ينطلق العنوان من تساؤل عاكس للواقع المجتمعى المصرى، ومعبر عن الجدل النظرى والعلمى المهتم بدراسات العقل فى أبعاده الفلسفية والاجتماعية والثقافية. وبعيدا عن الجدل النظرى والنقاش النخبوى، فقد سعت “أحوال مصرية” من خلال تناولها لموضوع “العقل المصرى” أن تطرح عدد من القضايا التأملية المتعلقة بالذاكرة الجمعية والضمير الجمعى والفجوة بين الأجيال وما شهده المجتمع من متغيرات ومستجدات أخذت سبيلها نحو الملامح العامة للتفاعلات الاجتماعية والبنيان الاجتماعى، ومن ثم ترسخت فى الذاكرة الجمعية وانعكست فى سمات ما يمكن تسميتها بالشخصية والخصوصية المصرية.
فقد جرت مياه كثيرة فى روافد هذا العقل الذى تشكل وتطور عبر حقب تاريخية ممتدة، أعادت تشكيل منظوره وأفكاره وقيمه، ومع الإقرار بامتداد التغيير والتطور إلى الأفكار والقيم قبل السلوكيات، إلا أن العديد من الركائز والثوابت التى بدت فى كثير من الأوقات والمراحل قد تراجعت نجدها فى أوقات أخرى قد عاودت الظهور لتبدو كسمات وخصائص للمصريين. ولكن يظل التساؤل حول الذاكرة الجمعية وحدود وعينا الذاتى كأمة بنت وطنا ودولة، فضلا عن إقامة مجتمع متوافق على الكثير من القيم والأطر الثقافية وقادر على التعايش التشابكى، بل وشعب قادر على فرض ثقافته وروحه وقيمه على كل وافد إليه. هذا التساؤل وغيره الكثير يثيره الواقع الراهن وما يشهده من تفاعلات وسلوكيات عاكسة لتحولات بنيوية فى التفاعلات الاجتماعية وفى الشخصية المصرية، كنتيجة لحجم التغييرات الثقافية والفكرية والاجتماعية التى تتجلى فى سلوكيات المصريين حاليًا.
أولا: تساؤلات مطروحة
يشير الواقع بدوره إلى الروافد المغذية للعقل المصرى ومدى تغيرها وتعددها وتغير الوزن النسبى لتأثيرها على تشكيل الوجدان الوطنى، وانعكاساتها على مفاهيم الهوية والأمة والدولة، ومردود ذلك على العقل الجمعى المصرى وحدود انعكاسه على تفاعلات المواطن وسلوكه تجاه جماعته والمجتمع والدولة.
يشير الواقع أيضا إلى أهمية التسأول عن جملة الركائز والثوابت التى شكلت العقل المصرى على مدى الحقب التاريخية والأزمنة القديمة، ومدى حقيقة رسوخ هذه الثوابت وقدرتها على إصباغ هذا العقل بسمات وخصائص فرضت معها نوع من الخصوصية المصرية عن محيطها الإقليمى، وجعلتها صانعة لواحدة من أقدم وأعرق الحضارات التى عرفتها الإنسانية، رغم مرورها بالعديد من المحن ودورات الضعف.
يشير التساؤل كذلك إلى ماهية الثوابت وعلاقاتها الارتباطية بالسياق والبيئة والزمان، وماهية الثوابت والمتغيرات، وعلاقات التأثير البينية، ومردود ذلك على الذاكرة الجمعية وامتداداتها وتأثيراتها السلوكية.
