دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى، خلال حفل إفطار الأسرة المصرية فى السادس والعشرين من شهر أبريل الفائت، إلى حوار وطنى، لقيت ترحيبا واسعا، وفتحت نقاشا مهما من جانب مختلف القوى والنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية. وفى تقديرى، أن هذه الدعوة تفتح نقاشا إضافيا حول التأصيل لـنموذج مصرى فى التحول. التحول المقصود هنا يشمل التحول الاقتصادى جنبا إلى جنب مع التحول السياسى، على نحو يمكن معه القول إننا بتنا أمام نموذج مصرى واضح الملامح فى هذا المجال. وفى تقديرى، يمكن الحديث عن ثلاث سمات أساسية لهذا النموذج المصرى.
السمة الأولى، أنه لا ديمقراطية دون دولة قوية فاعلة. وينصرف مفهوم الدولة القوية هنا إلى ثلاثة أبعاد رئيسية. الأول، أنها دولة لا تواجه تحديات أمنية كبيرة. الثانى، أنها تقوم على مشروع وطنى، لا ينازعه مشروعات أخرى موازية أو بديلة للدولة من جانب الفاعلين من غير الدول. الثالث، أنها دولة تقوم على احترام مبدأ المواطنة، بمعنى ألا تتأسس الحقوق والواجبات فيها على الدين أو اللون أو العرق. خلال الفترة منذ يناير 2011 وحتى سنوات قليلة بعد يونيو 2014 واجهت الدولة المصرية هذا التحدى المركب والخطير, سواء لجهة وجود تنظيمات إرهابية مثلت تهديدا أمنيا ضخما، أو لجهة وجود مشروعات بديلة للدولة الوطنية (دينية بالأساس)، أو لجهة اهتزاز مفهوم المواطنة بشكل خطير، واتجاه لفرز المواطنين على أساس الدين، بل وعلى أساس درجة الإيمان. مثل هذا النمط من الدول، أو فى ظل هذه التحديات الخطيرة، لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية مستدامة. الحالة المصرية هنا لا تمثل استثناء من الخبرات الدولية والإقليمية. فى هذا السياق، نستطيع أن نفهم الحضور القوى لمفردات مثل تثبيت الدولة، والدولة الوطنية، والمواطنة، وغيرها من المفردات ذات الصلة، فى الخطاب السياسى لرئيس الجمهورية منذ 2014 وحتى الآن. وتقديرى أن مصر قطعت شوطا كبيرا فى اتجاه بناء هذه الدولة القوية الفاعلة.
السمة الثانية، هى الانطلاق من مفهوم للديمقراطية يتجاوز مكونها الإجرائى، المتمثل فى الانتخابات والاستفتاءات.. إلخ. ورغم أن مصر قد التزمت بهذا المكون فى معظم مراحل تطورها السياسى، لكن التجربة الراهنة استلهمت درسا مهما من خبرة المرحلة التالية على يناير 2011، والتى انتهت بهيمنة تيار دينى تعامل مع قضية الديمقراطية، أو بالأحرى المكون الإجرائى منها، باعتبارها وسيلة لفرض مشروعه السياسى والدينى على الدولة والمجتمع. الدرس الأساسى هنا، وهو السمة الثانية فى هذا النموذج المصرى، أنه لا ديمقراطية حقيقية دون تنمية، بما يتضمنه ذلك من انحياز واضح لنمط التنمية العادلة، التى تقوم على ضمان حقوق كل الأقاليم المصرية فى التنمية. ورغم أن هذا النمط من التنمية يفرض أعباء ضخمة على الدولة ومؤسساتها، وذلك على العكس من نمط التنمية غير المتوازنة، والتى تفضل تركيز التنمية فى مراحلها الأولى على إقليم أو قطاع محدد، وهو ما أخذت به تجارب تنموية عديدة أخرى فى العالم (منها الصين، والهند). لكن مصر انحازت إلى نمط التنمية المتوازنة لاعتبارات تتعلق بالعدالة التنموية والاجتماعية أيضا. نستطيع أن نفهم فى هذا السياق، تركيز الدولة المصرية خلال السنوات الثمانى الماضية على التنمية باعتبارها أولوية، ونشر المشروعات القومية فى مختلف الأقاليم، بما فى ذلك مشروعات تنمية البنية التحتية، وحسم مشكلات تاريخية مثل السكن من خلال المشروع القومى للإسكان، وانتهاء بمشروع حياة كريمة الذى يتعامل بشكل مباشر مع قضية الفقر خارج القاهرة الكبرى.
