أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

سلّط مؤتمر الحوار الوطني اليمني فى الرياض مؤخراً (29 مارس – 7 أبريل 2022) الضوء على جوهر المعضلة اليمنية المركبة الأبعاد والمتعددة الأزمات، حينما أشار بوضوح إلى أولوية مشروع "استعادة الدولة الوطنية"، باعتبارها "الفريضة الغائبة" فى ظل مآلات الحالة اليمنية. وبغض النظر عن المخرجات السياسية للحوار والتي تبدو تكتيكية، إلى حد كبير، فى إطار مقاربة الهوية والتسوية، إلا أنها تمثل استدراكاً استراتيجياً، بالنظر إلى أن اليمن يخوض معركتين متوازيتين: الأولى، هي معركة "السلاح"، والثانية هي معركة "الهوية".

وفى واقع الأمر، فى إطار الخبرة اليمنية التاريخية، والخبرة الإقليمية أيضاً التي تحمل قواسم مشتركة مع الحالة اليمنية، فإنه يصعب الفصل ما بين المعركتين، وبالتالي فإن فرضية إنهاء الصراع المسلح عبر تسوية سياسية ستظل فرضية منقوصة إن لم تحسم معركة "الهوية"، بل ستقود في الأخير إما إلى تسوية مهددة، أو "تمكين" الهويات المتصارعة على الهوية الوطنية.

ثمة إشكالية أخرى تتعلق بالمنظور الجهوي للصراع اليمني، حيث يتم اختزاله فى الصراع الشمالي الحوثي، علماً بأن انهيار النظام فى اليمن (2011) أعاد طرح دورة الهويات التاريخية التي تقلب عليها اليمن شمالاً وجنوباً، كـ"الدولة الإمامية"، و"الدولة الجنوبية" بطبعتها الأخيرة، ودولة "الجنوب العربي"، وصولاً إلى مساعي إعادة إحياء ثقافات وتراث سلطنات غابرة فى إقليم حضرموت على سبيل المثال.

ويعكس هذا السياق مؤشراً غاية فى الخطورة، فعبارة "تجريف المشروع الحوثي لهوية الدولة الوطنية فى اليمن" ربما من أكثر العبارات تردداً على منصة مؤتمر الرياض، فى حين أن واقع اليمن كاشف عن أن فكرة الدولة الحديثة العابرة لهويات ما قبل الدولة لم تتجذز فى الثقافة اليمنية عموماً، وبالتالي لا يقتصر الأمر على الحوثيين فقط، بل يمكن القول إن الواقع الحوثي هو ارتداد طبيعي لما جرى فى لحظة سقوط النظام وانهيار أدواته القابضة على السلطة، وهو سياق له سوابقه التاريخية أيضاً.

 لكن ما لم يحدث من قبل فى هذا الصدد، هو التزامن ما بين هذه المشروعات. فللمرة الأولى يتصادف الصراع من أجل إعادة إحياء دولتين فى اليمن: الأولى، فى إطار المشروع الحوثي فى الشمال والذي يقاتل على حدود جغرافيا "الدولة الإمامية"، ويعتبر مواصلة القتال حتى استعادة تلك الحدود عقيدة لا يمكن التراجع عنها. والثانية، فى إطار مشروع المجلس الانتقالي الجنوبي، والذي أصبح له محاربون يحملون السلاح تحت راية "دولة الجنوب" ودفاعاً عن جغرافيتها. وكافة المعارك التي شهدها الجنوب مع الحوثيين ثم مع قوات محسوبة على الشرعية إلى أن جرى توقيع اتفاق الرياض (2019) تؤكد هذا السياق. صحيح أن هناك تباينات عديدة ما بين المشروعين، لكنها تظل فوارق شكلية فى حدود الآليات والوسائل والخطط وليس الأهداف الاستراتيجية. لكن من المتصور أن المشروع الجنوبي قابل للاحتواء على نحو ما جرى فى الحوار الوطني الأخير فى الرياض، حيث أصبح الانتقالي أحد أبرز مكونات "الشرعية الجديدة" المتمثلة فى "المجلس الرئاسي اليمني"، لكن استمرار عملية احتوائه ستتوقف على إحباط المشروع الحوثي فى الشمال.

