أخيراً انعقدت الانتخابات البرلمانية اللبنانية التي حذر الكثيرون من احتمالية تأجيلها أو إلغائها. صوت اللبنانيون يوم الأحد 15 مايو الجاري (2022) على انتخاب 128 عضواً للبرلمان مقسمين مناصفة بين المسلمين والمسيحيين ثم ينقسم كل نصف مرة أخرى على أساس مذهبي لتمثيل المجتمع اللبناني شديد التنوع الطائفي. وكان يفترض أن يزيد عدد مجلس النواب الجديد 6 مقاعد تكون مخصصة حصراً لتمثيل اللبنانيين في المهجر، ولكن نظراً لتأخر إجراءات تعديل القانون لإضافة هذه المقاعد الجديدة، صوت المغتربون لاختيار كل المقاعد الـ 128 وليس فقط المقاعد الست المشار إليها، وهو ما انعكس بشكل حاسم على نتائج الانتخابات، حيث أسقط تصويت المغتربين بعض المرشحين وأنجح البعض الآخر في اللحظات الأخيرة وكان النجاح في هذه الحالة حليف قوى التغيير والمعارضة.
تحديات المقاطعة والمخالفات الانتخابية
واجهت الانتخابات تحديات كثيرة، منها دعوات المقاطعة التي اعتبرت أن الانتخابات تحصيل حاصل ولن تغير شيئاً في هيكل السلطة اللبنانية وسيطرة النخبة الحاكمة على البلاد. ولعل أول الداعين إلى المقاطعة كان رئيس الوزراء السابق سعد الحريري الذي انسحب باكراً من السباق الانتخابي، تاركاً الطائفة السنية بلا تمثيل بارز. وقد عزز من دعوات المقاطعة وخاصة في صفوف السنة، غرق قارب هجرة غير نظامية قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات في طرابلس، مركز ثِقل السنة في الشمال، مما أدى بالأهالي الغاضبين إلى التوعد بإفشال الانتخابات أو مقاطعتها على أحسن تقدير، وهو ما حدا ببعض رموز السنة في لبنان بتوجيه دعوات مقابلة للمشاركة الكثيفة يوم الانتخابات، وأبرز هذه الدعوات جاء من رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ومفتى السنة في لبنان عبد اللطيف الدريان.
دعوات المقاطعة كانت إشكالية للغاية، خاصة أن هذه الانتخابات هي الأولى في لبنان منذ اندلاع الحراك الشعبي في 17 أكتوبر 2019 وأيضاً بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة وكذلك بعد تفجير مرفأ بيروت، مما يعني أن كل حدث من هذه الأحداث الكبرى التي هزت استقرار لبنان قد ولّد جمهوراً جديداً يريد أن يغير النخبة الحاكمة أو على الأقل أن يعاقبها انتخابياً. ولذلك كان متوقعاً أن تكون المشاركة كثيفة لقلب المعادلة البرلمانية في لبنان والإتيان بأغلبية جديدة كي تنفذ سياسات مغايرة لتلك السياسات التي أوصلت لبنان إلى الوضع المتردي الراهن. ولكن الآمال التي كانت معلقة على قوى المجتمع المدني والقوى التي خرجت من رحم الحراك المدني قد تبددت لفشل هذه القوى في التوحد في قوائم انتخابية موحدة في مختلف الدوائر الخمسة عشر.
إذ كانت قوائم الحراك الشعبي أو قوائم التغيير، كما أطلق على الكثير منها، متشرذمة ومتعددة ومتنافسة فيما بينها بدلاً من أن توحد جهودها لمنافسة رموز النخبة الحاكمة. وهكذا توزعت أغلب القوائم في مختلف الدوائر اللبنانية بين قائمة للسلطة الحاكمة تجمع التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل وحلفائهم وبين قائمة أخرى للقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الأحرار أو حزب الكتائب وهؤلاء اعتبروا أنهم يمثلون التيار السيادي، بينما كانت قوى التغيير تتوزع على أربعة أو خمسة قوائم في كل دائرة. ولذا يأس البعض من تحقيق التغيير عبر التصويت لقوى المجتمع المدني وقرر التصويت لأصحاب التيار السيادي، وهؤلاء من القوى التي تسمي نفسها معارضة وتعارض سلاح حزب الله وتعارض السياسات الخاطئة التي انتهجها الرئيس ميشال عون خلال سنوات حكمه وتريد تغيير معادلة السلطة الحالية، ولكنهم في نفس الوقت جزءاً لا يتجزأ من النخبة السياسية التي ثار عليها اللبنانيون منذ ثلاثة سنوات.
