"ترجمة إرادة الناس حتى تأتى الحلول الإقليمية المنتظرة"... هكذا لخص رئيس الوزراء اللبنانى نجيب ميقاتى أزمة لبنان الداخلية فى "الحلول الإقليمية"؛ ففى معرض حديثه عن العملية الانتخابية مع بدء اقتراع المغتربين فى الانتخابات التشريعية التى ستجرى فعاليتها داخلياً صباح اليوم الأحد الموافق 15 مايو 2022 الجارى، أشار ميقاتى إلى عمق الأزمة الداخلية التى يعانى منها لبنان، ومدى ارتباطها بحالة (التوافق أو عدم التوافق) الإقليمى والدولى نتيجة لارتباطات القوى الحزبية اللبنانية المتعارضة فى الداخل – كحزب الله وتيار المستقبل - بسياسات القوى الإقليمية والدولية - وتحديداً إيران والسعودية والولايات المتحدة- ومصالح تلك القوى، خاصة حزب الله، فى ملفات صراعية وأمنية إقليمية متعددة الحلقات ناتجة عن الانخراط العسكرى الفعلى فيها؛ كملف الأزمة السورية، والوضع الأمنى والسياسى فى العراق وتطوراته على وقع نتائج انتخاباته التشريعية الجديدة التى سجلت تراجعاً حاداً فى شعبية التيارات الشيعية المرتبطة بإيران، وعلاقة الحزب بمعادلة المقاومة فى إطار ملف الصراع الفلسطينى الإسرائيلى.
هذا بخلاف الارتدادات الناتجة عن تعثر مسار مفاوضات فيينا بين إيران والقوى الدولية بشأن البرنامج النووى على الداخل اللبنانى، فى سياق رفض إيران وضع ملفات انخراطها الإقليمى موضع مساومة فى معادلة برنامجها النووى. يضاف إلى كل ذلك الصراعات الدولية المستجدة؛ كأزمة أوكرانيا، وما أنتجته من تداعيات اقتصادية حادة على الداخل اللبنانى المأزوم فعلياً بأوضاع اقتصادية غاية فى التردى والتدهور.
متغيرات الداخل وارتباطاتها الإقليمية
تدخل أغلب القوى السياسية اللبنانية الانتخابات البرلمانية عدا تيار المستقبل، حيث أعلن رئيس الوزراء السابق سعد الحريرى، مقاطعة التيار للعملية الانتخابية، الأمر الذى يعنى خروج التيار - بقواعده الجماهيرية وقياداته الحزبية - من نطاق العملية الانتخابية. هذه المقاطعة تعنى إبقاء تيار المستقبل والأكثرية من التيار السياسى السنى خارج المعادلة السياسية الجديدة التى ستنتج عن تلك الانتخابات على مدار السنوات الأربع القادمة.
وبدون الدخول فى تفاصيل المشهد السياسى الحزبى وتفاعلاته، وجدوى إجراء الانتخابات فى ظل موازين القوى السياسية القائم، تبدو الظروف الإقليمية حاضرة وبقوة على المشهد الانتخابى الحالى، وهى ظروف تتحكم فيها إلى حد كبير حالة التوازنات الدولية الجديدة الناتجة عن الأزمة الأوكرانية، والتى ستغير بالضرورة فى أولويات القوى المنخرطة فيها تجاه ملفات الشرق الأوسط، خاصة وأن الأزمة أفرزت – حتى اللحظة – بوادر اصطفافات دولية جديدة ستؤثر بالضرورة على حالة التفاعلات الإقليمية فى المنطقة، والتى من بينها ملفات انخراط إيران الإقليمية، لاسيما تلك التى تتواجد بها جماعات ولائية سياسية كانت أو مسلحة؛ ففى لبنان لاتزال حالة الخلاف الرسمى بين مكوناته السياسية حول مدى شرعية امتلاك حزب الله للسلاح قائمة وبقوة، فضلاً عن الخلاف بشأن الدور العسكرى للحزب خارج لبنان، خاصة فى سوريا، وهى خلافات تتزايد وتيرتها مع كل انتخابات برلمانية جديدة بين التيارات السنية المدعومة من قبل السعودية، والتيارات الشيعية المدعومة من قبل إيران، وبينهما يبقى التيار السياسى المسيحى منقسماً بين قوى متحالفة مع حزب الله (التيار العونى)، وقوى أخرى مناوئة له كحزب القوات اللبنانية.
فى هذا السياق، ستؤدى المقاطعة الطوعية لتيار السنة الرئيسى الذى يمثله تيار المستقبل إلى إتاحة الساحة السياسية بالكامل لصالح حزب الله الذى - وبالرغم من معارضته إجراء الانتخابات فى موعدها - يتطلع إلى حصد أكثرية وازنة تمكنه وحلفائه فى المشهد السياسى (حركة أمل) و(التيار الوطنى الحر) من التحكم فى توجيه دفة الحكم فى القضايا المصيرية الداخلية وفى مقدمتها تعديل الدستور، وقضايا التفاعل الخارجية وفى مقدمتها توطيد حزب الله لتحالفاته الإقليمية مع إيران، وما قد ينتج عنها من قرارات مصيرية تتعلق بمسائل الحرب والسلام والاتفاقات والتحالفات.
