على هامش عقد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 10 أبريل الجاري (2022) -والتي أسفرت عن تأهل الرئيس إيمانويل ماكرون ومرشحة أقصى اليمين مارين لوبان إلى جولة الإعادة في 24 من الشهر نفسه- يصبح من المفيد إجراء تقييم مفصل للسياسة الخارجية الفرنسية في عهد الرئيس ماكرون ومدى تفاعلها وتأثيرها على أمن واستقرار أوروبا والشرق الأوسط. فالتفاعل الفرنسي الكبير في الأزمات الدولية والإقليمية خلال السنوات الماضية خلق للرئيس ماكرون سمعة دولية تتعلق بدخوله على خطوط الأزمات والاستغراق فيها بإجراء اتصالات متعددة مع أطراف الصراع من أجل الوصول إلى حلول وسط.
ويختلف المراقبون حول تقييم السياسة الخارجية لماكرون، حيث يعتبر البعض أنه قد حقق نجاحات لفرنسا خارج حدودها، بينما يرى آخرون أنه كان يحاول التغطية على فشله الداخلي في تحقيق التآلف بين الفرنسيين ففر إلى الخارج لاستعادة الدور الخارجي لفرنسا. وإذ يثمن البعض هذه المحاولات رغم فشل الكثير منها في الخروج بنتائج ملموسة، يعتبر آخرون أنها ليست ذات جدوى حقيقية على مجريات الأحداث. ولعل أحدث انتقاد ناله الرئيس الفرنسي في هذا الصدد جاء من رئيس الوزراء البولندي الذي اعتبر أن تعدد الاتصالات بين الرئيس الفرنسي والرئيس الروسي لم يفلح في تجنب الحرب في أوكرانيا أو وقفها ولكنها كانت في غير محلها وشبهها بالتفاوض مع هتلر وستالين[1].
يلخص المراقبون مبادىء السياسة الخارجية الفرنسية في ركنين أساسيين: الاستقلالية والتمسك بتعددية الأطراف في العلاقات الدولية Multilateralism . ويُقصد بالاستقلالية رسم نهج داخل الكتلة الغربية مستقل عن الهيمنة الأمريكية، بينما يُقصد بالتعددية تنسيق الجهود الدولية بشكل جماعي وخاصة من المرتكز الأوروبي بما يخفف فكرة الأحادية القطبية الأمريكية حالياً والثنائية القطبية سابقاً إبان الحرب الباردة. فيما يرى آخرون أن التعددية التي تحاول فرنسا انتهاجها يجب أن تتحين في المستقبل كسر أي ثنائية قطبية ناشئة قد تتكون من جراء التنافس الأمريكي- الصيني المحموم.
وكان إيمانويل ماكرون يعول على فترة رئاسة فرنسا لمجلس الاتحاد الأوروبي-خلال الأشهر الست الأولى من عام 2022- كركن أساسي من حملته الانتخابية للرئاسيات للتسويق لنجاحه خلال فترة رئاسته لفرنسا في فتح مجالات أوسع للسياسة الخارجية الفرنسية. ولذا جاء برنامج فرنسا في رئاسة الاتحاد الأوروبي طموحاً للغاية، ولكن اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا غير من الأولويات وخلط الأوراق وأصبح ماكرون يواجه باتهامات الفشل في وقف الحرب بل واتهامات التودد إلى بوتين على حساب أمن أوروبا واستقرارها.
وهكذا يُخشى على ماكرون من التأرجح بين مصيرين، مصير الرئيس ترامب الذي فشل في الفوز بولاية ثانية بسبب فشله في مواجهة وباء كورونا في الداخل، وهو الأمر الذي كان يخشاه ماكرون ويدفعه لتمرير إجراءات أكثر حسماً بشأن فرض التلقيح الإجباري على المواطنين منذ بداية العام الجاري، وبين مصير الرئيس ساركوزي الذي كان رئيساً لفرنسا عندما شغلت رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي في المرة الماضية وقد تزامن ذلك أيضاً مع الحرب الروسية الجورجية في صيف 2008، ثم فشل في الفوز بولاية ثانية أمام المرشح اليساري فرونسوا هولاند في عام 2012 وانتهى الأمر إلى إدانته بعد ذلك- أي ساركوزي- بتهم بالفساد في تمويل حملته الانتخابية[2].
كيف تحركت فرنسا في أوروبا خلال رئاسة الاتحاد الأوروبي؟
قدمت فرنسا في رئاستها للاتحاد الأوروبي عدة طروحات تأمل أن تسرع من عملية اندماج أوروبا على عدة مستويات جيوسياسية واقتصادية وعسكرية وبيئية أيضاً. وتميزت الطروحات الفرنسية بأنها توازن بين اعتبارات الأمن التقليدي مثل فكرة خلق قوة عسكرية أوروبية للتدخل السريع وقت الأزمات التي تهدد المصالح الأوروبية، واعتبارات الأمن غير التقليدي من حيث التغيرات المناخية والتخطيط المسبق لتطبيق التحول الأخضر والوصول إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول عام 2050. على المستوى الاقتصادي تتطلع فرنسا إلى أوروبا تقوم على التحول الرقمي بشكل يضمن لها سيادتها وتحررها من الاعتمادية التكنولوجية على الولايات المتحدة من جهة ومن الاختراقات الصينية والروسية من جهة أخرى. فالسيادة الأوروبية وفق الطرح الفرنسي في هذا الصدد يجب أن تستهدف التحرر من الهيمنة الأمريكية والصينية على التكنولوجيا الرقمية وذلك من خلال خلق بؤر تكنولوجية في أوروبا تنافس نظيراتها الأمريكية والصينية بما يعزز من التقدم الاقتصادي المرتبط بالتكنولوجيا خاصة في مجال الصناعات التكنولوجية وأيضاً على مستوى القوانين المنظمة للأنشطة الإلكترونية.