أبعاد معركة "الهوية" فى المشروع الحوثي

تعتبر المليشيا الحوثية أنها هزمت خصومها من "السلفيين" فى معركة "دماج" 2013، و"الإخوان المسلمين" عندما أطاحت بالشرعية فى صنعاء فى انقلاب سبتمبر 2014، والتي كان الإصلاح – الذراع السياسي للإخوان - يهيمن عليها، وبالتالي أزالت الخصوم فى معقلها السياسي فى صنعاء والديني فى صعدة، إضافة إلى أن تحالفها مع الرئيس الأسبق على عبد الله صالح نقل لها سريعاً ما تبقى من إرث نظامه ودولته. لكن التحدي الأكبر فى طريق التمكين للمشروع الحوثي هو الهيمنة على "الزيدية" نفسها، باعتبارها الحاضنة التي يتعين على الحوثي التمدد فيها، وهي نقطة إشكالية، فى سياق تعدد المناظير، فثمة منظور يرى أن الحوثي تمكن بالفعل من تطويع "الزيدية" ودلالة ذلك أنه لا توجد مقاومة تذكر من الأخيرة للمشروع الحوثي.

هذا السياق أيضاً له أصوله التاريخية المتمثلة في "الجارودية" – فكراً وحركة- والتي ينظر إليها باعتباره ثورية أيديولوجية سلالية على أرضية "الزيدية" لاسيما فيما يتعلق بقضية "الولاية" أو "الإمامة" المحصورة في سلالة "البطنين" من أبناء الإمام علي. لكن تمثلت النقلة النوعية فى مسار الطبعة المعاصرة من "الجارودية" التي أحدثها مؤسس الحركة حسين بدر الحوثي في فكرة "أعداء الأمة" (إسرائيل والولايات المتحدة) والتي تتضمنها "الصرخة الحوثية"، وإن كان بعض رواة التاريخ اليمني أشاروا إلى أن هذه الفكرة لها سوابق مع "الجارودية" فى مواجهة العثمانيين على سبيل المثال، وهو صراع له خلفية جيوسياسية تتجاوز حدود اليمن.

وبالتالي فإن فكرة أعداء الأمة التي أصَّل لها الحوثي حديثاً تقاطعت بطبيعة الحال مع النهج الإيراني مبكراً قبل خوض الحروب الستة فى اليمن (2004 – 2010) بل إن البعض يضعها فى سياق تاريخي يلي قيام الثورة الإيرانية مباشرة، فى إطار مشروعها لتصدير الثورة. وهنا يطرأ المنظور الآخر، وهو منظور إشكالي حول هوية المشروع الحوثي، باعتباره "طبعة إيرانية"، فالمشروع آل فى الأخير إلى الحاضنة الإيرانية وليس إلى الحاضنة "الزيدية".

ومن المتصور أن هذه الجزئية قد تكون نقطة الضعف الرئيسية فى الطبعة الحوثية وتطورها المرحلي، لاسيما وأنها أصبحت أسيرة المشروع الإقليمي الإيراني، الداعم لها سياسياً وعسكرياً، كما يمكن القول إن الحوثية لها مرجعية وربما "حوزة" تتمثل فى حسين الحوثي لكن ليس لها أئمة فعلياً، فإمامها الحالي شقيقه الأصغر- عبد الملك- ليس لديه أدوات يمكن أن تشكل قيمة مضافة لمشروع الحركة الفكري، فهو ليس أكثر من صدى أعلى صوتاً من شقيقه المُؤسس، خاصة مع هيمنة الحركة على المنابر ووسائل الإعلام والتواصل المختلفة. وبالتالي يتم الاعتماد أكثر على الشق الحركي فى تمكين المشروع الحوثي، وهو أمر له مظاهر لا حصر لها.

انعكاسات كارثية

تمدد المشروع الحوثي بمظاهره المذهبية على مدار ثماني سنوات تقريباً منذ انقلاب سبتمبر، وتنامت هذه المظاهر تصاعدياً، وكثيراً ما يشير مراقبون يمنيون إلى مقاربة "الإمامة والجهل"، وأن المشروع الحوثي لإحياء "الإمامة"، بطبيعة الحال، هو مشروع ظلامي لمن قدموا من كهوف "صعدة" وليس لديهم القدر أو الحد الأدنى من التعليم التقليدي، ويرون فى مشروعهم الأيديولوجي "المسيرة القرآنية" بديلاً للعلم والمعرفة.

والنتيجة أن هناك أكثر من ميلونى طفل فى سن التعليم خارج المدارس وفقاً لأحدث تقارير اليونيسيف، بسبب الحرب وتداعياتها، وبالتالى هم أدوات جيدة فى خدمة المشروع الحوثي، يدفع بهم إلى جبهات الحرب، ويعبئون فكرياً بالمنهج الحوثي فى الوقت نفسه. وفى واقع الأمر، لا يوجد فارق جوهري بينهم وبين من التحقوا بصفوف الدراسة، فالمناهج التعليمية ما هي إلا انعكاس للفكر نفسه، كما تحولت المدارس إلى أحد مصادر تجنيد المقاتلين من الجنسين، حيث يتم إلحاق البنات بدورة "الزينبيات" ويتم تأهيل الكثيرات منهن للقيام بدور فى هذا المشروع، وانتقل الأمر من المدارس إلى الجامعات، التي أغلق البعض منها، فيما أخضع البعض الآخر لخدمة المشروع الحوثي، وبالتالي أضاعت هذه الحرب جيلاً كاملاً، وهو ما سيكون له آثاره الكارثية فى المستقبل، بغض النظر عن نهاية الحرب من استمراريتها.