واجهت الانتخابات تحدياً آخر تمثل في المخالفات الانتخابية الكثيرة التي وقعت، بعضها كان سلمياً ولكنه مرتبط بالرشاوى أو التوجيه المباشر للناخبين داخل لجان الانتخاب أو خرق الصمت الانتخابي. ولكن البعض الآخر كان عنيفاً مثل الاشتباك بين مندوبي المرشحين داخل اللجان أو التراشق بالحجارة خارجها وتكسير خيام المندوبين وأيضاً محاولة دهس أحد المرشحين بواسطة سيارة مُسرعة يقودها مندوب عن مرشح آخر. حيث سجلت الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات LADE مخالفات انتخابية[1] تصل إلى نحو 3500 مخالفة في يوم الانتخابات فقطـ، وذلك غير المخالفات التي حدثت بفترة الحملة الانتخابية قبل يوم الانتخاب. فالمخالفات التي سُجلت خلال الحملة الانتخابية تتعلق بتخطي سقف الإنفاق الانتخابي بشكل مبالغ فيه وشراء الأصوات مقدماً، فضلاً عن الحملة الدعائية السلبية التي تراشق بها المرشحون فيما بينهم. فأغلب الدعاية السلبية تركزت على التخوين والاتهام المتبادل بالعمالة سواء لإسرائيل أو إيران، أو التورط المباشر في تبديد أموال اللبنانيين وضياع قيمة ودائع البنوك والموافقة والتورط في السياسات الحكومية الفاشلة التي أوصلت لبنان لمصير الإفلاس الراهن. ومن شأن هذه المخالفات أن تُرصد في تقرير يتم رفعه إلى المجلس الدستوري الذي ينظر في الطعون الانتخابية ليقرر إذا ما كانت ترقى إلى إلغاء أصوات اللجان التي حدثت بها أما لا.
مفاجآت النتائج وجدل انخفاض المشاركة
جاءت نسب المشاركة في الانتخابات متوسطة أو معقولة كما وصف رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، حيث بلغت المشاركة (في داخل لبنان) نحو 41% من أصل 3.9 مليون ناخب، وفي ذلك تراجع عن الانتخابات الماضية، حيث كانت المشاركة 49% في انتخابات 2018، وهو ما يفسر بالأساس بعزوف قسم كبير من السُنة عن التصويت، حيث كانت أقل المشاركات في بيروت وطرابلس – حيث الثِقل السني- بينما أعلاها في كسروان وجبيل –حيث المنافسة المسيحية الحامية. فيما كانت المشاركة كثيفة للغاية أيضاً في مناطق الشيعة في الجنوب مما جعل الحاصل الانتخابي- أو العتبة التي يجب على كل مرشح تخطيها لدخول مجلس النواب- عالية للغاية. ويتم حساب الحاصل الانتخابي باحتساب عدد الأصوات المقترعة مقسوماً على عدد المقاعد المخصصة للدائرة وبالتالي كلما زادت نسبة المشاركة كلما كان الحاصل الانتخابي – أو بمعنى أدق سعر المقعد محسوباً بعدد الأصوات- كبيراً مما يصعب على قوى التغيير الدخول إلى البرلمان، لأنها تحتاج إلى عدد أصوات أكبر وهذا صعب تحقيقه في ظل انقسامها بين 4 أو 5 قوائم في كل دائرة.
وعلى عكس الداخل، كانت انتخابات المهجر كثيفة المشاركة، حيث شارك فيها 63% من المسجلين في دوائر الانتخاب بالسفارات اللبنانية، وهو ما يدعو للتأمل في فارق نسب المشاركة في الداخل والخارج. هناك من يرى أن عامليّ الزمان والمكان قد أثروا على اختلاف نسب المشاركة بهذا الفارق الكبير، فتصويت المهجر قبل أسبوع من انطلاق الانتخابات الفعلية في البلاد قد جعلهم على مسافة من الدعاية السلبية التي تبادلها المرشحون خاصة في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات. كما أنهم لم يتأثروا بتوقعات شركات الإحصاء التي كانت تقلل في توقعاتها من احتمالية فوز قوى التغيير وتعتبر أن مصيرهم الوحيد هو تشتيت الأصوات، مما أدى، ربما، إلى تثبيط المتحمسين لانتخاب قوى التغيير. فضلاً عن أن الناخبين في الداخل ربما قد يكونوا قد تأثروا بارتفاع أسعار الوقود وكان من الصعب عليهم تحمل تكلفة الانتقال إلى قراهم ومدنهم الأصلية حيث لجان الاقتراع فيما هم مقيمون للعمل بالعاصمة أو بمنطقة أخرى. تكلفة الانتقال عادةً ما كان يتحملها كل حزب سياسي لتشجيع مناصريه على التصويت له، وهذا ربما تكرر بكثافة هذا العام، ولكن قوى التغيير لا تملك من المال الكافي لتوفير هذه الميزة الانتخابية لمناصريهم، وهي ميزة لا تخلو من شبهة فساد بطبيعة الحال. فيما يرى آخرون أن انخفاض نسب التصويت في الداخل ليست عائدة إلى إحجام اللبنانيين عن التصويت، بل تعود لعدم تنقية لوائح الناخبين من أسماء المتوفين خلال العاميين الماضيين فبدا أن جموع من لهم حق التصويت أكبر من الحقيقة وبالتالي انخفضت نسبة المشاركة.