وهنا تحديداً تكمن مركزية فكرة السيادة في المجال التكنولوجي، فمن جهة اقترحت فرنسا فرض ضرائب أوروبية على عمالقة المجال الرقمي للسيطرة على نشاطهم وفرض الشروط الأوروبية على توسعهم في القارة العجوز. ومن جهة ثانية تشجع على دفع التقدم التكنولوجي ليس فقط في المجال الاقتصادي ولكن ليمتد ويشمل أيضاً التحالفات الصناعية ذات الطبيعة الدفاعية والعسكرية بما يعزز من الدفاع عن أوروبا ويجعلها أكثر تنافسية على مستوى الصناعات الرقمية[3]. يتكامل هذا التوجه المستقبلي نحو تنمية الصناعات الرقمية مع عزم على مواجهة التغيرات المناخية، إذ تعهدت الرئاسة الفرنسية بالتمهيد لاتفاق أوروبي لوضع ضرائب على الانبعاثات الكربونية[4].
كما سعت فرنسا أيضاً إلى ضمان تطبيق حد أدنى للأجور مقابل ساعات العمل لتعمم النموذج الفرنسي على دول أوروبية أخرى. وهي في ذلك تخاطب صغار العمال والموظفين الذين يتأثرون أكثر من غيرهم بالتقلبات الاقتصادية التي تشهدها القارة العجوز وخاصة منذ انتشار وباء كورونا. وفي نفس الوقت تسعى فرنسا إلى مناقشة إعادة النظر في الشروط الكلية التي تحكم ميزانيات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبية وخاصة اتفاقية ماستريخت التي تشترط 3% كحد أقصى للعجر في الموازنة، حيث اعتبرت فرنسا أن إعادة إطلاق الاقتصادات الأوروبية تتطلب زيادة في الإنفاق العام لتحفيز الاقتصاد والاستثمار بما يعني ضرورة السماح بتحريك سقف 3% لعجز الموازنة[5].
أما على المستوى الجيوسياسي والعسكري، طرحت فرنسا خلال رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي ملف تحريك إعادة النظر في الاتفاقية الاوروبية للهجرة واللجوء، بما يضمن قدراً من التوافق بين دول الاستقبال الأول للمهاجرين مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا وبين الدول التي ترفض استقبال المزيد من المهاجرين واللاجئين مثل النمسا والمجر والتشيك وسلوفاكيا وبولندا. وبالمثل تسعى فرنسا لإعادة النظر في إعطاء تأشيرات الشنجن لحرية الحركة داخل دول الاتحاد بما يـتناسب مع احتياجات الدول الأعضاء ويسهل من عملية السيطرة على الحدود الأوروبية في أوقات الأزمات.
ويتبنى ماكرون فكرة تصحيح البوصلة الاستراتيجية لأوروبا من خلال العمل على أربعة مسارات: الأول هو مسار إدارة الأزمات والبحث في مشاركة الاتحاد الأوروبي ببعثات عسكرية أو مدنية من أجل إرساء السلام أو بناء قدرات المؤسسات المحلية في المناطق المضطربة التي تحتاج لهذا الدعم. والثاني هو مسار المثابرة أو دعم القدرات الاوروبية بشكل وقائي كي يجهض تفجر الأزمات ومنها حماية المؤسسات الحيوية ودعم استدامة سلاسل الإنتاج الضروروية لحماية الأمن الأوروبي وأيضاً مواجهة المخاطر غير التقليدية والتعاضد في تقديم الدعم بين الدول الأعضاء لتفادي تفجر الأزمات. والثالث هو مسار تنمية القدرات وخاصة في المجال التكنولوجي الدفاعي وما يتعلق بالتقييم الدوري للقدرات الدفاعية بهدف تنميتها ذاتياً داخل القارة الأوروبية، وما يتعلق أيضاً بتكنولوجيا الفضاء والبحرية. أما المسار الرابع فيتعلق بالشراكات مع الكيانات غير الأوروبية التي ينخرط معها الاتحاد الأوروبي في علاقات شراكة وتحالف مثل الأمم المتحدة والناتو والاتحاد الأفريقي والمنظمات والكيانات الدولية في منطقة المحيطين الهندي والهاديء "الإندوباسيفيك".
كانت هذه الطروحات سابقة على اندلاع الحرب في أوكرانيا، ولكن الحرب خلطت الأوراق وغيرت هرم الأولويات على الساحة الأوروبية وكشفت بعض العوار في الطرح الفرنسي. فخوف ماكرون على السيادة الأوروبية نظراً للاعتماد على الخارج كان حقيقياً ولكن الخطر جاء حصراً من روسيا بشكل همّش للغاية التنافس الأوروبي- الأمريكي الذي كان يتحسب له ماكرون في المجال الاقتصادي والتكنولوجي. والتعددية الدولية التي حرصت عليها فرنسا خلال عهد ماكرون من خلال التواصل الإيجابي مع كل الأطراف وفي مقدمتها روسيا أصبحت الآن تؤخذ على الرئيس الفرنسي لأنه وُصف بأنه تعرض للخداع والتلاعب من جانب الرئيس بوتين الذي شن الحرب على أوكرانيا رغم كل شيء.
