أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تمكن المبعوث الأممي إلى اليمن هانس جروندبرج من إنقاذ الهدنة بين الحكومة الشرعية والحوثيين فى الساعات الأخيرة، حيث أعلن، في 2 يونيو الجاري (2022)، عن تمديدها لشهرين آخرين، وذلك على الرغم من أن عملية التمديد لم تستند إلى اختراق ملموس فى ملف تعز الذي كان يشكل العقبة أمامها، وبالتالي تراجعت الحكومة الشرعية التي كانت تتمسك بهذا الأمر وتعتبره استحقاقاً رئيسياً لتمديد الهدنة. وبالتبعية جرى التجاوب مع الموقف الحوثي بترحيل هذا الملف مع احتمالات القبول بالبدائل التي سبق وطرحها الحوثيون.

ويعكس البيان الأممي الخاص بإعلان الهدنة تبريراً لهذا الوضع، من حيث الإبقاء على الحد الأدنى فيما تحقق من نتائج على صعيد العمل الإنساني، واستثمار الهدنة في خفض مستوى حدة الصراع، فقد خلص تقرير للمجلس النرويجي للاجئين إلى أن عدد ضحايا الحرب من القتلى على الجانبين انخفض بمقدار النصف تقريباً خلال فترة الهدنة للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من سبع سنوات، حتى وإن كان عدد الضحايا بفعل تداعيات الحرب وتحديداً بسبب زراعة الحوثيين للألغام لا يزال بالوتيرة نفسها إن لم يكن فى تصاعد.

وبشكلٍ عام، تعتبر الهدنة أحد مراحل منحنى الصراع المسلح، وربما تمثل حلقة الاختبار الانتقالية فيه، فقد يتراجع الصراع بفعل الهدنة، إذا ما تحول لاحقاً إلى عملية لوقف إطلاق النار، وهى مرحلة متقدمة بدورها فى مراحل إدارة الصراع إذا ما كان هناك اتجاه لعملية سياسية لإنهاء الحرب، والعكس، قد يفشل هذا الاختبار ويرتد مرة أخرى نحو الصراع المسلح بوتيرة أعنف مما كانت عليه فى السابق.

 وبتطبيق هذا السياق على حالة الصراع المسلح فى اليمن، فإن التفاعلات الراهنة قد تكون دالة من حيث مقاربات الهدنة والتسوية على منظور مختلف، حيث يرجح أن تشهد الحالة اليمنية سيناريوهات استثنائية في المستقبل، استناداً إلى خلفية ودوافع الصراع التاريخية، وأبعاده الداخلية والخارجية، والتي يمكن القول معها أن حالة "الهدنة" لا تشكل بمفردها المؤشر الذي يعتد به نقطة تحول فى مسار الوضع اليمني من الصراع إلى بناء السلام. بل إن النتيجة الواقعية التي وردت فى صيغة التمديد تعكس صعوبة في الرهان على أن تقود الهدنة إلى متغير نوعي أو استراتيجي فى الأزمة اليمنية بشكل عام.

مصلحة متبادلة

ربما يكون من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الهدنة قد تمثل مصلحة متبادلة لكافة الأطراف. فمجلس القيادة الرئاسي الجديد تشكل في إطار حوار الرياض (إبريل 2022) بالتزامن مع إطلاق الهدنة، وربما يكون من الأفضل بالنسبة له الإبقاء على هدنة هشة أو فى حدها الأدنى مقابل عدم وجود الهدنة من الأساس، فالسلطة الجديدة (مجلس القيادي الرئاسي) بحاجة إلى استغلال الهدنة كمتنفس لمعالجة الأوضاع السياسية والأمنية الهشة فى مناطق سيطرتها، خاصة وأن أمامها جدول أعمال سياسي وأمني واقتصادي متخم بالكثير من البنود. ومن مصلحة الفريق الأممي تسجيل اختراق يسهل عمليات الإغاثة الإنسانية التي تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنها أصبحت أفضل حالاً فى ظل الهدنة التي طرحت كعنوان رئيسي لمعالجة التدهور فى  الوضع الإنساني فى اليمن، ولو بشكل نسبي أيضاً، بالإضافة إلى أنها الهدنة الأولى من نوعها التي يتم التوصل إليها فى عهد المبعوث الرابع إلى اليمن هانس جروندبرج.