فضلاً عن ذلك، فإن الحصول على الأكثرية البرلمانية من وجهة نظر حزب الله ستتيح له التأثير فى عملية انتخاب الرئيس، وفى تحديد رئيس الحكومة، وفى تشكيلها، وهو ما يعنى مزيداً من فرض الهيمنة الإيرانية على توجهات السلطة اللبنانية بما يكرس من الوضع الراهن الذى يخدم مصالح حزب الله، بل سيعمل الحزب على توظيف نتائج الانتخابات الجديدة لصالح مشاريعه الداخلية والخارجية، وهى نتائج لا تنبع من مشروعية شعبية، بقدر ما تنبع من خلو الساحة أمامه من القوى السنية السياسية المؤثرة من ناحية، واستمالته لبعض المستقلين المحسوبين على قوى التغيير من ناحية ثانية. هذه التطورات المحتملة ستفرض على القوى الدولية المناوئة لإيران القبول بنتائج الانتخابات، مادامت مخرجات العملية الانتخابية المتوقعة تمت وفق قواعد اللعبة الديمقراطية.
بينما تتطلع القوى الإقليمية من الدول العربية المناهضة لإيران، أن تغير نتائج الانتخابات الجديدة من موازين القوى القائم، اعتماداً على احتمالية أن يغير المزاج العام للبنانيين - الرافض لحالة الهيمنة الإيرانية التى يفرضها وجود حزب الله فى السلطة- من نتائج الانتخابات، وذلك على غرار ما أنتجته الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى العراق، والتى عكست مدى رفض العراقيين للتيارات السياسية المرتبطة بإيران وتحميلها المسئولية كاملة عن تردى الأوضاع على كافة المستويات.
مراهنة دولية وإقليمية
نبعت المراهنة الدولية والإقليمية بشأن احتمالية أن تغير نتائج الانتخابات اللبنانية من موازين القوى الداخلية، من حالة التهدئة الإقليمية التى سادت الشهور القليلة الماضية، والتى ارتبطت بمسار مفاوضات فيينا بشأن برنامج إيران النووى، وما تم الترويج له من احتمالية التوصل لاتفاق مؤقت تراجعت حظوظه بعض الشئ نتيجة لانشغال القوى الأوروبية والولايات المتحدة بالحرب الروسية فى أوكرانيا، فى الوقت الذى يرى آخرون أن اتفاقاً ما بين القوى الدولية وإيران، لا يشمل الدور الإقليمى للأخيرة، سيعنى مزيداً من الدعم الذى تقدمه طهران للجماعات والميليشيات والقوى المرتبطة بها سواء فى لبنان أو العراق.
وارتبطت تلك التطلعات أيضاً بحالة المرونة التى أبدتها السعودية تجاه الانتخابات اللبنانية عبر العديد من اللقاءات التى جمعت مسئولى وزارة الخارجية السعودية بنظرائهم الأمريكيين فى الرياض، وهى لقاءات أكدت على ضرورة إجراء الانتخابات فى موعدها، بخلاف كونها أحد بنود مبادرة الكويت التى قدمتها للحكومة اللبنانية خلال يناير 2022، وعبرت عن رؤية دول الخليج العربى تجاه معالجة الأوضاع الداخلية فى لبنان، يضاف إلى ذلك إعادة كل من السعودية والكويت لسفيريهما إلى بيروت مطلع إبريل الماضى، فى مقابل ذلك جاءت الزيارة التى قام بها وزير الخارجية الإيرانى حسين أمير عبد اللهيان لبيروت خلال شهر مارس 2022، بما تمثله من دعم لحزب الله وحلفائه، لتُوازِن حالة الحراك العربى المتواترة مؤخراً على الساحة اللبنانية.
ثمة من يرى فى حالة الانكفاء السنى، من خلال انسحاب تيار المستقبل من المشهد السياسى، تراجعاً لمحور السعودية فى لبنان، وهو المحور الذى طالما وفر دعماً واضحاً لشخص سعد الحريرى ورعاية إقليمية قوية لتياره السياسى؛ وإن اعترت تلك العلاقة العديد من العثرات التى بدأت مع تسويات عام 2016، وبمقتضاها قبلت السعودية وجود حليف حزب الله ميشيل عون فى منصب الرئاسة، وهى التسوية التى تلت إبرام الاتفاق النووى بين إيران والولايات المتحدة فى مايو 2015. ثم توالت عثرات تيار المستقبل فى لبنان بدءاً من استقالة سعد الحريرى من الرياض فى نوفمبر 2017، ثم استقالته الثانية فى أكتوبر 2019 على خلفية احتجاجات شعبية غير مسبوقة، وصولاً إلى أزمة سحب السعودية لسفيرها من بيروت فى أكتوبر 2021.
