نجح إيمانويل ماكرون في حصد ثقة الفرنسيين لولاية ثانية بمجموع أصوات 58.5%، وهو ما يعادل نسبة 38.5% من المسجلين في جداول الانتخاب فيما حصدت مارين لوبن منافسته من اليمين المتطرف 41.4% من الأصوات بما يعادل 27.2% من المسجلين[1]، حيث بلغت نسبة المشاركة نحو 80% بما يعادل 35 مليون فرنسي وفرنسية[2].
يحمل فوز ماكرون عدة دلالات عن سير الانتخابات الرئاسية الفرنسية. فرغم أنه الرئيس الفرنسي الأول الذي يُعاد انتخابه لولاية ثانية منذ حوالي 20 عاماً، إلا أن البعض يصور هذا الفوز وكأنه اضطراري حازه ماكرون ليس ثقةً به وبأسلوب حكمه ولكن خوفاً من صعود اليمين المتطرف ممثلاً في منافسته لوبن. ولعل مشهد الإعادة بين ماكرون ولوبن لم يكن جديداً على الساحة السياسية الفرنسية، فالانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2017 شهدت منافسة نفس المرشحيّن في الجولة الثانية. وقد أحرز آنذاك ماكرون 66% من أصوات الناخبين بما يعادل 43.6% من مجموع الناخبين المسجلين وأحرزت لوبن 34% من الأصوات بما يعادل 22% من مجموع الناخبين المسجلين[3]. وبالتالي، فهذا يضيف إلى فوز ماكرون نكهة خفيفة من الهزيمة لأن الثقة الفعلية فيه قد تراجعت في ولايته الثانية بنحو 8 نقاط مئوية بينما الثقة في لوبن تقدمت بنحو 8 نقاط مئوية أيضاً. وربما قد ساهم في ذلك تقييم فترة حكم ماكرون خلال السنوات الخمسة الماضية، فعلى عكس ما كان متوقعاً، لم يأت ماكرون بالتغيير الكبير الذي وعد به في سياسته الداخلية. ولذا فربما صوت الطامحون للتغيير هذه المرة إلى منافسته مارين لوبن.
مَن صوتّ لمَن؟
لعل الفارق بين نسبة الأصوات الفعلية لكلٍ من ماكرون ولوبن وبين نسبة هذه الأصوات في مجموع المسجلين في جداول الانتخاب يحمل بحد ذاته دلالات لا تقل أهمية عن دلالة إعادة انتخاب ماكرون. إذ أسفرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية هذا العام عن زيادة حجم كتلة الممتنعين عن التصويت، حيث قدرت في الجولة الأولى بـ26.3% ثم أصبحت في الجولة الثانية 28% وهو ما يعادل نحو 12.8 مليون و13.6 مليون على التوالي. ويعتبر المراقبون أن هذه الزيادة تعني أن الخيارات السياسية لاتزال غير قادرة على استيعاب احتياجات الفرنسيين التصويتية مما يدفعهم إلى العزوف عن التصويت. يُضاف إلى ذلك كتلة الذين صوتوا بأصوات بيضاء (6.3%) أو أصوات باطلة (2.2%) وهي النسبة التي تعادل مجتمعة نحو ثلاثة ملايين من المصوتين. وقد زادت نسبة الأصوات البيضاء والباطلة في الجولة الثانية بشكل ملحوظ، إذ كانت اقتصرت خلال الجولة الأولى فقط على ما يعادل نحو 800 ألفاً. ويكشف ذلك عن عدم رضاء الناخبين عن وصول المرشحين ماكرون ولوبن للجولة الثانية وخروج مرشحين آخرين كانوا يمثلون تعددية أكبر تستطيع استيعاب خيارات الفرنسيين السياسية.
إلى جانب ذلك، فقد ذهبت بعض الأصوات التي اختارت مرشحين فشلوا في دخول مرحلة الإعادة إلى كل من ماكرون ولوبن، فإذا كان إريك زيمور -الذي حاز (7%) في الجولة الأولى- قد دعا إلى التصويت لمارين لوبن، فإن جان لوك ميلانشون -الذي حاز (22%)- لم يدع في المقابل للتصويت لماكرون ولكنه دعا أنصاره لعدم التصويت لمارين لوبن، وهو الأمر المنطقي لأن أغلب الذين صوتوا لميلانشون كانوا ممن يحبذون الخيار اليساري الديمقراطي وماكرون أقرب إلى يمين الوسط، ومع ذلك، فإن ماكرون لم يستطع اجتذاب كل المصوتين لميلانشون في الجولة الأولى حيث فضل حوالي 45% منهم الامتناع عن التصويت في الجولة الثانية[4].
