د. وحيد عبد المجيد

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

يمر النظام السياسى والمجتمع فى فرنسا بأزمة آخذةٍ فى التراكم منذ فترة طويلة لأسباب فى مقدمها جمود الأحزاب التقليدية التى تقع فى وسط الخريطة السياسية، وتقلص الفروق بينها بعد أن أخذ يسار الوسط خطوات إلى اليمين، واتجه بين الوسط يسارًا بدرجة أو درجات، وتنامى بالتالى الشعور فى أوساط الأجيال الجديدة بأن الانتخابات لا تُحقَّق تغييرًا، فى الوقت الذى ازدادت معدلات التفاوت والتهميش الاجتماعى، وبلغت مستوياتها الأكثر ارتفاعًا فى السنوات العشر الأخيرة.

وكانت الانتخابات الرئاسية عام 2017 هى النقطة التى ظهرت عندها تجليات هذه الأزمة بشكل أكثر وضوحًا من أى وقت مضى. فقد تراجع يسار الوسط ويمينه، بعد أن ظلا فى الصدارة حتى انتخابات 2012، التى تنافس فيها مرشحاهما فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزى. وما أن انتهت تلك الانتخابات، حتى بدأ العد التنازلى لإسدال الستار على أهم ما ميز الجمهورية الخامسة التى أُسست عام 1958، وهو غلبة تيارى الوسط الرئيسيين، وتداولهما على السلطة نحو ستة عقود.

دراما التحول المأزوم

دشنت الانتخابات الرئاسية عام 2017 تحولاً دراماتيكيًا عبر بوضوحٍ عن المدى الذى بلغته الأزمة فى النظام السياسى والمجتمع. غادر تيارا الوسط اللذان شكلا أهم ملامح الجمهورية الخامسة حلبة المنافسة، وأحالهما الناخبون على التقاعد بعد أن عجزا عن إحداث أى تجديد سواء فى بنيتهما أو اتجاهاتهما. وصعد إلى مقدمة الحلبة مرشح مر مرورًا عابرًا على يسار الوسط ممثلاً فى الحزب الاشتراكى، ثم صار أكثر يمينيةً من يمين الوسط حين تولى الرئاسة عام 2017. ولكن ناخبين كُثُرًا اعتبروه من خارج الطبقة السياسية فأقبلوا عليه، فيما كسر آخرون حاجز الخوف أو التخويف من مرشحة اليمين الراديكالى مارين لوبان.

وبدا عندها أن فرنسا تتجه نحو استقطاب سياسى خطير بين نسخة مختلفة من يمين الوسط أكثر ميلاً إلى النيوليبرالية بدون تطابق معها، ونسخة جديدة من اليمين الراديكالى أكثر قدرة على التواصل مع الجمهور والخروج من أسر صورة نمطية شديدة السلبية لهذا التيار.

فقد وصل إيمانويل ماكرون ومارين لوبان إلى الجولة الثانية أو جولة الحسم فى انتخابات 2017. ونجحت مارين فى تحقيق قفزة غير مسبوقة لليمين الراديكالى، إذ حصلت على ثُلث أصوات الناخبين الذين اقترعوا، فيما لم ينل والدها جان مارى لوبان سوى 17.5% فقط فى المرة الوحيدة التى وصل فيها إلى جولة الحسم فى مواجهة جاك شيراك عام 2002.

وبرغم أن الفارق ظل كبيرًا فى انتخابات 2017 (66% لماكرون مقابل 34% لمارين)، كانت هذه قفزة غير مسبوقة لتيار اليمين الراديكالى. وبدا حينذاك أنها ليست سوى بداية لها ما بعدها، وأن هذا التيار حجز مكانًا فى الصفوف الأمامية فى السباق على قيادة فرنسا. وكان ذلك التوقع صحيحًا، إذ أظهرت الانتخابات الرئاسية فى أبريل 2022 أنه آخذ فى التقدم. فقد وصلت مارين إلى جولة الحسم فى مواجهة ماكرون للمرة الثانية، وحققت تقدمًا جديدًا، إذ حصلت على أكثر من سبع نقاط إضافية مقارنة بما نالته فى انتخابات 2017 (41.4% مقابل 34%). وبدا قريبًا من الواقع ما قالته فى كلمتها أمام أنصارها عقب ظهور النتيجة شبه النهائية مساء 24 أبريل، وهو أن اليمين الراديكالى بات على عتبة قصر الإليزيه، وأن هذه النتيجة أقرب إلى النصر منها إلى الهزيمة. وهى كذلك فعلاً، ولكن من زاوية محددة هى التقدم الذى حققته، والتراجع الذى مُنى به ماكرون من 66% عام 2017 إلى 58.6% فى 2022.