لقد أجرى الرئيس الفرنسي 16 اتصالاً بالرئيس الروسي منذ بداية العام للتباحث في كافة مجالات التعاون قبل الحرب وأثنائها وهو ما أصبح يُذكر للدلالة على فشل مساعي الرئيس الفرنسي وسوء تقديره وخبرته المحدودة بالمقارنة بالرئيس الروسي. لكن ربما ما نجح ماكرون في توقع الاحتياج إليه هو سياسات التضامن الأوروبي التي اتضحت بجلاء خلال الحرب على أوكرانيا رغم اختلاف المصالح البيّن بين الدول الأعضاء. فالتضامن مع أوكرانيا سواء بتقديم المساعدات الإغاثية والطبية وأيضاً الدعم بالسلاح الخفيف من مختلف الدول الأوروبية كشف عن أهمية طرح بدائل مدنية وعسكرية ومؤسسية ومجتمعية للتعامل مع الأمن الأوروبي كوحدة واحدة كما طرحها ماكرون.
ولكن رغم ذلك بدا أن فكرة تشكيل قوة عسكرية أوروبية بمعزل عن حلف الناتو هي فكرة غير ناضجة خاصة مع تنامي الأجواء التي تُذكر بالحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وضرورة التضامن والتقارب الأوروبي- الأمريكي تحسباً للخطر الروسي القادم من الشرق. بمعنى أن أفكار ماكرون في هذا الصدد كانت صالحة لمرحلة ما قبل الحرب الأوكرانية، ولكن بعدها يصبح التناول العسكري والجيوسياسي مختلفاً تماماً. ولعل الاستجابة الألمانية للخطر الروسي برفع مخصصات ميزانية الدفاع الألمانية والمشاركة الألمانية في ميزانية الناتو تعد من أهم مكتسبات الأمن الأوروبي في هذا الصدد، ولكنها رغم ذلك جاءت في إطار التحالف الأطلسي وليست ضمن أوروبا فقط. أما الوعود الطموحة للتحول الأخضر وخفض وتصفير الانبعاثات الكربونية والاستغناء عن الفحم فأصبحت اليوم مهددة بفعل ارتفاع أسعار الطاقة العالمية بعد الحرب وضرورة تحول أوروبا إلى مصادر طاقة بديلة عن روسيا، الأمر الذي يعني إعادة النظر في مصادر الطاقة غير النظيفة أو إعادة الاعتماد على الطاقة النووية رغم مخاطرها الجمة ولو كمرحلة انتقالية قبل إنهاء الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية.
وإذا كانت الأيام الأولى للحرب قد جعلت من ماكرون هو المرشح الأوفر حظاً على الساحة الفرنسية نظراً لأنه المنخرط بقوة في تفاصيل الحرب ومحادثات التهدئة فيما بدا بقية المرشحين خارج السياق ومعزولين بالكامل عن أهم حدث يهدد الأمن الأوروبي منذ عقود، فإن انشغال ماكرون بالمشاورات السياسية ضمن الاتحاد الأوروبي والناتو قد أخر إطلاق حملته الانتخابية ولكنه في نفس الوقت صنع له صورة رجل الدولة الذي لا يدخر جهداً لإنقاذ أمن أوروبا، فيما بدا أن مرشحين آخرين وخاصة من اليمين المتطرف هم الأقل حظاً بعد تصريحات لهم مؤيدة لبوتين خلال الأيام الأولى من الحرب. غير أنه ومع إدراك أثر هذه الحرب على تباطؤ الاقتصاد وارتفاع أسعار الوقود والغذاء، أصبح الأمر يخضع لاعتبارات أخرى تتعلق بتقييم مدى نجاح ماكرون في التعامل مع هذا التهديد وتطويق آثاره على الداخل الفرنسي وخاصة فيما يتعلق ببدائل الطاقة والغذاء. وإذا كان ماكرون هو خيار الشعب الفرنسي في الانتخابات السابقة لأنه كان يعول عليه لتمرير سياسات جديدة ومبتكرة، فإن تشكك الفرنسيين من آثار هذه الحرب المفاجئة في أوروبا على استقرار الداخل الفرنسي قد ينعكس سلباً إما بعزوفهم عن التصويت بكثافة أو اختيار بدائل أخرى قد تبدو أكثر تطرفاً كاليمين المتطرف الذي حظيت مرشحته مارين لوبان بنسب متقاربة مع ماكرون في استطلاعات الرأي الأخيرة.
مبادئ السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط
لم يهدر ماكرون منذ توليه الرئاسة الفرنسية فرصة للانخراط في شئون الشرق الأوسط من حيث الزيارات المتعاقبة لدول المنطقة والتصريح بمواقف قوية فيما يخص صراعات المنطقة والاشتراك في جهود الوساطة ضمن عدة ملفات ساخنة. فماكرون وفريقه الرئاسي يرون أن السياسة الفرنسية كانت قد شهدت بعض الانسحاب من الشرق الأوسط في السنوات الماضية وكان لابد من تعويض هذا الانسحاب بانخراط أكبر ومن ثم ترجمته إلى مكاسب وطنية تنعكس على الشراكة الفرنسية مع دول المنطقة في مختلف المجالات.