أهم المفاجآت التي حملتها الانتخابات كان تقدم (أنصار السيادة) السياديين وخاصة من حزب القوات اللبنانية، الذي حاز 20 مقعداً بعد أن كان يسيطر على 14 فقط في الانتخابات السابقة، وهو ما انعكس على تراجع التيار الوطني الحر منافسه الأبرز الذي تراجع رصيده إلى 18 مقعداً وقد يحاول ضم 3 آخرين من الناجحين من حزب الطاشناق إلى تحالفه. ولكن ذلك لا يُغير من مشهد تبادل الأدوار، فحليف حزب الله المسيحي تراجع أمام تقدم القوات اللبنانية التي تعارض سلاح حزب الله والتي أصبحت أكبر كتلة مسيحية بل وأكبر كتلة موحدة داخل البرلمان، وفي ذلك دلالة كبيرة. أما حزب الله نفسه فقد حافظ مع حركة أمل على احتكار كل المقاعد الشيعية (27 مقعداً) ولم يتمكن أى من خصومه الشيعة من الحصول على أي مقعد. تقدمت بعض الوجوه البارزة لقوى التغيير في كل من بيروت بدائرتيها الأولى (مقعدين) والثانية (3 مقاعد) وأيضاً في الجبل (3 مقاعد) وفي البقاع (مقعد)، كما في الشمال (4 مقاعد) وفي الجنوب (مقعدين) وهي أصعب الدوائر على الإطلاق لأنها من معاقل حزب الله، وبذلك تكون الحصيلة النهائية للمحسوبين على قوى التغيير والمجتمع المدني نحو 15 مقعداً وهي قابلة للزيادة إذا ما التحق بهم أحد من النواب المستقلين.
كما زادت كتلة الكتائب من 3 إلى 5 مقاعد، وحاز نواب المستقبل السابقون الذين ترشحوا رغم مقاطعة الحريري على 6 مقاعد وحافظ الحزب التقدمي الاشتراكي على مقاعده الـ9، بينما خسر الدروز الموالون لحزب الله مقاعدهم لصالح قوى التغيير. وبذلك يكون ما خسره حزب الله منحصراً في مقاعد حلفائه من الطوائف الأخرى سواء الموارنة أو الأرثوذكس أو الكاثوليك أو حتى الدروز والسُنة، ولكن في الحقيقة هو خسر الأغلبية العددية داخل البرلمان وأصبح بالكاد يحوز مع حلفائه نصف المقاعد فقط أو أقل بقليل. والأهم أنه قد خسر عدداً من الوجوه البارزة التي كانت تدل على وجود حاضنة شعبية مريحة داعمة لسلاحه ضمن الطوائف الأخرى مثل فيصل كرامي وإيلي فرزلي ووئام وهاب وطلال أرسلان وأسعد حردان، مما قد يوحي بأفول مرحلة هذه الأسماء السياسية الكبيرة وإفساح المجال لأسماء أخرى لتحتل المشهد السياسي اللبناني.