حسابات مُعقدة لا تُغيَّر طبيعة الأزمة

وصلت مارين إلى جولة الحسم فى الانتخابات الرئاسية بفارق بسيط عن مرشح اليسار الراديكالى الذى حقق مفاجأة جان جاك ميلانشون. ولهذا يعتقد بعض الدارسين والمراقبين أن صعود اليمين الراديكالى قد لا يتواصل، أو يمضى فى خط مستقيم، لأن اليسار الراديكالى ينافسه بقوة. ويُبنى هذا الاعتقاد على أن ازدياد تشرذم أحزاب وتيارات اليسار الوسطى والراديكالى فى انتخابات 2022 هو الذى أتاح وصول مارين إلى جولة الحسم. ولهذا الاعتقاد أساس فى الواقع فعلاً، برغم أنه يرتبط بحسابات مُعقدة.

فقد جاء ميلانشون فى المرتبة الثالثة فى الجولة الرئاسية الأولى بعد ماكرون ومارين. وحصل على 21.95% من الأصوات بفارق 1.20% فقط، أى متأخرًا  بنقطة واحدة تقريبًا عن مارين. وكان ممكنًا أن يُقلب هذا الفارق لمصلحة ميلانشون فى حالة عدم ترشح واحد فقط من ثلاثة مرشحين يساريين نافسوه، وحصلوا مجتمعين على 8.7% من الأصوات، أو إقناع المرشحين التروتسكيين اللذين ترشحا لمجرد إثبات وجود هذا التيار الذى يمثل أقصى اليسار الماركسى، وحصلا معًا على 1.3% من الأصوات.

ويمكن أن يُدفع فى مواجهة هذه المجادلة بأن حساب الأصوات الانتخابية أكثر تعقيدًا، لأن التشرذم ليس مقصورًا على اليسار. فبالطريقة نفسها، يجوز القول إنه كان ممكنًا أن تحصل مارين على 32.3% فى الجولة الأولى فى حالة عدم ترشح إريك زيمور الذى نال 7.2%، ونيكولا ديبون الذى حصل على 2.1% من الأصوات. وكذلك الحال بالنسبة إلى ماكرون الذى كان ممكنًا أن يحصل على 35.5% فى الجولة الأولى فى حالة عدم ترشح فاليرى بيكريس التى حصلت على 4.8%، وجان لاسال الذى نال 3.1% من الأصوات.

ومع ذلك يظل فى إمكان المجادلين بأن ميلانشون كانت لديه فرصة متساوية على الأقل للصعود إلى جولة الحسم الدفع بأنه لم يكن ممكنًا أن ينسحب زيمور أو ديبون لمصلحة مارين. ولكن كان ممكنًا جدًا أن يمتنع الحزب الشيوعى عن ترشيح فابيان روسيل، وأن يدعم ميلانشون، لأن هذا هو ما حصل فعلاً فى انتخابات 2017، وقبلها فى انتخابات 2012. ولو أنه حدث مجددًا فى 2022 لحصل ميلانشون على 24.3% من الأصوات بفارق أكثر من نقطة عن مارين، ولكن خلافات على مسألة الطاقة النووية حالت دون ذلك.

وأيًا يكون الأمر، وحتى إذا افترضنا جدلاً أن ميلانشون هو الذى صعد إلى جولة الحسم فى مواجهة ماكرون، فلا يغير هذا شيئًا فى طبيعة الأزمة الفرنسية، وجوهرها المتمثل فى اتجاه متسارع نحو استقطاب حاد يقف أحد طرفيه فى أقصى الخريطة السياسية سواء من اليمين أو اليسار، فيما يتركز الثانى فى منطقة ما فى الوسط.

وظيفة تاريخية لانتخابات يونيو 2022 التشريعية؟

تحظى الانتخابات التشريعية باهتمام محدود فى الجمهورية الخامسة، ليس بسبب طبيعة النظام شبه الرئاسى فى حد ذاته، ولكن لأن معظم دورات هذه الانتخابات جاءت بأغلبية نيابية موالية لرئيس الجمهورية، الأمر الذى أعطاه صلاحيات أوسع مما ينص عليه الدستور، نتيجة سيطرة حزبه أو أنصاره فى الجمعية الوطنية.