وسبقت عودة اهتمام الرياض بلبنان منذ شهر إبريل 2022، حالة انسحاب تيار المستقبل من الحياة السياسية، وتشكيل القوى السياسية لقوائمها الانتخابية، وسط تشرذم واضح للقوى السنية بعد انسحاب التيار الأبرز لها من المعترك الانتخابى، وهذا يعنى بالتبعية غياب المتغير السعودى فى معادلة الانتخابات اللبنانية - ونتائجها المتوقعة - خلال السنوات الأربع القادمة. وبناءً على ذلك، يمكن تصنيف العودة السعودية الأخيرة إلى لبنان بأنها تأتي في سياق احتمالين: إما أن ذلك مرتبط بمحاولة تعزيز الحضور السعودي في هذا الملف بالتوازي مع انعقاد جولات الحوار السعودي-الإيراني في العراق، وإما العودة إلى مسار الاشتباك الإقليمى مجدداً، وهو مسار بات محكوماً بمسار دولى أكبر منه تفرضه مستجدات وتطورات الأزمة الروسية-الأوكرانية الراهنة، فضلاً عن السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن تنتهي إليها مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي.
أما دولياً، فيدخل متغير استقرار الأوضاع الداخلية فى لبنان، وإبعاده عن تفاعلات المحاور الإقليمية المتعارضة ضمن اهتمامات كل من الولايات المتحدة وفرنسا؛ فبالنسبة للولايات المتحدة فهى تؤيد إجراء العملية الانتخابية فى موعدها، بغض النظر عن نتائجها، التى يتوقع أن يحصد عبرها حزب الله أكثرية برلمانية يعتد بها، من منطلق أن هذا سيوفر قدراً من الاستقرار النسبى للأوضاع الداخلية، بما ينعكس على حالة التهدئة مع الجانب الإسرائيلى؛ لأن استقرار لبنان أمنياً يعنى بالضرورة استقرار حدوده مع إسرائيل. حتى وإن كان استحواذ حزب الله على البرلمان يمثل فى مجمله تهديداً لإسرائيل، لكنه تهديد ظل وسيظل محكوماً بإطاره الإقليمى والدولى الذى يكبح بدوره الوصول لحالة المواجهة العسكرية على مدار السنوات الماضية.
فثمة من يرى أن التأثير الأمريكى فى الداخل اللبنانى بات يتجاوز أوراق اللعبة السياسية، إلى أخرى تتمثل فى أوراق التأثير ذات الأبعاد الاقتصادية؛ كالمساعدات المالية، وترسيم الحدود البحرية مع الجانب الإسرائيلى، بخلاف حالة التعاون العسكرى والأمنى، والتى يأتى فى مقدمتها دعم المؤسسة العسكرية اللبنانية، لكنها (أى الولايات المتحدة) لا تمتلك فى الوقت نفسه رؤية استراتيجية شاملة تجاه الوضع الداخلى. وفيما يخص علاقة الولايات المتحدة بحزب الله ودوره فى المشهد السياسى فتظل مرتبطة بعلاقة واشنطن بطهران وتابعة لنمطها، لاسيما تلك المتصلة بالبرنامج النووى.
أما بالنسبة لفرنسا؛ فهى تهتم أيضاً باستقرار الأوضاع اللبنانية الداخلية بغض النظر عن نتائج الانتخابات البرلمانية، وإن كانت تولى اهتماماً ملموساً بإعادة الزخم للدور السياسى للقوى المسيحية. كما يوفر إتمام العملية الانتخابية بيئة صالحة لإتمام صندوق النقد الدولى مساعداته الاقتصادية بما يساعده على مواجهة حالة التردى والانهيار الاقتصادى.
ختاماً، فإن تفاعلات الداخل اللبنانى - المقبل على انتخابات برلمانية - تؤشر على صعوبة حدوث تغيير فعلى فى المعادلة السياسية القائمة التى يحظى فيها حزب الله بنفوذ سياسى واضح، وأن النتائج المتوقعة لتلك الانتخابات قد تكرس من وضعه المتقدم فى هذه المعادلة، ومن ثم يصبح التغيير الفعلى مرهوناً بحالة التفاعل الخارجية بين القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان، وتحديداً إيران والسعودية والولايات المتحدة، ومستجدات هذا التفاعل سواء فى ملفات الصراعات الإقليمية التى تنخرط فيها إيران، أو مستجدات مفاوضاتها بشأن برنامجها النووى، أو مستجدات الحرب الروسية-الأوكرانية بناءً على دور المتغير الأمريكى والروسى فيها، وهو ما يعنى بقاء لبنان واستقراره داخلياً رهناً بالتوصل إلى "حلول إقليمية- دولية" ناجزة.