ومن المعروف أن السياسة الفرنسية تجاه المنطقة كان قد تم إرسائها من جانب شارل ديجول منذ عام 1962، حيث افتتح فصلاً جديداً في العلاقات بين فرنسا ودول المنطقة وخاصة الدول العربية عبر طي صفحة استعمار الجزائر وأيضاً التراجع عن طموحات التوسع الفرنسي الذي كان من آثاره حرب السويس. فيما أرادت فرنسا أن تطرح نفسها كرسول للسلام وخاصة قبيل حرب 1967 عندما رفضت استخدام القوة بين العرب وإسرائيل وتعهدت بمنع دعمها عمن يبدأ باستخدام القوة في هذا الصراع[6]. ثم لم تعترف باريس بآثار حرب 1967من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وساهمت في صياغة القرار 242 الذي يدعو إلى الانسحاب. وقد أصبح هذا التوجه الذي أرساه ديجول حاكماً للسياسة الفرنسية، إذ اعتبر في خطاب له في نوفمبر 1967 أن إرساء سياسة فرنسية داعمة للعالم العربي يجب أن يكون في صلب السياسة الخارجية الفرنسية في السنوات القادمة. وقد سار كل من فاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتيرون على هذا النهج، ثم جدده جاك شيراك مرة أخرى في خطاب شهير ألقاه من القاهرة عام 1996 مؤكداً محورية السياسة العربية لفرنسا في مجمل سياستها الخارجية[7].
ولعل هذا التوجه كان هو منبع الدعم الفرنسي المتواصل للعرب خلال الحلقات المتتابعة للمواجهة مع إسرائيل سواء خلال غزو لبنان عام 1982 أو الاعتداءات الجوية عليه في عام 1996 ومن بعده الاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وكانت فرنسا في ذلك كله تخالف السياسة الأمريكية في المنطقة، فشيراك كان الزعيم الغربي الوحيد الذي حضر جنازة حافظ الأسد عام 2000. غير أن هذا لم يمنع فرنسا من التصويت لاحقاً لصالح القرار 1559 في مجلس الأمن في عام 2004 والذي كان يطالب بإضعاف النفوذ السوري في لبنان وأفضى عقب اغتيال رفيق الحريري إلى سحب القوات السورية من لبنان في عام 2005. وهنا يرى المراقبون أن هذا التوجه الفرنسي للتمايز عن السياسة الأمريكية في المنطقة قد بدأ في التلاشي تدريجياً بعد معارضة غزو العراق في عام 2003، وأنه تحديداً منذ عام 2005، بدأ التوجه الفرنسي يصبح أكثر تماهياً مع السياسة الأمريكية وخاصة إزاء مواجهة الإرهاب في المنطقة. فالتهديدات الأمنية المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط غيرت نظرة فرنسا للمنطقة من نقطة للتحالفات إلى نقطة لصعود التهديدات، مما أدى إلى التقارب بعض الشيء بين السياستين الفرنسية والأمريكية في المنطقة.
وبما أن الشرق الأوسط أصبح منطقة تتصاعد فيها التهديدات الأمنية، يصبح من المنطقي أن تروج فيها فرنسا لصناعاتها العسكرية وتنسج خيوط جديدة للتحالفات على أساس عسكري وسياسي. وقد شهدت رئاسة ساركوزي (2007-2012) تعميق التقارب مع الدول العربية، حيث استقبل مثلاً القذافي في فرنسا عام 2007، ورعى إعادة سوريا للمجتمع الدولي عقب ثلاث سنوات من العزلة الدولية بعد اتهام نظام دمشق باغتيال رفيق الحريري، وأسس من خلال الاتحاد من أجل المتوسط في عام 2008 لمبدأ مد الشراكة المتوسطية إلى حدود الخليج العربي لتشمل أيضاً دول الخليج ولا تقتصر على الشاطئ الجنوبي للمتوسط. وهكذا بدأت فرنسا توسع من سياستها العربية التقليدية لتشمل النفوذ العسكري والاستراتيجي في دول الخليج، فأسست أول قاعدة فرنسية في الخليج عام 2009 وبدأ العتاد العسكري الفرنسي يصبح مكوناً أساسياً من تسليح الدول الخليجية ليشكل 50% من العتاد الإماراتي و80% من العتاد القطري[8]. بينما حافظت فرنسا على المغرب باعتبارها الشريك التجاري الأول، يليها دول الخليج مجتمعة، ثم دول المشرق ثم مصر. ولكن خلال أحداث الاحتجاجات الشعبية التي عُرفت بـ"الربيع العربي"، فقدت فرنسا عدداً من الحلفاء دفعة واحدة، إذ فقدت القذافي وشاركت في إزاحته، ثم اضطرت لإغلاق سفارتها في دمشق وعلقت عمل سفارة سوريا في باريس، كما دعمت المسار السياسي الانتقالي في كل من مصر وتونس. ولكن سرعان ما أعادت فرنسا نسج علاقاتها السياسية والعسكرية مع الدول العربية التي تعافت من أثر الاحتجاجات سريعاً، وكذلك مع دول الخليج التي نجت من هذه الاحتجاجات. وأعيد تركيب التموضع الفرنسي بحذر على أساس من التقارب والتحدث مع كافة الفرقاء في المنطقة على حد سواء تحسباً لأية أزمات قادمة كي تكون فرنسا أقرب إلى البحث عن حلول لهذه الأزمات وضالعة للوساطة فيها.
