وافق الكونجرس الأمريكي على تمويل أكبر صفقة عسكرية لصالح أوكرانيا تبلغ قيمتها 40 مليار دولار، تشمل أسلحة وتدريب وصيانة ورواتب عسكريين، بالتزامن مع موافقة اجتماع السبعة الكبار على 20 مليار دولار أخرى، فضلاً عن حجم الأسلحة الهائلة التي تمدها بها القوى الغربية. وعلى العكس من ذلك، فمن المرجح أن تعاني روسيا على المدى المتوسط من العقوبات المفروضة على التسليح وواردات التكنولوجيا على وجه التحديد، وهو ما يفسر طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مجلس الأمن القومي، يوم الجمعة 20 مايو الجاري (2022)، إيجاد بدائل عبر تصنيع وطني للرقائق الإلكترونية، بالإضافة إلى المكونات الاستيرادية بشكل عام التي تدخل فى عملية التصنيع العسكري، يضاف إلى ذلك، بطبيعة الحال، تراجع القدرة التمويلية فى ظل العقوبات المفروضة على مبيعات التسليح الروسي والتي تراوحت ما بين 15- 20 مليار دولار منذ بداية الأزمة مع الغرب مع سيطرتها على شبه جزيرة القرم، والتي تضاعفت مؤخراً.
وفقاً لهذا السياق، يمكن القول إن معادلة التصنيع والتسليح ما بين روسيا والغرب تشهد اختلالاً لصالح الأخير، ولا يعتقد أن الأولى قادرة على تقليص الفجوة للوصول إلى نقطة التعادل معه فى عملية التصنيع. فبينما تراهن موسكو على أن تبدأ فى إيجاد بدائل خلال العامين المقبلين، قد لا يكفي ما لديها من مخزون فى الاستمرار فى تلك الحرب أو توسيعها فى أوكرانيا أو خارج حدودها، وهو ما يمكن تناوله فى النقاط التالية.
معضلة التكنولوجيا
لدى روسيا قاعدة تصنيع عسكري واسعة، مكنتها من أن تحتل الترتيب الثاني بعد الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر منتج للتصنيع العسكري في العالم، لكن من المتوقع أن تتراجع هذه المرتبة لسنوات بفعل الحرب على أوكرانيا. كما أن تلك القاعدة قد لا توفر لها هامش تنويع المنتجات العسكرية، فى ظل الاستهلاك المرتفع أو الاستنزاف فى تلك القدرات فى أوكرانيا، لكن يمكنها مضاعفة إنتاج الدبابات، إذ تنتج، على سبيل المثال، نحو 250 دبابة سنوياً من طراز "T 72" لكنها فى المقابل خسرت ما يعادل إنتاج عامين بمعدل 500 دبابة فى الحرب وفق التقديرات الغربية. إلا أنها ستواجه المعضلة الأكبر فى الصناعات الأخرى، التي لا يمكنها مضاعفتها، مثل الصواريخ، وأجهزة الاتصالات والمقاتلات. فعلى سبيل المثال، كشف تقرير للمعهد الملكي البريطاني سبق نشره الشهر الماضي بعد فحص الاستخبارات البريطانية لبعض المعدات الروسية أن صاروخ مثل "كاليبر" يحتوي على 70% من مكونات تكنولوجيا أجنبية، كذلك معظم أجهزة الراديو، وحتى أجهزه الاستشعار التي تدخل فى منظوماتها الدفاعية.
رهانات صعبة
حتى الآن، من الواضح أن روسيا لا تجازف باستخدام هائل لمخزوناتها العسكرية التي تتميز بالتكنولوجيا الدقيقة، حيث نوعت فى استخدام الصواريخ مع استخدام أقل للصواريخ الموجهة بدقة ما يبن "كاليبر" و"أونيكس" و"اسكندر" وغيرها، أو الفرط صوتية (Hypersonic) مثل "كينجال" أو "سارمات". لكن الأمر لا يتعلق فقط بتضييق الفجوة التكنولوجية، فوفق قائمة التسلح الروسية فى أوكرانيا، اتجهت روسيا إلى الاهتمام بإنتاج طائرات من دون طيار بحمولات كبيرة يمكنها حمل صواريخ وقذائف موجهة، مثل "ياخوتنيك" و"أورلان 10"، عوضاً عن الاستخدام المكثف لأسلحة المشاة والمركبات، بالإضافة إلى إعلان روسيا عن قرب بدء إنتاج 45 منظومة من صواريخ "سارمات"، إلى جانب مقاتلات "SU-57" و"MI 171"، بالإضافة إلى المنظومات الدفاعية التي تتضمن تكنولوجيا هائلة، لا سيما فى وحدة التحكم فى المنظومة، وهو ما يزيد الطلب على الرقائق الإلكترونية والتكنولوجيا بشكل عام.