ولم تُخرق هذه القاعدة إلا مرتين فى تاريخ الجمهورية الخامسة الذى يصل إلى نحو ستة عقود ونصف العقد. المرة الأولى عام 1986 حين أخفق الحزب الاشتراكى فى الحصول على أغلبية نيابية تساند الرئيس فرانسوا ميتران، فاضطر إلى تعيين زعيم يمين الوسط حينذاك جاك شيراك رئيسًا للحكومة. وحدث العكس عام 1997 عندما فقد حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية (يمين الوسط) الأغلبية فى انتخابات 1997، فكان على جاك شيراك وقد صار رئيسًا تعيين زعيم الحزب الاشتراكى (يسار الوسط) ليونيل جوسيان رئيسًا للحكومة.

وربما يكون فى إعادة إنتاج هذا السيناريو فى الانتخابات التشريعية التى ستُجرى الشهر المقبل إنقاذُ لفرنسا من أخطار تفاقم الاستقطاب السياسى-الاجتماعى الذى تزداد حدته يومًا بعد يوم. فقد لا يتيسر تجسير الفجوة الآخذة فى التوسع، بسبب ازدياد شعبية كل من اليمين واليسار الراديكاليين اللذين يقف كل منهما فى أحد طرفى الخريطة السياسية، بدون تعايش يبدأ اضطراريًا بين أحدهما والرئيس ماكرون الذى صار حزبه الفضفاض الممثل الوحيد للوسط السياسى بعد التراجع المهول الذى لحق بالحزب الاشتراكى وحزب الجمهوريين اللذين يمثلان يسار الوسط ويمينه. ولعل الخطر الأكبر، بين أخطار هذا الاستقطاب، أن تسفر الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027 عن فوز مرشح اليمين الراديكالى سواء أعادت مارين الترشح للمرة الرابعة، أم دفعت بأحد قادة حزبها (التجمع الوطنى). فلم يعد هذا الاحتمال بعيدًا أو مستبعدًا، بل كان قريبًا فى انتخابات أبريل الماضى، والأرجح أنه سيصبح أقرب بعد خمسة أعوام. وهذا الاحتمال أرجح من فوز مرشح اليسار الراديكالى، وخاصة فى ضوء توقع اعتزال ميلانشون، أو توقفه عن خوض الانتخابات، بسبب تقدم العمر به، الأمر الذى قد يُضعف هذا التيار بدرجة ما، لأن جزءًا من صعوده ارتبط بشخصية زعيمه الحالى وقدراته الخطابية المؤثرة، وغيرها من السمات الكاريزماتية التى يتمتع بها. وهذا فضلاً عن أن أقطاب الرأسمالية المالية ذوى النفوذ الهائل، ومعهم كبار الأثرياء والفئات الاجتماعية العليا، سيتكتلون فى مواجهة مرشح اليسار الراديكالى، أكثر مما قد يفعلون فى حالة ازدياد احتمال فوز مرشح اليمين الراديكالى.

وسواء صار ساكن الإليزيه ممثلاً لليمين أو اليسار الراديكاليين، سيكون هذا تحولاً دراماتيكيًا يقلب أوضاعًا مستقرة فى فرنسا رأسًا على عقب، إذا حدث بدون تمهيد فعلى. وليس أفضل من المشاركة فى الحكم سبيلاً إلى هذا التمهيد. ويمكن أن يحدث هذا فى حالة واحدة هى فشل حزب ماكرون (اسمه الآن عصر النهضة، بعد أن كان حتى أيام مضت الجمهورية إلى الأمام) فى المحافظة على أغلبيته النيابية. وفى هذه الحالة، يمكن أن يخلق تركيب الجمعية الوطنية الجديدة فرصةً لأى من مارين أو ميلانشون لتشكيل أغلبية جديدة ترغم الرئيس الفرنسى على اختيار أحدهما لتشكيل الحكومة. وتبدو فرصة ميلانشون أكبر نسبيًا حتى كتابة هذا المقال، بخلاف ما تدلنا عليه الحسابات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية 2027 والتى تُفيد أن فرصة مرشح اليمين الراديكالى فيها ربما تكون أكبر من اليسار الراديكالى, وفق المعطيات الراهنة القابلة للتغير وخاصةً فى حالة تمكن اليسار الراديكالى من تشكيل حكومة بقيادة ميلانشون عقب الانتخابات التشريعية الوشيكة، ونجاحها فى التعايش بشكلٍ سلس مع ماكرون وحزبه.

وتعود قوة مركز ميلانشون النسبية فى اللحظة الراهنة إلى نجاح حزبه (فرنسا الأبية) فى إبرام اتفاقات مع الأحزاب اليسارية الثلاثة الأخرى (الشيوعى والخضر والاشتراكى) على نحو يُتيح له خوض الانتخابات التشريعية على رأس تحالف يسارى واسع. وفى المقابل، ترفض مارين التحالف مع حزب زيمور (استعادة فرنسا) وغيره من المنشقين على حزبها (التجمع الوطنى).