هذه التساؤلات وغيرها تقودنا إلى التساؤل عن الواقع الراهن، وحدود إمكانية التساؤل عن الثوابت والروافد، بل والتساؤل حول واقعية تلك التساؤلات فى ظل حركة المجتمع والتغيرات المتسارعة التى يشهدها، وحالة السيولة التى تفرض إيقاعها على مستوى الأفكار والقناعات والثقافة والقيم، ومن ثم تأثيراتها على تشكيل وجدان ونسيج هذا المجتمع الذى يعانى مثل غيره من المجتمعات من تأثيرات العولمة والثورات التكنولوجية والقفزات العلمية والمعرفية التى تعيد تشكيل الكثير من الأعراف والتقاليد والعادات التى كانت تبدو أنها ثوابت مجتمعية تصل إلى درجة التقديس.
ثانيا: روح الأمة وهويتها
فرضت سمة وخصائص الأمة نفسها على الشعب المصرى عبر التاريخ، تلك الحقيقة التى تجسدت فى مواضع عديد قديما وحديثا، تعبر بوضوح عن قوة البنية الوطنية التى جمعت هذا الشعب وشكلت وعيه الذاتى وحافظت عليه كمجتمع متماسك، وهنا يمكن الإشارة إلى العديد من المؤرخين الذين شكلوا المدرسة التاريخية الحديثة من أمثال محمد رفعت، ومحمد صبرى، ومحمد شفيق غربال، وصبحى وحيد، وصبرى السوربونى، وجمال حمدان ودورها فى إبراز مراحل بناء الأمة المصرية فى مواجهة تحديات ومخاطر الاحتلال والغزو الثقافى، وما حملته من ذاكرة وطنية وجمعية ساهمت بدورها فى تشكيل العقل المصرى وبيان روافده الفكرية والشعبية، حيث ساعدت هذه المدرسة على دراسة تاريخ مصر وكتابته كتابة علمية رصينة، تتكامل مع كتابات الحوليات والمخطوطات والآثار والتراجم.
بل ساهمت هذه المدرسة وروادها فى إظهار مراحل تشكيل وتطوير بنية الأمة المصرية، من خلال تحديد الهوية والذات المصرية، وإظهار مدى قدرتها على الاستمرار رغم العواصف والتحديات التى أحاطت بها عبر فترات زمنية ممتدة، وتعدد الثقافات الوافدة من الشرق والغرب.
فحائط السد المنيع الذى أحاط بتلك الهوية والشخصية وتكامل عناصرها فرض نفسه على واقع الفكر المصرى، وعلى تاريخها الممتد منذ أقدم العصور. صحيح أن دورات الاستنهاض والنهوض مقابل التراجع والضعف والوهن هي سلسلة من حلقات تاريخ الأمم، ولكن تظل محاولة معرفة مراحل الاستيقاظ وسبل إيقاظ وتغذية الروح الوطنية سبيلا للوقوف على دور الحركات الفكرية والنخبوية والمؤسسات القومية الدينية (الكنيسة، الأزهر) فى صياغة المشاريع النهضوية والحضارية، ومردود إيقاظ الروح القومية للجماهير، وتنشيط ذاكرتهم واستهدافهم بالإصلاح الاجتماعى، حتى تصدق مقوله محمد شفيق غربال أن “مصر هبة المصريين” في القرن الحادي والعشرين.
كما أن إدراكنا لطبيعة الواقع، بعيدا عن المقارنات بين فترات زمنية تتباين فى محدداتها ومرتكزاتها ومقوماتها، يعبر عن الهدف والغاية من استعراض بعض ومضات الفكر المصرى وتأثيره فى عمق وملامح الشخصية المصرية، وقدرته على تجاوز لحظات الضعف والوهن وربما الخضوع. بمعنى أن الوقوف على الإيجابيات والمحفزات التى توافرت لصياغة المشروعات النهضوية تاريخيا، تمثل استلهامًا لدور نخبتنا كروافع لهذه المشروعات وإمكانية تحويلها إلى واقع ملموس، ودور الشعب فى النهوض عندما تتحدد أمامه سبل تعظيم الروح الوطنية التى ساعدته دائما على تقوية بنيان هذه الأمة والمحافظة على تماسها.