من اللافت أيضاً تنامي المظاهر المذهبية، وفرضها بقوة السلاح، فى صنعاء وخارجها، خلال شهر رمضان الجاري، حيث منعت صلاة "التراويح" فى العديد من المساجد وأحدها شهد معركة مسلحة، كما أجبر الحوثيون أئمة المساجد على تأخير موعد آذان المغرب عن توقيته الطبيعي، حتى زوال حمرة الشمس عند الغروب، وهي وغيرها مظاهر مرتبطة بالمذهب الشيعي، وإن كان هناك من يؤصل لها أيضاً بـ"العهد الإمامي" و"الفكر الجارودي" المتطرف بين فرق "الزيدية"، هذا فضلاً، بطبيعة الحال، عن فرض دروس الحوثي كوجبة دينية يومية تذاع فى المساجد وعبر الإعلام جبراً، وتقوض هذه المظاهر، من دون شك، السلام الاجتماعي والتعايش فى اليمن الذي كان ينظر إليه على أنه نموذج يصعب فيه التفرقة المذهبية ما بين "الشافعية" و"الزيدية".

تحدي "الدولة الوطنية" فى سياق مؤتمر الرياض

على الأرجح، قدم مؤتمر الرياض عنواناً هاماً حول فكرة الدولة الوطنية، لكنه لم يؤسس لها من خلال مضمون كافٍ، خاصة وأنه جرى الانتقال إلى عملية إعادة هيكلة السلطة، باعتبارها يمكن أن تمثل خطوة على طريق استعادة الدولة، وهي مقاربة تتماشى مع الخبرة اليمنية "السلطة هي الدولة"، فالمسألة تتعلق بـ"استعادة الدولة الوطنية" فى اليمن، وليس بناء أو تأسيس الدولة الوطنية أو الدولة الحديثة العابرة للهويات الأوّلية. وعَكَس الحوار اليمني فى الرياض خلطاً واضحاً حول ما هو المقصود بالدولة الوطنية، فتارة يتم التأكيد على النظام الجمهوري- ولا شك أن المشروع الحوثي عابر لهذه الإشكالية فعلياً خاصة أنه يتأسس على نمط النظام الايراني "مرشد ورئيس"- وتارة أخرى هناك تتم الإشارة إلى أن الهدف هو العودة إلى قواعد اللعبة فى عهد نظام على صالح، ولا شك أن هذا أمر غير وارد حتى وإن أصبح لورثة النظام السابق وزن وثقل فى الشرعية الجديدة، لكن يظل النظام السابق دورة فى عجلة التاريخ اليمني، بل قد تكون دورة عابرة إذا ما قورنت بالمشروعات التي تواجهها.

لكن من الأهمية بمكان القول بأن مؤتمر الحوار اليمني فى الرياض أعاد الاعتبار لفكرة الدولة الوطنية فى حد ذاتها، وهي خطوة أوّلية تظل بحاجة إلى البناء عليها لصياغة مشروع يمكن أن يقارع المشروعات الأخرى، لاسيما وأن القاسم المشترك فى نقاط الضعف لكافة المشروعات المطروحة هو أنها مشروعات جرى استدعاءها من التاريخ البعيد والقريب، بل إن الجدل أو ما يعتبره البعض العصف حول فكرة الدولة فى كواليس الحوار لم يكن أكثر من مباراة فى الجدل التاريخي سرعان ما انتهت حينما تم الإعلان عن تشكيل السلطة الجديدة.

وبطبيعة الحال، لا يوجد مشروع مستقبلي يحمل رؤية لدولة معاصرة، بل من اللافت أن تشكيل لجان حكماء وزعامات اجتماعية هي آليات مجدية فى شأن المصالحة الأهلية. لكن بناء خبرات جديدة فى إطار مشروع بناء الدولة يحتاج إلى رؤية وآليات وسياق مختلف، وهو ما يفسر العودة إلى المربع الأول، وهو الحل العسكري، فأغلب القوى المنضوية تحت مظلة الشرعية الجديدة ترى أنه لابد من إلحاق هزيمة عسكرية بالحوثيين، على الرغم من أن مخرجات الحوار أكدت على أولوية الحل السياسي.