بينما حاز ماكرون أصوات المدن الكبرى وأصحاب الدخل المتوسط والمرتفع الذين استفادوا نسبياً من سياسته الخارجية والاقتصادية في تعزيز الانخراط الفرنسي في العولمة. كما أنه قد حاز أصوات من يخافون بشدة من خيارات لوبن الراديكالية التي كان من المتوقع أن تغير وجه فرنسا التعددي وتقلص من الحقوق الدينية التي يتمتع به المتدينون وخاصة من المسلمين واليهود. إذ هددت لوبن خلال المناظرة الرئاسية، قبل أيام من جولة الإعادة، بمنع الرموز الدينية كالحجاب من التواجد في الفضاء العام، وهو ما تلقفه ماكرون بمهارة معتبراً أن قراراً كهذا من شأنه أن يؤدي إلى اشعال حرب أهلية في فرنسا، ومن ثم أصبح ماكرون هو ملاذ من يخافون من هذه القرارات الراديكالية التي تنتقص من الحقوق الدينية للأقليات.
من جهة ثانية، لم يجد أنصار اليمين المتطرف من المصوتين لزيمور أية صعوبة في أن يتوحدوا خلف مارين لوبن ولكنها حازت أيضاً أصوات بعض الغاضبين الآخرين الراغبين في توجيه صدمة للنظام السياسي الفرنسي بصورته الحالية. ورغم هزيمة لوبن في الجولة الثانية، إلا أن تقدمها أصبح أمراً مقلقاً للغاية وربما يحمل دلالات أكبر على مستبقل تقدم اليمين المتطرف في المشهد الفرنسي. فبمجرد دخول زيمور إلى حلبة سباق الجولة الأولى سحب البساط الراديكالي من لوبن وأصبح هو المرشح الأكثر تطرفاً بامتياز، مما دفع لوبن إلى التراجع عن بعض خياراتها المثيرة للجدل فبدت وكأنها ضمن المساحة المعتدلة وأصبح يُشار إليها باعتبارها "يمين ذي قيم جمهورية" بعد أن أصبح زيمور هو الممثل الأوضح لـ"اليمين المتطرف". ورغم تخلي لوبن عن بعض خياراتها الأكثر راديكالية مثل الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أن وعودها بغلق باب الهجرة والتضييق على المسلمين كانت خيارات مقلقة للغاية للكثيرين خاصة من أبناء الضواحي والمدن الكبرى وأبناء المهاجرين[5].
ومع ذلك، فإن لوبن حازت مزيداً من الأصوات أكثر من الانتخابات السابقة عام 2017، إذ تقدمت في الأوساط الريفية التي وجدت أن سياسات ماكرون الزراعية لم تكن داعمة لها بالشكل الكافي. فالمناطق الريفية الشرقية سواء جنوباً أو شمالاً كانت هي الأكثر تصويتاً للوبن خلال الجولة الأخيرة من الانتخابات. ولذا يصبح من المقلق التفكير في الانتخابات القادمة، إذ من المتوقع أن تحوز لوبن المزيد من الأصوات إذا ما استمرت نفس سياسات عدم الاستجابة لمخاوف الريفيين متوسطي التعليم ومتوسطي الدخل الذين من السهل ترهيبهم من الغريب المهاجر ذي الثقافة والدين المختلفيّن. فسياسات الاندماج والتعايش وحماية التعددية الفرنسية لابد أن تستجيب لهذه المخاوف، وإلا سنكون أمام صعود أكبر لليمين المتطرف في الانتخابات في السنوات القادمة.