ولكن السياسة العربية التقليدية لفرنسا تغيرت ملامحها شيئاً فشيئاً في السنوات الأخيرة. إذ وعت فرنسا درس الاحتجاجات الشعبية العربية وأصبحت أقدر على رؤية التطورات السياسية في المنطقة والاعتراف بها أولاً بأول بدلاً من التعامي السابق والارتكان على التحالفات الهشة، وكانت الحالة الليبية ثم الحالة اللبنانية أهم دليل على ذلك. من جهة ثانية، بدأت فرنسا تنظر بقدر من الموضوعية إلى التخوفات العربية من الطموح الإقليمي الإيراني وليس فقط الطموح النووي الذي كان موضوعاً أثيراً لدى الترويكا الأوروبية طوال سنوات التفاوض على الاتفاق النووي قبل إقراره في عام 2015. ومن جهة ثالثة أصبحت فرنسا تتطلع لتحجيم الدور التركي بالتحالف مع قوى أقليمية أخرى وخاصة مصر والإمارات العربية المتحدة، بعدما تبين دور المتغير التركي في زعزعة الاستقرار في المنطقة، كما في محيط المهاجرين داخل أوروبا عبر مكون الإسلام السياسي، ومن ثم تجسد مبدأ جديد للسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط وهو احتواء القوى المزعزعة للأمن الإقليمي من خلال الانخراط معها في محادثات طويلة الأجل من جهة، والتحالف مع قوى الاستقرار على أساس عسكري وتجاري من جهة أخرى.
ومن ثم جاء التوسع في مبيعات السلاح الفرنسي للدول العربية ليخدم هذه الغاية، فضلاً بالتأكيد عن استمرار سبل الحياة لصناعة السلاح الفرنسي العريقة التي تواجه منافسة حادة من مثيلاتها الأمريكية والروسية. وأصبح الأمر أشبه بتبادل المنافع الذي توج بتحالف سياسي وتجاري. فمن جهة تجد الدول العربية في فرنسا حليفاً غربياً قوياً منفتحاً على علاقة ندية غير اعتمادية ويعترف بالسيادة لشركائه بعيداً عن المشروطية المزاجية الأمريكية. ومن جهة ثانية، تجد فرنسا لصناعاتها العسكرية أسواق متعطشة لتنويع تسليحها ولتجديد ترساناتها والتأهب للمخاطر الإقليمية المتوقعة[9].
ومن هذه الصفقات ذائعة الصيت عقود التسليح للجيش المصري بين عامي 2016-2019 ومنها صفقة حاملة الطائرات "ميسترال" والمقاتلات "رافال" وأيضاً الفرقاطة البحرية "فريم" فضلاً عن عقود التصنيع المشترك للقطع البحرية والتدريبات المشتركة بين الجانبين[10]. وتنسحب أيضاً هذه الصفقات على دول الخليج بشكل خاص، إذ يعزو المراقبون هذا التوجه إلى تداعيات غزو العراق منذ 2003 وانكشاف الأمن الخليجي والعربي لخطر التوسع الإقليمي الإيراني ورغبة فرنسا في موازنة النفوذ الأمريكي المتذبذب في المنطقة كي تكسب الحلفاء الذين تخذلهم واشنطن مع تغيرات الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
ولكن السياسة الفرنسية التي تضع نصب عينها التنافس مع الأمريكيين في المنطقة، لم تخل من بعض التوافق في وقت الأزمات. وقد تجلى التماهي في السياسة الفرنسية مع الأمريكية في الشرق الأوسط عندما شاركت فرنسا جنباً إلى جنب مع دول غربية أخرى في التحالف الدولي للحرب على داعش في كل من سوريا والعراق منذ عام 2014. وهنا كانت فرنسا تخضع في سياستها تلك إلى مبدأ تنسيق المواقف مع الدول الأوروبية والغربية إزاء الأزمات الكبرى، فكان تحركها في سوريا متناسقاً مع التحركات الغربية الأخرى وخاصة الأمريكية ولكن هذا التحرك لم يتذبذب مع قرارات ترامب المترددة إزاء الوجود الأمريكي في سوريا فيما بعد.
تجليات سياسة ماكرون في المنطقة
هناك من يجد أن سياسة ماكرون الخارجية تمثل انقطاعاً عن السياسة الخارجية الفرنسية التقليدية التي أرساها الجنرال ديجول ثم سار على خطاها مختلف الرؤساء من بعده سواء جاءوا من اليمين أو اليسار[11]. فالرجل أقرب ما يكون إلى تبني سياسة ردود الفعل والتجربة والخطأ أكثر من تبني سياسة راسخة ذات أهداف وغايات محددة. وهناك من يرى أن حظ ماكرون العاثر قد ألقى بعدة أزمات في مساره السياسي مما جعله يتبع سياسة خارجية مترددة تحاول أن تحقق بعض النجاحات التي قد تخدمه لإعادة انتخابه لولاية ثانية، مما انعكس بهذا الكم الهائل من الاستراتيجيات والمبادرات الذي تحمس لإطلاقها ثم لم يكمل تنفيذها. ربما كانت بداية عهد ماكرون باحتجاجات السترات الصفراء رفضاً لزيادة الضرائب على الوقود هي التي حرمته سريعاً من التوافق الوطني اللازم لإرساء سياسة خارجية نشطة وفعالة. وكان تركيزه على مواجهة الإرهاب وتدعيم أمن واستقرار دول المنطقة أمراً لابد منه لوقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا ولبناء تحالفات استراتيجية في مناطق الصراعات الأكثر اشتعالاً لوقف تداعي التحديات الأمنية ومنعها قبل وصولها إلى أوروبا، وهو ما أثار جدلاً حول شراكاته الاستراتيجية مع دول المنطقة وعقود التسليح التي فازت بها فرنسا خلال فترة ولايته. فيما كانت وعوده ببدء صفحة جديدة مع الجزائر والاعتذار عن سنوات الاستعمار جدلية للغاية خاصة أن تصريحاته المتعاقبة جاءت لتعقد الأمر لا لتحله. إذ ألقى ماكرون باللائمة على الجزائر ونظامها السياسي بعد الاستقلال لأنه كان السبب في تعقيد علاقات ما بعد الاستقلال بين البلدين، وكأن ميراث الاستعمار لم يكن سبباً كافياً لهذا التعقيد. وقد تسببت هذه التصريحات في سحب الجزائر لسفيرها من باريس بينما خفضت فرنسا عدد التأشيرات السنوية الممنوحة للمواطنين الجزائريين[12].