والمهم، هنا، هو أن مشاركة أي من اليسار أو اليمين الراديكاليين فى إدارة شئون البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة سيخلق حاجة متبادلة إلى التفاهم والتعايش بين أى منهما، والتيار الذى يقوده ماكرون.

ويحدث مثل ذلك عادةً لاضطرار الراديكاليين إلى التحرك خطوة أو أكثر باتجاه الوسط، على النحو الذى سعت مارين لأن تقوم به خلال حملة انتخابات أبريل الرئاسية بالفعل، وانتقال الوسطيين بدورهم خطوة أو أقل نحو اليمين أو اليسار حسب اتجاه رئيس الحكومة.

ولهذا تكتسب الانتخابات التشريعية المنتظرة أهمية غير مسبوقة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، لأن نتيجتها ستؤدى إما إلى استمرار الاستقطاب وتعميقه فى حالة محافظة حزب ماكرون على الأغلبية النيابية، أو ستخلق فرصة لتقليل حدته ثم تقليصه، وربما أيضًا وضع حد له، فى حالة تشكيل ميلانشون، أو حتى مارين، الحكومة المقبلة.

وبرغم صعوبة توقع ما يمكن أن تسفر عنه هذه الانتخابات، يبدو السيناريو الذى يتيح تشكيل حكومة بقيادة اليمين أو اليسار الراديكاليين أضعف نسبيًا ولكنه أقوى مما كان فى 2017. ويعود ذلك إلى أن الانتخابات التشريعية تخلفت عن الرئاسية فى غلبة الاهتمامات المحلية فى تحديد سلوك الناخبين واخياراتهم. ومازال حضور اليمين واليسار الراديكاليين على المستوى المحلى أقل من دورهما على الصعيد الوطنى العام. ولهذا يميل القادة المحليون، سواء الذين يترشحون أو يؤثرون فى الناخبين، إلى الارتباط مع التيارات الوسطية التى تهتم بالقضايا المحلية أكثر من تلك التى على يمينها أو يسارها، وخاصةً أن ماكرون صار الممثل الرئيسى –أو الوحيد فعليًا- لهذه التيارات بعد تهميش أهم أحزابها التقليدية. غير أن صمود التحالف بين أحزاب اليسار الأربعة يمكن أن يُقوَّى فرصته، وفق نتائج استطلاعات أُجريت فى مطلع مايو 2022، ومفادها أن هذا التحالف قد يحصل على نحو ثلث الأصوات فى الجولة الأولى، وقد يتساوى تقريبًا مع ما يُتوقع أن يناله حزب ماكرون وأنصاره الوسطيون.  لكن الأمر قد يختلف فى جولة الانتخابات الثانية، التى يمكن أن يستفيد ماكرون فيها من غلبة الاهتمامات المحلية الأوسع فى قضايا التعليم والصحة والمرافق وغيرها، والتى يتفوق المرشحون غير المسيسين فيها، وخاصةً من يُكرَّسون جهودهم لها بدون أن يُشغلهم عنها شاغل سياسى.

ومع ذلك، لا يمكن إغفال أهمية ازدياد الاستياء من سياسات الرئيس ماكرون وحزبه فى السنوات الماضية، الأمر الذى أفقده فى انتخابات أبريل 2022 أكثر من 7% من الأصوات التى حصل عليها فى انتخابات 2017. وكان هذا واضحًا فى أجواء حملتى الانتخابات الرئاسية فى جولتيها الأولى والثانية.

ويقود الاستياء عادة إلى تصويت عقابى حصل فى انتخابات أبريل الماضى، وسيحدث بالضرورة فى انتخابات يونيو، ولكن يبقى من الصعب توقع المدى الذى قد يبلغه وخاصةً فى ضوء لامركزية هذه الانتخابات بخلاف الاقتراع الرئاسى.

ولعلها المرة الأولى، فى تاريخ الجمهورية الخامسة، التى سيهتم فيها العالم بانتخابات تشريعية. ولا غرابة فى ذلك، فالانتخابات التى ستُجرى جولتها الأولى فى 12 يونيو المقبل مختلفة كثيرًا عن سابقاتها، وربما تدخل التاريخ إذا فتحت نتيجتها الباب أمام تعايش اضطرارى، ولكنه ضرورى للحد من الاستقطاب، بين تيار ماكرون وأحد التيارين الراديكاليين الرئيسيين.