كذلك بالنسبة للتحالف ولا سيما السعودية، فإن الحركة الحوثية ملتزمة بوقف التصعيد العسكري على الجبهة السعودية، لدرجة أنه يمكن القول أن الهدنة الفعلية هى الهدنة ما بين الطرفين السعودي والحوثي، وهو ما يمكن أن يشكل، فى حال استمرارها، خطوة لتأمين مسار آمن لإنهاء دور السعودية فى الحرب، خاصة وأن هناك رغبة سعودية واضحة فى إنهاء الحرب بشكل عام، لا سيما وأن 7 سنوات من حرب بلا هوادة أكدت على أنه من الصعوبة بمكان حسم الأمر عسكرياً.

أما بالنسبة للجانب الحوثي، فالحركة هى الأخرى مستفيدة من هذا الجانب، فقد رفعت عنها القيود التي كانت مفروضة على الأجواء، لا سيما مطار صنعاء وميناء الحديدة، وأصبح هناك قدرة على تسيير رحلات جوية من مطار صنعاء إلى العاصمة الأردنية عمان، ومن المرتقب أن تتخذ خطوة مماثلة بين صنعاء والعاصمة المصرية القاهرة، فى إطار تحفيف القيود التي فرضت على اليمن بسبب الحرب، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة التطبيع مع الحركة الحوثية كسلطة أمر واقع فى صنعاء.  

إن الاستثناء أو الخصوصية فى الحالة اليمنية يتعلق بأن استثمار الهدنة وصولاً إلى عملية وقف شامل لإطلاق النار بما قد يهيىء الأجواء لعملية سياسية تعيد البلاد إلى واقع ما كانت عليه قبل الحرب، ربما لن يكون سيناريو وارداً لعدة أسباب، منها:

1- طبيعة التفاوض: ثمة إشارات واضحة من مراقبين محليين بأن فريقى التفاوض يتعاملان كممثلين لحكومات أو سلطات أحدها معترف به بطبيعة الحال ممثلاً فى وفد الحكومة الشرعية والآخر يمثل سلطة أمر واقع فى صنعاء، كما أن نهج التفاوض فى حد ذاته يعكس هذا الوضع بل ويكرس لاستمراره أيضاً، بالنظر إلى طبيعة الإدارة المناطقية وفقاً لمناطق السيطرة والنفوذ التي يهيمن عليها كل طرف، وهو ما يعني فى هذا السياق غياب وجود عملية سياسية فى المستقبل، وأن ما يرمي إليه كل طرف هو العائد من عملية التفاوض على نحو ما سبق ذكره، وهو تحسين الأوضاع فى تلك المناطق، بالإضافة إلى نهج الصفقات، فالحركة الحوثية قدمت تسهيلات محدودة في ملف تعز وليس إنجازه بالشكل المتصور وفتح الطرقات، بالإضافة إلى توسيع مجال الحركة الجوية، وبالتالي لا تقدم تنازلات بالمعنى السياسي مع تمديد الهدنة، بقدر ما تحصل على مكاسب ترفع عنها الأعباء.

2- طبيعة الهدنة: يشكل إقرار هدنة لمدة شهرين في اليمن مكسباً مهماً لعمليات الإغاثة الإنسانية، وبالتالي تظل تحت عنوان الهدنة الإنسانية، بما لا يمثل أى احتمال حتى الآن للدخول فى عملية سياسية مشتركة تجمع الأطراف على طاولة واحدة، ويمكن الاستدلال بملف تعز مرة أخرى فى هذا الصدد، فمن زاوية جيوسياسية حلحلة ملف تعز لا تعني فقط تخفيف الوضع الإنساني مع رفع الحصار عنها وخفص التصعيد المسلح، بقدر ما تعني تطبيع الحياة فى تعز مع محيطها، ومن ثم تغيير خطوط الصراع المسلح، فالإبقاء على قواعد الاشتباك المسلح كما هى منذ سنوات يشير إلى أنه لا يوجد متغير سياسي محتمل فى الأفق، بل على العكس من ذلك، فإن الحركة تمعن فى وضع عراقيل سياسية أمام أى محاولة انفتاح فى هذا الجانب وتصدير الأزمة إلى المجلس الرئاسي الذي ينحدر رئيسه رشاد العليمي من تعز.

3- استراحة محاربين: على نحو ما سلفت الإشارة إليه فى عامل المصالح المتبادلة، فالهدنة لا تشكل متغيراً أيضاً فى الوضع العسكري، بل تستغل فى تحسين عملية التعبئة العسكرية وتعزيز القدرات التسليحية للحوثيين، على الجبهات المختلفة. على الجانب الآخر، فإن الحكومة الشرعية تقوم بالدور ذاته من خلال تعزيز وضعها الدفاعي لا سيما فى مأرب، والأهم من ذلك هو استثمار فترة الهدنة فى عملية الإصلاح الهيكلي للقوات، ويغلب على ذهنية الطرفين أن جولة الحسم العسكري لا تزال مؤجلة، فالحوثيون يرون أن عملية السيطرة على مأرب هى استكمال للمشروع الحوثي، والمجلس الرئاسي يرى أنه لابد من هزيمة عسكرية للحوثيين لاستعادة صنعاء التي لا يمكن استعادتها فى إطار عملية سياسية. 