ولكن في ملفات أخرى كان تحرك ماكرون أوضح وصنفت سياسته باعتبارها إيجابية ومحركة للمياة الراكدة، ومن ذلك مثلاً تحركه في الملف اللبناني خاصة عقب انفجار مرفأ بيروت وتزعمه لتنسيق جهود المساعدات الدولية عبر المنظمات الأممية والمجتمع الأهلي بعيداً عن النخبة السياسية اللبنانية التي أصبحت مثاراً للشك في نزاهتها. إذ قدم المبادرة الفرنسية عقب استقالة حكومة حسان دياب في أغسطس 2020 وقدم سيناريو لتعاقب الخطوات كي يتم تشكيل حكومة كفاءات تتولى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتتسلم المساعدات المرصودة للبنان من الداعمين الدوليين.
غير أن تباطؤ قبول الزعماء اللبنانين لخطوات المبادرة قد أدى إلى إفشالها في جانبها السياسي بالكامل، مما وضع نفوذ فرنسا الدولي في الإقليم على المحك، خاصة أن الرئيس الفرنسي كان قد خصص زيارتين للعاصمة بيروت في شهرين متتالين دون جدوى ودون النجاح في تحريك المياة السياسية الراكدة[13]. بينما اعتبر البعض أن حماس الرئيس الفرنسي في الملف اللبناني لم يكن إلا هروباً من مشاكله في السياسة الداخلية خاصة أنه فشل فيما نصح به الزعماء اللبنانيين ولم يفلح في تخفيف الاستقطاب حول سياسته الداخلية لا سيما في ملف السيطرة على ما أسماها "الانفصالية الإسلاموية"[14].
غير أن الالتزام الفرنسي في ملف الدعم الإنساني والإغاثي للبنان كان خطوة ناجحة للغاية حفزت الدول الصديقة للبنان للقيام بالمثل دون الارتياب في مصير المساعدات المقدمة وإمكانية تسربها إلى شبكات الفساد. إذ رعى ماكرون على مدار عامين متتاليين مؤتمرات افتراضية لجمع الدعم الإغاثي للبنان مما ساهم في تخفيف حدة الأزمة المعيشية التي واجهها طوال عامي 2020 و2021. وقد تجددت الجهود السياسية للرئيس الفرنسي في لبنان في أكثر من مناسبة، سواء لتذليل العقبات في سبيل تشكيل حكومة ميقاتي عبر الاتصال بشكل مباشر بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لتسريع وتيرة التشكيل الحكومي مما أسهم فعلياً في ميلاد الحكومة في سبتمبر 2021، أو من خلال التهدئة في ملف الأزمة الدبلوماسية بين لبنان ودول الخليج عقب تصريحات وزير الإعلام السابق جورج قرداحي التي أعتبرتها السعودية مسيئة لها وتضامنت معها في ذلك دول الخليج وسحبت سفرائها من بيروت وجمدت التبادل التجاري معها[15]. إذ حرص ماكرون خلال زيارته إلى السعودية في إطار جولته الخليجية في ديسمبر 2021 على تنسيق الجهود مع رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي كي يقدم الوزير المثير للجدل استقالته بشكل متزامن مع زيارة ماكرون للسعودية. ومن هنا مهد ذلك لإجراء اتصال ثلاثي للزعماء الثلاثة كي يتعهد فيها الطرفان ببذل الجهود لإعادة إطلاق العلاقات بين السعودية ولبنان وتخطي الأزمة الدبلوماسية برمتها، قبل أن تعلن الرياض (7 أبريل 2022) عن عودة سفيرها إلى بيروت.
وكان جلياً سواء في الأزمة اللبنانية الممتدة أو في التعامل مع الطموح النووي الإيراني أن ماكرون كان يتحين التهدئة مع إيران أو التفاهم بشكل مباشر بدلاً من سياسة التصعيد الأمريكية التي كان يتبعها ترامب. فانسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني والمضي في تشديد العقوبات المفروضة على إيران كانت مناسبة لبيان التمايز بين السياستين الفرنسية والأمريكية في هذا الصدد. ورغم أن ماكرون كان قد افتتح عهده بالتبشير بعلاقات مميزة بين فرنسا والولايات المتحدة في عهد ترامب، إلا أن الواقع سرعان ما بيّن استحالة ذلك. استبشر ماكرون بالتشابه بينه وبين ترامب باعتبار أن فوزهما بالرئاسة كان مفاجئاً للطبقة السياسة في كلا البلدين، وأنهما قد نالا أصواتاً شعبية كانت تبدو قبل ذلك غير ذات وزن ومهمشة، ولكن الافتراق بين مسار الرجلين قد اتضح سريعاً خاصة مع إمعان ترامب في اتخاذ قرارات أمريكية منفردة دون التشاور مع الحلفاء[16]. أبرز هذه القرارات كان الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ في يونيو 2017، والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني في مايو 2018 والقرارات المرتبكة للانسحاب من سوريا بعد التنسيق مع أردوغان خلال عامي 2018 و2019 مما أفسح المجال لتوسيع النفوذ التركي في الشمال السوري، الأمر الذي أدى بماكرون للتراجع عن سياسته المتفائلة بالشراكة مع الولايات المتحدة، وعودته إلى خط التمايز عن السياسة الأمريكية، وهو ما انعكس بشكل خاص في الشرق الأوسط.