ثالثًا: اعرف نفسك
تمثل نقطة البداية لفهم حجم التطورات والمستجدات التى تفرض نفسها على العقل والفكر المصرى، ومنطلق ضرورى لتنشيط الكثير من ومضات الذاكرة الجمعية التى ساهمت فى إيقاظ الروح الوطنية وغريزة التحدى والتعبير عن هوية الأمة المصرية، ومحددًا كاشفًا لتجاوز الكثير من اللبس والضبابية التى تحيط بإدراكنا لذاتنا ومسارات مستقبلنا.
إن الذاكرة الجمعية التى حملت الكثير من صور الارتقاء والنهوض الفكرى والحضارى المصرى، مطلوب تنشيطها استنادًا للحس المشترك وحالة التآلف التى جمعت المصريين وشكلت قوة الجماعة وصاغت النسيج الثقافى والاجتماعى من خلال الربط بين التاريخ والاستلهام التراثى. واستنادًا لواقع فرضه القرن الحادى والعشرين، وتحديات تمس عصب الهوية والذات بل إنها تمس الإنسانية بمنظومتها القيمية والأخلاقية، فالثورة التكنولوجية الرابعة والخامسة المتوقعة تستهدف الإنسان نفسه وفلسفة حياته، وسوف تفرض أدواتها وبيئتها وثقافتها، فتقنيات القرن الحادى والعشرين الرقمية سوف تكون الرافد الحاكم لصياغة العقل الإنسانى، وليس العقل المصرى فقط. لذا يظل التعامل المجتمعى مع روافد التكنولوجيا الرقمية مرتهنا بالقدرة على الخروج من متاهة الشبكات الاجتماعية وقدرتها على صياغة الوعى الجماعى.
كما أن أفكار ما بعد الدولة وما بعد المجتمع، تعنى تجاوز المؤسسات التقليدية للتنشئة، وتدفع نحو المواطن الرقمى، هذا التحدى وغيره من التحديات التى تلقى بظلال كثيفة على المجتمعات والمواطنين، لا تقتصر على المصريين، ولكن تبقى للشعوب والمجتمعات الحضارية رصيدها وعناصر قوتها الذاتية التى تستطيع من خلالها التعامل مع الواقع وتفهم دور ومسارات المستقبل.
ما يطرحه العقل المصرى حاليا يحتاج إلى تفكيك وتشريح وفهم دقيق لواقع شديد الالتباس ولمفترق طرق، ويحتاج لاستكشاف العقل الجمعى للإجابة على العديد من الأسئلة الصعبة والمفتاحية، المرتبطة بماهيتنا ودورنا في المستقبل، وتتحدد الاختيارات والثقافة الحاكمة.
وهو ما يقودنا للتركيز على مكون الإرادة التى حكمت العديد من الأحداث التى شكلت العقل المصرى وصاغت أفكاره وقيمه، وفكت الكثير من الطلاسم والتشابكات الثقافية والاجتماعية والفكرية، وشكلت ركائز بناء نظامه الاجتماعى كمدخل لبناء مشروع فكرى أو مشاريع متعددة قادرة على طرح التناقضات والتحيزات والمصالح وموازين القوى الاجتماعية والجدليات المجتمعية.
نحتاج لمشروع يستند إلى الإبداع والمعرفة والعلم والتكنولوجيا، مشروع يعى ما تم من تشكل جديد للعلاقات بين الطبقات والشرائح المجتمعية، ويطرح قضايا التجديد والوعى والإصلاح ويتجاوز حالة التغيب التى أصابت بعض مكونات العقل المصرى.
إذن التحديات عديدة والمتغيرات كثيرة وما أصاب العقل الجمعى من تشوه واضح، جميعها قضايا تطرح أهمية الوقوف أولا على إجابة تساؤل مفاده: هل نحن بصدد عقل جمعى مصرى واحد؟ أم إننا أمام تجليات لعقول متعددة؟.