استحقاقات ما بعد إجراء الانتخابات
لاتزال التشكيلة الجديدة للبرلمان اللبناني في طور التبلور، فالقوى التي لم تتحالف أثناء الانتخابات ربما قد تتحالف داخل المجلس، والقوى التي دخلت لأول مرة ربما تقرر أن تشكل كتلة وازنة تنضم إلى كتلة السلطة تارة في بعض القضايا وكتلة المعارضة تارة أخرى بشأن قضايا أخرى. ولكن المؤكد أن الناخبين اللبنانيين قد عاقبوا نواب السلطة مما أدى إلى خسارتهم الأغلبية المريحة التي كانوا يتمتعون بها وأصبحوا على مشارف أغلبية عددية ضئيلة قد يفقدوها عند طرح بعض القضايا الخلافية. وفيما تقلصت كتلة السُنة التي كان يعبر عنها الحريري، أصبحت اليوم مشتتة وليس لها ممثل بارز يمثلها بشكل موحد ولكن أبرز وجوهها اليوم هم إبراهيم منيمنة من المجتمع المدني وأسامة سعد من التيار الشعبي الناصري وعبد الرحمن البزري وفؤاد المخزومي من المستقلين. فيما لاتزال التحليلات الإحصائية مشغولة بتحديد عدد النواب الموالين لحزب الله والمعارضين له ولمن ستكون الأغلبية ولمن ستكون المعارضة. ويبدو أنه بخلاف الكتلتين الكبيرتين المحسوبتين على قوى 8 و14 آذار، توجد كتلة ثالثة مكونة من قوى المجتمع المدني والمستقلين التي لن تكون محبذة لفكرة الاصطفاف الآذاري القديم (نسبة لتحالفات 8 و14 آذار) ولكنها تقف على أرضية جديدة تنطلق من احتياجات تشرين في إشارة إلى الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين (أكتوبر) عام 2019. ومن هنا ربما تصريحات النكاية والتشفي التي صدرت من الرابحين وخاصة حزب القوات لن تكون مؤهلة للاستمرار طويلاً في ظل رغبة القادمين الجدد إلى مجلس النواب في كسر حالة الاستقطاب المعطل للاستحقاقات القادمة.
وينتظر لبنان أربعة استحقاقات متتالية: الأول، اختيار رئيس جديد لمجلس النواب، فحزب الله سيطرح حليفه نبيه بري، ولكن القوى السيادية المعارضة وقوى التغيير ستعارض، وبذلك ستكون هذه المواجهة الأولى. ربما قد تنحو حركة أمل إلى طرح أسماء أخرى من صفوفها تفادياً لإحراج نبيه بري من جراء رفض إعطائه أغلبية قوية لانتخابه رئيساً لمجلس النواب، وهنا تصبح عناية عزالدين وقبلان قبلان أقوى الأسماء المرشحة من بعده.
والثاني، إجراء الاستشارات النيابية واختيار رئيس جديد للوزراء ليخلف ميقاتي الذي ستصبح حكومته حكومة تصريف أعمال لحين تشكيل أخرى. قد يطرح اسم ميقاتي مرة أخرى وقد تختار القوى الجديدة والسيادية اسماً آخر، وربما قد يكون من أحد النواب السُنة البارزين السابق ذكرهم، ولكن على كل حال ستكون موافقة حزب الله مفصلية لاختيار اسم الرئيس الجديد للحكومة.
والثالث، تشكيل الحكومة فعلياً وتوزيع حصص الوزارات على الكتل البرلمانية الجديدة، وقد تتمسك بعض القوى ببعض الوزارات مما قد يعرقل سرعة تكوين الحكومة. وهنا لابد من التذكير بأن تشكيل آخر حكومة قد استغرق 13 شهراً تعاقبت خلالها ثلاثة أسماء لرئاسة الحكومة.
والرابع، اختيار رئيس الجمهورية خلال أربعة أشهر من الآن، وفي هذه معركة حقيقية لأن هناك ثلاث قوى أساسية تجد في نفسها القدرة للتقدم لمنصب الرئيس: القوات اللبنانية المناوئة لحزب الله وتيار المردة والتيار الوطني الحر وكلاهما حليف لحزب الله وهو ما يشكل بالأساس مأزقاً لهذا الأخير. هذا دون إضافة وزن قوى المجتمع المدني التي ستطرح حتماً أسماء مقابلة لرئاسة الجمهورية بصرف النظر عن قدرتها الفعلية في الوصول إلى موقع الرئاسة الأولى في لبنان.
وإجمالاً، يمكن القول إنه إذا ما تم البت في كل استحقاق من هذه الاستحقاقات الأربعة بشكل منفصل ربما ستتكون الحكومة سريعاً ويتم إنقاذ الاقتصاد اللبناني على نحو عاجل، ولكن إذا تم الربط بين هذه الاستحقاقات بحيث تتم المساومة المتبادلة عليها بين حزب الله وحلفائه من جهة، وخصومه من جهة أخرى وقوى التغيير من جهة ثالثة، فإن ذلك قد يُنذر بتعقد الأوضاع أكثر فأكثر ويؤخر من تكوين الحكومة، وبذلك يكون اللبنانيون قد انتخبوا أزمة أخرى وليس حلاً للأزمة.