انعكس التباين بين السياستين الأمريكية والفرنسية أيضاً في محاولة الفرنسيين استغلال كل فراغ يتركه الأمريكيون لملئه، ومن ذلك مثلاً التفاهم مع الإيرانيين للتهدئة في لبنان من جهة، وتزويد دول الخليج بالسلاح الفرنسي لتهدئة مخاوفهم من التوسع الإيراني من جهة أخرى. أما التقارب الفرنسي مع الإيرانيين فلم يفضِ إلى الوصول لصفقة شاملة في ظل المماطلة الإيرانية ولكن بالتأكيد أدى إلى إيجاد قنوات اتصال لحلحلة بعض المواقف على طريق أزمات المنطقة. فدعوة وزير خارجية إيران إلى مؤتمر مجموعة الدول السبع الصناعية الذي استضافته فرنسا في أغسطس 2019 ولقائه مع الرئيس الفرنسي على هامش المؤتمر كان نقطة خلاف جوهرية مع الأمريكيين، خاصة أن إدارة ترامب كانت قد اختارت سياسة التصعيد ضد إيران[17]. وكان لهذه الخطوة الدبلوماسية الهامة دوراً في استمرار قرب باريس من الملفات الإقليمية وخاصة في لبنان، حيث النفوذ الإيراني الكبير، ولذا كانت فرنسا تتدخل في الملفات الإقليمية بثقة من يتواصل مع كافة أطراف الأزمة بشكل متوازن. بينما كانت العودة لمباحثات الاتفاق الغربي مع إيران في فيينا أيسر بعد تولي الرئيس بايدن، ولكنها لاتزال خاضعة لتعقيدات التفاصيل الأخيرة بعد انعكاس الحرب الأوكرانية سلباً عليها.
احتاج ماكرون لكل من دول الخليج وإيران في المنطقة، ورأى في لبنان ساحة لإنجاح تهدئة التنافس المحموم فيما بينهم وإطلاق ورشة بناء لإعادة هيكلة النموذج اللبناني حيث يلتقي نفوذ الطرفين. ولكن التعثر في إطلاق هذا النموذج البديل في لبنان يصبح ذا دلالة حول مدى جدوى هذه الجهود الفرنسية وقدرتها على الوصول إلى حل حقيقي لأزمة التنافس الخليجي- الإيراني وليس فقط حلول التهدئة المرحلية.
وفيما يؤخذ على ماكرون التصدي لملفات أكبر من قدرته على حلها، يعتبره البعض الآخر أنه تقدم في مسارات جديدة لم يسبقه فيها أحد. أحد هذه المسارات كانت زيارته المتكررة للعراق في سبتمبر 2020 ثم في أغسطس 2021 حيث حضر مؤتمر الأمن للتعاون والشراكة الإقليمية جنباً إلى جنب مع زعماء المنطقة سواء من حلفائه المقربين أو من خصومه الذين يحرص على استمرار الحوار معهم. وهو في ذلك يتبع مسار الدبلوماسية التعددية لإدارة ملفات الأمن الإقليمي، ربما في محاولة لإعادة استنساخ الثنائي الألماني- الفرنسي في حل المشكلات والتعاون في القارة العجوز. ومع ذلك رأى البعض من هذه الخطوة محاولة من فرنسا للتسلل إلى المنطقة وكأنها أحد أطرافها الأصليين وليست مجرد قوة استعمارية قديمة ذات نفوذ استراتيجي توسعي. ولكن تعهدات الرئيس الفرنسي بقمة بغداد بالإبقاء على القوات الفرنسية في العراق لمحاربة داعش حتى ولو انسحب الأمريكيون جاءت لتؤكد على استغلال فرنسا للمخاوف من الانسحاب الأمريكي من ملفات المنطقة كما انسحبت من أفغانستان[18]، مما جعل للحضور الفرنسي بعض المصداقية في وقت كانت مصداقية الغرب ككل على المحك.