4- مشروعات متعارضة: وهو السمة الرئيسية لجوهر الصراع اليمني، كصراع تاريخي، إذ تدافع المليشيا الحوثية عن مشروعها السلالي الطائفي، وهو مشروع معادٍ وليس معارضاً فقط لمشروع استعادة الدولة الذي تتبناه الشرعية، فالعامل الأيديولوجي المميز للمشروع الحوثي يصطدم بمشروع الدولة الوطنية، أو الدولة المركزية، مع الوضع فى الاعتبار أن المجلس الانتقالي الذي أصبح أحد مكونات الرئاسي لم يتخلى بالمطلق عن مشروعه لاستعادة دولة الجنوب رغم انضوائه هو الآخر تحت مظلة الرئاسي، وربما يتعاطى مع التطور الأخير لإعادة هيكلة السلطة كفرصة أخيرة.

خلاصة هذا السياق، أن الهدنة لن تقود إلى عملية سياسية تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ظهور الحوثي وربما أيضاً قبل ظهور الانتقالي، لكن هذه النتيجة المنطقية وفقاً لتطورات المسار اليمني لا تعني أن الحل السياسي غير وارد بالمطلق، وإنما يفرض على الأطراف النظر فى طبيعة العملية السياسية التي يمكن أن توقف نزيف الحرب المستمرة فى البلاد، خاصة وأن هزيمة الحوثي عسكرياً لا تزال مسألة غير واردة، وتحت أى وضع لن تعود المليشيا مرة أخرى إلى صعدة، كذلك لن يتخلى الانتقالي عن مكاسبه، بعد أن استفاد من تحسن وضعه السياسي كممثل للجنوب فى السلطة الحالية، بالحصول على مقعد نائب الرئيس فى مجلس القيادة إلى جانب الإبقاء على المكاسب السياسية والأمنية فى الجنوب.

إن الحل المنطقي يظل فى الطرح الذي قدمه مجلس التعاون الخليجي فى إبريل الماضي، وبالتالي يمكن الرهان على تحسين وضع الهدنة في إطار العلاقة بين السعودية والحوثيين وليس بين الشرعية والحوثيين فى المقام الأول، بمعنى توسعة المجلس الرئاسي ليضم الحوثيين فى المستقبل، وقد عرضت السعودية هذا الخيار عبر مجلس التعاون الخليجي، وربما كان قابلاً للتحقيق لو كانت الحركة الحوثية شاركت فى ذلك الحوار، لكن ربما ارتأت أنها بحاجة إلى المزيد من المكاسب والضمانات، وهو خيار محتمل إذا ما تم إنضاجه، فالحركة الحوثية لا يمكنها فى الأخير تحقيق مشروعها على أرض الواقع بالصيغة التي تسعى إليها بإعادة بناء نسخة مطورة من الدولة الإمامية بدعم إيراني، ولا الحكومة الشرعية سيكون بمقدورها العودة إلى صنعاء حتى فى أفضل الصور دون حل إقليمي مرتهن فى إطار تسوية الأمر ما بين السعودية وإيران، فضلاً عن دعم دولي.

وفى الإطار نفسه، فإن هذه الصيغة لها أساس فى المبادرة الخليجية الأولى، والحوار الوطني، واتفاق السلم والشراكة، كما وردت أيضاً فى الدعوة الخليجية فى إبريل الماضي لتبقي على سياسة الباب المفتوح أمام الحوثيين للمشاركة فى السلطة. أيضاً، فإن الحل الأقرب إلى النهج الفيدرالي أو بصيغة مخرجات الحوار الوطني "الأقاليم"، وهو تصور مبكر لأنه لا يمكن حل الصراع عسكرياً، ولا يمكن القبول بالمشروع الحوثي بصيغته التي قد تقسم البلاد، بالإضافة إلى أن تلك الصيغة أكدت فى الوقت ذاته على أن حل الدولة المركزية بشكلها السابق غير وارد لأطراف متعددة، وليس فقط الحوثيين، والعكس فإن تحقيق المشروع الحوثي سيترتب عليه بالتبعية الاتجاه لتحقيق باقي المشروعات المماثلة التي قد تذهب باليمن إلى سيناريو اللاعودة.