العديد من التجارب العالمية، خاصة فى آسيا، أجلت قضية التحول الديمقراطى بشكل كامل لحين تحقيق هدف التنمية. أى من هذه التجارب لا يمكن محاكاتها بشكل حرفى، إذ تظل لكل تجربة ظروفها الخاصة. لكن يظل للنماذج الآسيوية بشكل عام وجاهتها، على الأقل من زاوية ضرورة وضع النموذج التنموى على المسار. لذلك، ستظل قضية التنمية هى القضية الأولى للدولة المصرية.
السمة الثالثة، أن عملية التطور السياسى هى عملية تدرجية تراكمية، وهى نتيجة طبيعية للسمتين السابقتين، إذ لا يمكن إنجاز عملية التطور الديمقراطى فى خطوة واحدة، أو جرعة واحدة، إذ يتنافى ذلك مع اعتبار أن الديمقراطية هى ظاهرة تتجاوز المكون الإجرائى، لتشمل مكونات اقتصادية وثقافية ومؤسسية لا تقل أهمية، بما يتضمنه ذلك من ضرورة نشر القدرات الاقتصادية والتنظيمية داخل المجتمع، وبناء الأطر المؤسسية للدفاع عن المصالح وتمثيلها، جنبا إلى جنب مع تنظيم التفاعلات السياسية. صحيح أن الأحزاب السياسية تمثل أطرا مهمة لا يمكن الاستغناء عنها فى عملية التطور الديمقراطى، لكن الأطر الأخرى لا تقل أهمية لتنظيم التفاعلات والمصالح الاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع، الأمر الذى يُعطى وزنا كبيرا للفاعلين المهنيين وغير السياسيين (النقابات، جمعيات رجال الأعمال، منظمات المجتمع المدنى.. إلخ). لا شك أن ضرورة إدراك القوى السياسية والاجتماعية فى مصر لهذه الطبيعة الخاصة لعملية التطور الديمقراطى، بتعقيداتها المختلفة، يضمن، أولا، استدامة تلك العملية، ويحافظ، ثانيا، على مكتسبات المراحل السابقة قبل الانتقال إلى مرحلة تالية، كل ذلك وفق عملية خطية تراكمية مستقرة.
هذه السمات الثلاث تؤكد حقيقة أخرى لا تقل أهمية، وهى أن عملية التطور الديمقراطى فى مصر هى عملية وطنية، تمتلكها الدولة المصرية، جنبا إلى جنب مع النخب الوطنية، محكومة فى ذلك بالمحددات الداخلية والمصالح الوطنية المصرية، لا علاقة لها بأى متغيرات خارجية، وليست جزءا - بأى حال من الأحوال - من مشروعات خارجية. ويعيدنا ذلك إلى خبرة مرحلة ما بعد يناير 2011، والتى استندت فيها عمليات التطور السياسى فى المنطقة إلى مشروعات خارجية، أو على الأقل استقواء فصائل معروفة بقوى دولية. النموذج المصرى بعد يونيو 2013 يؤكد عدم القابلية لفرض أى نماذج من الخارج، وأنه لا يمكن لأى عملية تطور أن تكون إلا من خلال الدولة المصرية، ووفق مشروع وطنى، وفى ظل دولة وطنية قوية.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 22 مايو 2022.