دعمت فرنسا من شراكاتها الاستراتيجية في المنطقة، إذ حصلت السعودية على أسلحة فرنسية خلال السنوات الماضية رغم الانتقادات التي طالت فرنسا آنذاك على خلفية إمكانية استخدام هذه الأسلحة في حرب اليمن وما قد ينشأ عنها من تعقيدات إنسانية. فقد تم الإعلان عن أن أهم صفقات تزويد السعودية بالسلاح الفرنسي في إبريل 2018 بما يعادل 18 مليار يورو، وهو الأمر الذي رفع صادرات السلاح الفرنسي في هذا العام بمقدار الثلث تقريباً. فيما استحوذ الشرق الأوسط وحده على 42% من هذه الصادرات العسكرية الفرنسية[19]. وكانت السعودية قد استبعدت فرنسا من مناقصة شراء أسلحة في مطلع العام 2020، غير أن عقود التسليح قد تجددت بين البلدين مرة أخرى خلال جولة ماكرون الخليجية في ديسمبر 2021، إذ كانت هذه الزيارة بمثابة مناسبة لتجديد الشراكة الوثيقة بين باريس والرياض سواء في الملفات السياسية أو العسكرية والاستراتيجية. وقد يكمن الفارق بين السياقين في تغير الإدارة الأمريكية من ترامب إلى بايدن، بالطبع ضمن عوامل أخرى تجعل من التعاطي الفرنسي- السعودي حيال الملفات الإقليمية أكثر سلاسة. فيما وقعت الإمارات أيضاً مع فرنسا عقد شراء 80 طائرة "رافال" خلال زيارة ماكرون الأخيرة للخليج في ديسمبر 2021، وهي الصفقة التي يتوقع أن تحل محل أسطول "الميراﭻ" السابق[20] والذي كانت قد حصلت عليه في عام 1998. بينما حصلت مصر في مايو 2021 على عقد شراء 30 طائرة "رافال" جديدة لتنضم إلى ما تم شرائه سابقاً لتجديد الترسانة العسكرية المصرية بالسلاح الفرنسي. الصفقات الخليجية الأخيرة للسلاح الفرنسي كانت مقررة منذ فترة، ومع ذلك فقد جاءت في توقيت تنفيذها كرد اعتبار للصناعات العسكرية الفرنسية التي تلقت صفعة مدوية عقب إعلان استراليا إلغاء عقد تصنيع غواصات مع فرنسا، حيث كانت باريس تعتمد على هذه الصفقة لتصنيع الغواصات لصالح استراليا ضمن عقود أخرى كي تضمن التشغيل الكامل لنحو 80 ألف وظيفة في قطاع الصناعات العسكرية و120 الف وظيفة أخرى مرتبطة به[21]. هذا إلى جانب سعي فرنسا لتعميق شراكة استراتيجية مع الهند لتوسيع انتشارها وتواجدها الاستراتيجي في إقليم الإندوباسيفيك.
خاتمة
تميز التحرك الفرنسي في السياسة الخارجية بالنشاط الكبير في الملفات التي يمكن حلحلتها مرحلياً وإيجاد قنوات اتصال للتواصل بشأنها، ولكن في القضايا التي استنزفت طرق الحل المرحلي، لم تكن السياسة الفرنسية ذات بال. ففي الملف السوري، كان الفرنسيون حاضرين في التحالف الدولي لمكافحة داعش تحت القيادة الأمريكية، ونسقوا أيضاً مع الأمريكيين قصفاً جوياً متزامناً ضد بعض قواعد النظام السوري عقب اتهام الأخير بتنفيذ هجمات كيماوية.
لكن في النهاية قدرة الفرنسيين على الفعل المؤثر في سوريا كانت شبه مجمدة، فعقب دعم فرنسا الكبير للملف السوري في السنوات الأولى للصراع، تراجع ماكرون عن مبدأ عزل الأسد واعتبر أنه لا يعني فرنسا إن بقى الأسد أو رحل. واتضح في السنوات التالية أن العقوبات الأوروبية الشاملة ضد رموز النظام السوري وتجميد ملف إعادة الإعمار لحين تغيير هيكل السلطة في سوريا وأيضاً إيصال المساعدات عبر المنظمات الأهلية هي المبادئ الثلاثة التي حكمت السياسة الفرنسية في سوريا. فالتمسك بمسار المفاوضات في جنيف تحت المظلة الأممية واشتراط التقدم فيه للسماح بإطلاق ورشة الإعمار كان عنوان السياسة الفرنسية في سوريا، ولكن هذه الأخيرة لم تحمل أية مبادرات إضافية ولم تسع إلى تحريك الوضع في سوريا، وربما هنا لم يكن التمايز عن السياسة الأمريكية واضحاً إلا لجهة الإبقاء على القوات الفرنسية في الشمال الشرقي لسوريا عندما أعلن ترامب مرتين نيته سحب القوات الأمريكية.
اليوم هناك من يعتبر هذا الحماس الفرنسي الكبير لدعم أوكرانيا في بداية الحرب مرشحاً للخفوت تماماً كما خفت الحماس الفرنسي للتغيير في سوريا، فالاصطدام بنفوذ روسيا الداعم للأسد كان كفيلاً بتغيير توجه باريس إزاء بقاء الأسد من عدمه. وفي الحالة الأوكرانية تلقي الحرب بآثارها الثقيلة علي أوروبا من حيث تدفق نحو أربعة ملايين لاجئ وارتفاع أسعار الوقود والغذاء وضرورة رفع ميزانيات الإنفاق العسكري والتسليح في ظل صعود مخاطر جمة سببتها روسيا للأمن الأوروبي.
وفي ظل هذه المتغيرات الجديدة، يبدو أن السياسة الخارجية الفرنسية لن تكون قادرة على تعزيز التمايز عن السياسة الأمريكية، إذ سيدفع بها صعود الخطر الروسي إلى المزيد من تنسيق المواقف مع واشنطن كما سيقلل من هامش حركتها في الملفات الخارجية في الشرق الأوسط لتهدئة الصراعات فيه، إذ من المرجح أن تصبح أوروبا هي الملعب الأولى باهتمام باريس لضمان أمنها واستقرارها. ولكن على كل حال ستتحدد هذه المسائل العالقة حال تبيّن هوية الساكن الجديد لقصر الإليزيه، فهل سيحظى ماكرون بفرصة جديدة لاستكمال الجهود التي بذلها في ملفات السياسة الخارجية أم سيكون للشعب الفرنسي قول آخر في صندوق الاقتراع؟