على هذا النحو، من المتصور أن لدى روسيا أربعة خيارات صعبة: أولها، الحصول على واردات لتعويض الفجوة من الصين، لكن الولايات المتحدة الأمريكية لديها توجه حالياً لمنع الأخيرة من الوصول إلى التكنولوجيا التي تستخدمها هى الأخرى فى عملية تطوير الصناعات العسكرية.
وثانيها، الاستعانة بشركات وهمية بواجهات مدنية للحصول على تلك التكنولوجيا، وهى حيلة كانت تلجأ إليها عبر 6 دول معظمها أوروبية، لكن العقوبات الغربية تواصل العمل على تعقب سلاسل التوريد ومنها اكتشفت وجود شركات فى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تم تجميد أعمالها، وحتى الهند أيضاً أصبحت مقيدة فى توريد صفقات تكنولوجية لروسيا، بعد أن أوقفت أكبر صفقة تسلح مع روسيا.
وثالثها، تشغيل مصانع فى المناطق التي تسيطر عليها فى أوكرانيا التي تمثل قاعدة تصنيع عسكري أقرب إلى المدرسة الروسية، لكن السلطات الأوكرانية تسعى إلى الحيلولة دون الوصول إلى العديد من المصانع، فقد أوقف أحد المصانع فى أوديسا التي لم تسيطر عليها روسيا بعد.
ورابعها، التصنيع المحلي، وهو خيار، كما سلفت الإشارة، قد لا يلبي الاحتياجات فى الزمن المطلوب، بالإضافة إلى احتمالات الافتقار إلى عامل الدقة الذي قد لا يكون بالجودة نفسها.
على العكس من ذلك، فإن أوكرانيا ستستفيد من الإمدادات الغربية التي تكاد تصل إلى حد الإغراق بالأسلحة، لكنها أيضاً ستواجه بعض الإشكاليات، ومنها على سبيل المثال:
1- مضاعفة الإنتاج: وفق تقارير التسلح الأمريكية، فإن الحرب قد تصبح ربحية بالنسبة لـ"كارتل" الإنتاج العسكري الأمريكي الذي بات الأقرب إلى الإدارة الأمريكية، ويحظى باهتمام بالغ منها، وسيستفيد هذا "الكارتل"، على الأقل، بنصف المبلغ الذي وافق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي. لكن الإدارة تواجه ضغوطاً من نوع آخر، منها تحميل تلك الكلفة على دافع الضرائب، بما يفرضه من تداعيات سياسية قد تواجهها الإدارة فى المستقبل القريب، لا سيما مع انتخابات التجديد النصفي. إلا أن الأمر لا يتوقف على صفقات التسلح فقط، بل على كلفة الانخراط الأمريكي فى الحرب ولو بطريقة غير مباشرة، إذ تكشف استطلاعات الرأى الأمريكية عن رفض واضح للمشاركة المباشرة وخروج قوات للمشاركة فى حرب خارجية.
من ناحية أخرى، هناك أيضاً تحدٍ فى مضاعفة الإنتاج، كما هو الحال بالنسبة لروسيا، بفارق توفر الإمكانيات التكنولوجية. فعلى سبيل المثال، تقوم شركة لوكهيد مارتن (Lockheed Martin) بإنتاج نحو ألف وحدة من منظومات "جافلين" (Javelins) سنوياً، وهو أقل من التوريدات المطلوبة بكثير. ومع أن الصادرات الأمريكية السابقة لأوكرانيا أثرت، إلى حد كبير، على المخزون الأمريكي (يفترض حجز 200 وحدة لاحتياجات الدفاع الأمريكية وتصدير ما يقارب 800 منها)، فإن توجيه كافة الإنتاج حتى فى حال الزيادة - بمقدار نصف الإنتاج الحالي (1500 وحدة)- إلى أوكرانيا يعني أنه سيتم تجميد التعاقدات الخارجية، خاصة مع دول الناتو التي أمدت كييف بمخزون كبير من تلك الأسلحة وفى انتظار تعويضها عنها، وهو أمر لن يكون فى صالح تلك الشركات. وفى المقابل، يبدو أن هناك بدائل محدودة منها توريد صواريخ مثل "TOW" لكن الملاحظ أنه لا يجري التركيز على هذا البديل كثيراً.
