسية:
يتمثل أولها، فى أنه ما لم يتم توفير «حصانة» للاتفاق المحتمل تحميه من أى تغييرات محتملة فى سياسات الدول المشاركة فيه، فإن ذلك يزيد من فرص تكرار ما حدث فى 8 مايو 2018 عندما انسحبت إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بسهولة منه وأعادت، بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، فرض العقوبات الأمريكية.
وهنا، فإن البديلين اللذين طرحا لتوفير تلك «الحصانة»، أو على الأقل لتقليص حدة التداعيات المحتملة التى قد يفرضها أى انسحاب أمريكى فى المستقبل من الاتفاق مجدداً واجها بدورهما إشكاليات عديدة. إذ رفضت إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن منح إيران ضمانات بعدم الانسحاب مجدداً من الاتفاق، باعتبار أن ذلك يخرج عن سلطات الرئيس. كما أنها لم تكن فى وارد الموافقة على احتفاظ إيران بمختلف مكونات برنامجها النووى على أراضيها وعدم نقل بعضها إلى الخارج، على غرار الكميات المنتجة من اليورانيوم المخصب بنسبة تفوق 3.67% المنصوص عليها فى الاتفاق، باعتبار أن ذلك يمكن أن يغرى إيران مجدداً بالتراجع عن التزاماتها فى الاتفاق، ويوفر لها ورقة ضغط يمكن أن تستخدمها ضد القوى الدولية عند حدوث أى خلاف بين الطرفين.
وينصرف ثانيهما، إلى أنه لا يوجد ما يضمن ألا تتعرض المنشآت النووية الإيرانية لمزيد من عمليات الاختراق، فى حالة الوصول إلى اتفاق جديد. وفى الغالب، فإن هذه العمليات- التى توجه إيران اتهامات مباشرة لإسرائيل بالمسئولية عنها- سوف تتواصل أياً كانت النتيجة التى سوف تنتهى إليها مفاوضات فيينا. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن طهران قد تشترط على واشنطن منع تل أبيب من مواصلة تلك العمليات فى حالة إبرام صفقة جديدة، لكن الأخيرة تبدو حريصة على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها فى هذا السياق، ولا يبدو أنها يمكن أن تتجاوب مع أى توجه من هذا القبيل، خاصة فى ظل تحفظاتها العديدة سواء على بنود الصفقة المطروحة أو على السياسة الأمريكية تجاه إيران بصفة عامة.
ويتعلق ثالثها، بمحدودية الانعكاسات الاقتصادية الإيجابية التى يمكن أن تعود على إيران فى حالة الوصول إلى هذا الاتفاق بدون الاستجابة لمطالبها، ولا سيما ما يتعلق بشطب الحرس الثورى من قائمة التنظيمات الإرهابية. وكما سبقت الإشارة، فإن إيران تمكنت من رفع مستوى صادراتها النفطية، حتى فى ظل العقوبات الأمريكية، إلى نحو 40% مما كانت عليه قبل 8 مايو 2018، فضلاً عن أنها رفعت مستوى العلاقات الثنائية مع دول الجوار، والصين وروسيا. وبرغم أن ذلك قد لا يرقى لما يمكن أن يعود عليها فى حالة الوصول إلى صفقة ورفع العقوبات الأمريكية، فإن عدم شطب الحرس الثورى من قائمة التنظيمات الإرهابية يقلص من هذه العوائد المنتظرة، باعتبار أنه سيمنع الشركات الأجنبية من الاستثمار فى إيران خشية التعرض لعقوبات أمريكية.
انطلاقاً من ذلك، يبقى الوصول إلى اتفاق نووى يستوعب شروط إيران ويُؤمِّن مكاسبها فى البرنامج النووي، هو الهدف الذى تسعى من أجله طهران ولا تتعجل بناءً عليه إبرام صفقة بشأنه، رغم كل الضغوط التى تتعرض لها من جانب القوى المعنية بالمفاوضات التى توقفت فى فيينا. لكن من دون ذلك، ربما يكون الوضع الحالى أفضل بالنسبة لطهران، حتى لو كان ذلك سبباً فى تفاقم الأزمة الاقتصادية وتجدد الاحتجاجات المعيشية. ففى رؤية طهران، فإنه لا يمكن المخاطرة مجدداً بالعودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق النووي، بدون ضمانات أمريكية، خاصة أن هذا الاتفاق سيكون- على غرار «الجبن السويسري»- به من الثقوب أكثر ما به من جبن.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 4 يونيو 2022.