كيف سيحكم ماكرون في ولايته الجديدة؟
استهل ماكرون خطابه بعد الفوز بتوجيه الشكر للفرنسيين والفرنسيات الذين آمنوا به وانتخبوه، كما شكر من صوتوا له لمنع صعود اليمين المتطرف ووعد بالدفاع عنهم وضمان حرية وتعددية الآراء، ثم سارع بالإعلان أنه الآن رئيس لكل الفرنسيين[6]. ووعد ماكرون بتغيير أسلوب الحكم الذي انتهجه خلال السنوات الخمس الماضية، إذ وجهت لماكرون اتهامات كثيرة بأنه كثير الاعتداد برأيه مقتصر على التشاور مع مستشاريه وقليل الاعتماد على الحوار الوطني ضمن شرائح واسعة من المجتمع. كما كان يُتهم أيضاً باتخاذ سياسات مفاجئة حاسمة دون التشاور الكافي قبل إصدارها مما همّش بعض الفئات واستبعدها من العملية الموسعة لصنع القرار وعدم الاكتراث لما تحدثه هذه السياسات من شقاق وتفرق وطني أثر على مستوى التآلف بين الفرنسيين. ووعد أيضاً الرئيس الفرنسي المنتخب للمرة الثانية ببناء أمة فرنسية صديقة للبيئة تتخذ خيارات بيئية صائبة. كما تعهد بالإبقاء على حزمة الضرائب المفروضة على الوقود كما هي دون زيادة، وذلك تحسباً لارتفاع أسعار الوقود والتي بدأت تنعكس على السوق الفرنسية وتخفض من القدرة الشرائية للفرنسيين بشكل ملحوظ. ومن ثم وعد أيضاً ماكرون بإقرار قانون جديد لدعم القوة الشرائية للفرنسيين يتم تمريره قبل نهاية العام الجاري بالإضافة إلى التعهد بإقرار مشروع للقسائم الشرائية يتم تخصيصها للأسر الأكثر احتياجاً. يُضاف إلى ذلك بالطبع التعهدات السابقة التي أطلقها خلال حملته الانتخابية وعلى رأسها إقرار مبادرات تسمح بإصلاح وتحسين جودة المدارس، ودعم المزارعين وأيضاً تمديد سن المعاش إلى سن 65 عاماً.
لكن في الحقيقة يتوقف ماكرون في حكمه إلى حد كبير على تشكيل البرلمان الفرنسي الجديد، إذ ستنعقد الانتخابات التشريعية الفرنسية في يونيو القادم وسيترتب عليها تكوين كتل سياسية جديدة من شأنها أن تسهل عمل الرئيس الجديد أو تصعبه. فنجاح ماكرون في الانتخابات الرئاسية لا يعني بالضرورة أنه سيتمتع بأغلبية برلمانية توافق على مشاريع القوانين والسياسات التي سيقترحها. فالمرشحون الخاسرون بصدد التكتل في تحالفات سياسية تساعد على تحويل الكتلة التصويتية التي اختارتهم في الانتخابات الرئاسية إلى كتلة برلمانية تساهم في تغيير السياسات العامة من البرلمان بدلاً من الرئاسة. ولعل أبرز هذه التحالفات التي لا تزال في طور التكون تحالف يساري بين الحزب الاشتراكي وبين تحالف "فرنسا لا تخضع" التابع لجان لوك ميلانشون، إذ دخل الطرفان في مفاوضات بهدف التفاهم والتحالف في انتخابات يونيو القادم، وهي المفاوضات التي يمكن أن تتوسع لتضم أيضاً الحزب الشيوعي والخضر[7].
من جهة ثانية، رغم طموح مارين لوبن إلى تكوين أكبر كتلة معارضة في البرلمان، إلا أنها لا تبدو متحمسة كثيراً لقبول التحالف مع إريك زيمور لتكوين تحالف انتخابي خلال انتخابات يونيو القادم رغم دعوة الأخير لتوحيد الصفوف بينه وبين حزب "التجمع الوطني" الذي تقوده لوبن[8]. وبين الطرح اليميني المتطرف والطرح اليساري لابد لماكرون من تكوين تكتل من يمين الوسط اللبيرالي كي يتمكن من تمرير مشاريعه داخل البرلمان، وإلا قد يجد نفسه مضطراً لاختيار رئيس وزراء من خارج تيار يمين الوسط سواء كان من اليسار أو من اليمين المتطرف. ولذا فوعود ماكرون الرئاسية لن تكون قابلة للتحقيق إلا بعد تبيّن تشكيلة البرلمان القادم وبالتالي لون الحكومة القادمة. فالأنظار متجهة لانتخابات البرلمان في يونيو القادم التي وصفها ميلانشون وكأنها ليست فقط انتخابات تشريعية بل هي "الجولة الثالثة" للانتخابات الرئاسية.