2- شبح التجربة الأفغانية: شكلت منظومات "Stinger" سلاحاً حاسماً فى الحرب الأفغانية فى زمن الاتحاد السوفيتي عندما حملها من كانت تسميهم واشنطن "المجاهدين الأفغان"، وكانت هناك سهولة وسرعة فى عمليات التدريب، لكن لم تتمكن واشنطن من جمع تلك الأسلحة فى نهاية المطاف من الأفغان، وأصبحت لاحقاً مع غزو الولايات المتحدة الأمريكية لأفغانستان بعد هجمات سبتمبر 2001 بمثابة بندقية صنعتها لتصوب فى وجهها. وقد أثيرت هذه المخاوف حتى فى مجلس الشيوخ الأمريكي، خاصة وأن واشنطن لا تعلم على وجه الدقة إلى من يصل هذا السلاح، أو ما يعرف بـ"المستخدم الأخير"، خاصة وأن هناك تقارير دولية متخصصة مثل Small Arms Survey أفادت بأن قدراً كبيراً من الأسلحة التي منحت لأوكرانيا بعد أزمة القرم فقدت أو نهبت في ظل عمليات فساد هائلة داخل الأخيرة، التي تحتل مرتبة متقدمة على لائحة الفساد الدولية، وبالتالى قد يكون المستخدم الأخير هو "طالبان" جديدة فى أوكرانيا، ناهيك عن بعض الإشارات التي أثارها نواب بأن المافيا الروسية نفسها قد تكون "مستفيداً أخيراً" منها أيضاً.
3- متطلبات التشغيل: بطبيعة الحال، هناك قائمة طويلة من الأسلحة التي ستوردها واشنطن إلى أوكرانيا، ولم يعد الأمر يتعلق بـ"Javelins" و"Stingers" أو حتى الطائرات من دون طيار مثل "Switchblade" و"Phoenix Ghost"، فالبعض منها سيحتاج إلى فترات من التدريب، والبعض الآخر سيحتاج إلى صيانة دورية مثل هاوتزر "M 777"، وبالتالي سيتعين على واشنطن وحلفائها الغربيين الاستعانة بمقاولين آخرين لهذا الغرض خارج أوكرانيا، لكن داخل الأخيرة ستكون هناك صعوبات فى استكمال هذه الدورة.
فى الأخير، من المتصور أن كلاً من الطرفين الروسي والغربي يتقاسمان وجود تحديات وتعقيدات هائلة فى ظل استمرار الحرب الروسية فى أوكرانيا، ومن المؤكد تنامي هذه التحديات والتعقيدات إذا ما اتسعت ساحة الحرب، وهو سيناريو وإن كان لا يزال غير وارد حتى الآن رغم استمرار سياسة الباب المفتوح مع مساعي ضم كل من فنلندا والسويد للناتو، لكنه يظل محتملاً. الأمر الآخر، يتعلق بنهج سباقات التسلح التي يخوضها الطرفان الروسي والأمريكي على هامش تلك الحرب، مع الوضع فى الاعتبار أن الكلفة لا يتحملها طرف واحد بل أيضًا يتقاسمها الطرفان، بل يمكن القول إنه على عكس الشائع بأن روسيا ستتحمل كلفة اقتصادية أكبر، فإن "الناتو" هو من يتحمل القدر الأكبر من هذه الفاتورة، ففى الأخير تصل كلفة الحرب لدى روسيا إلى قرابة 900 مليون دولار فى الشهر على أقصى تقدير، لكن بالنسبة للقوى الغربية قد تصل إلى متوسط يتجاوز المليار دولار شهرياً (الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مولت أكثر من 3 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة الأولى للحرب).
فى المقابل، فإن كلفة القيود على موسكو قد تكون الأكبر إن لم تتمكن من إيجاد بدائل كفيلة بسد فجوة التسليح، لا سيما فيما يتعلق بالاحتياجات التكنولوجية، مع الوضع فى الاعتبار أنه لا يمكن التقليل من قدرات روسيا فى هذا الجانب فى ظل الانتقادات من جهة أو السخرية من جهة أخري من تطلع روسيا للقيام بهذا الدور، لكن سيتعين عليها قطع شوط كبير فى عمليات التصنيع والتجريب. وتحت ضغوط من هذا النوع، ربما سيتعين على روسيا وقف تمددها خارج إقليم الدونباس أو على الأقل التمدد بشك محدود في الساحل الجنوبي. وفى المقابل، يتعين على الدول الغربية في إطار تعاملها، وفق سياسات ردع دفاعي فى أوروبا ضمن الترتيبات الدفاعية الجارية، أن لا تستفز روسيا لجرها خارج الحدود الأوكرانية أو يفرض تهديداً عليها بشكل قد يدفعها إلى مغامرات غير محسوبة أكثر مما عليه الوضع الحالي.