عبير ياسين

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

رغم التعقيدات التي تطرحها الحرب الروسية في أوكرانيا، تحولت السياسة الإسرائيلية إلى لغز يثير الكثير من التساؤلات عن أسبابها وتناقضاتها. وترتبط تلك التساؤلات بوجود تصور عام عن تحرك إسرائيل في فلك المصالح الأمريكية، وفي العمق يتجاوز هذا الطرح وجود اختلافات أمريكية- إسرائيلية واضحة في قضية البرنامج النووي الإيراني، خاصة منذ تولي حكومة رئيس الوزراء نفتالي بينيت الذي يضع إيران على قمة التحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل. وترتبط تلك الرؤية بتشابك الدور الإيراني مع ملف الأمن في الجبهة الشمالية، وقطاع غزة، وأهمية التنسيق مع روسيا لمواجهة مخاطر إيران وحزب الله في سوريا.

بهذا، مثلت الحرب لحظة تقاطع الملفات المهمة فى وقت تحاول فيه إسرائيل تعظيم تواجدها الإقليمي، والتأكيد على المشتركات التي تجمعها مع دول المنطقة. وفي حين ظهرت السياسة الإسرائيلية في البداية متناقضة وحائرة بين النقد الشديد والتحفظ الدبلوماسي، تم تجاوز تلك اللحظة وبدأت في التشكل بوصفها سياسة تسير على حبل مشدود، وتحمل العديد من التناقضات، وتحاول إرضاء مختلف الأطراف من أجل تحقيق المصالح الممكنة وتقليل المخاطر المحتملة، وفي القلب منها الخطر الإيراني الذي تتم مواجهته بصفة أساسية في الساحة السورية حيث الوجود الروسي الضابط والمؤثر على مسار الأحداث.

الحياد المُقيَّد والسير بين النقاط

صوتت إسرائيل في الأمم المتحدة لصالح قرار وقف الحرب، بعد تردد وضغوط أمريكية، لكنها لم تقم بالمطلوب غربياً على صعيد العقوبات الاقتصادية والدعم العسكري، وأكدت بالمقابل على دور العلاقات المميزة التي تربطها بكافة الأطراف في تسهيل الوساطة والتعامل الإنساني. وفي مواجهة قضايا تمتد من الملف النووي الإيراني، إلى النفوذ الإيراني في سوريا، واقتراب ذكرى مرور عام على التطورات التي قادت إلى حرب غزة الرابعة وأهمية التهدئة الداخلية، وفي مواجهة الضغوط الغربية، تقف إسرائيل في موقف يبدو معقداً ومرتبكاً، وتتخذ فيه القرارات التي تتناسب مع التحديات وتعظم الفرص وكأنها على حبل مشدود يمكن أن يحافظ على المصالح في اللحظة الراهنة والمستقبل القريب. لكن السير الآمن يتطلب الكثير من المهارات وتوزيع الأدوار. ورغم قدرة تلك السياسات على تحقيق الأهداف المطلوبة في اللحظة الراهنة، تتقلص فاعلية سياسة السير بين النقاط مع امتداد الصراع، جغرافياً أو زمنياً، حيث تظهر المزيد من التناقضات التي يصعب التوفيق بينها، وتزيد فرص الانحياز لطرف ضد آخر مع الوقت.

فلسطين وسوريا وتحديات المستقبل

مع وصول آلاف الأوكرانيين إلى إسرائيل ترتفع المخاوف من تحولهم إلى مستوطنين في ظل سياسات التوسع الاستيطاني ووصول عدد من يمكن السماح لهم بالهجرة من أوكرانيا إلى أكثر من مائتي ألف شخص. وتفرض الأوضاع الراهنة تحديات إضافية أمام فرص إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة مع تمرير المزيد من المستوطنات وعمليات هدم المنازل الفلسطينية. وتطرح الحرب تساؤلات متزايدة عن تأثير الانتقادات الحالية للهجوم على المناطق المدنية وإصابة نساء وأطفال في أوكرانيا على مستقبل الحروب الإسرائيلية. وفي حين صاحب الحرب موجة إدانة للمعايير المزدوجة في التعامل مع أوكرانيا مقارنة بفلسطين، فإن كل نقد في اللحظة يطرح سؤال التناقض والإنسانية في اللحظة والمستقبل، وكل تدمير وهجمات على منازل ونساء وأطفال في غزة أو غيرها في المستقبل يفرض العودة إلى خطاب المقارنة. وبالمجمل، من شأن النقد الإسرائيلي للتحركات الروسية لاعتبارات إنسانية العودة للظهور في ظروف أخرى عندما تكون الحرب قريبة من المنزل.

على جانب آخر، تتشابك المصالح والمخاطر الإسرائيلية في الساحة السورية التي تمثل قضية مهمة في العلاقات الإسرائيلية- الروسية، لدرجة الحديث عن روسيا بوصفها الجار الشمالي، وعن إسرائيل بوصفها دولة من دول البلطيق. وتسمح تلك العلاقات بحماية المصالح الإسرائيلية في الجولان المحتل، والحفاظ على مساحة آمنة في مواجهة إيران. وفي حين تتخوف إسرائيل من تأثير تراجع النفوذ الروسي في سوريا لصالح النفوذ الإيراني على التوازنات القائمة، فإن استمرار النفوذ الروسي والدخول في صراع مع موسكو بسبب أوكرانيا من شأنه تهديد العمليات الإسرائيلية، وهو الأمر الذي دفع وزير الخارجية يائير لبيد في 24 مارس الجاري للحديث عن أهمية اتخاذ بلاده موقفاً محايداً خشية سقوط طياريها أسرى في سوريا. وفي حين تقلل بعض الأصوات الإسرائيلية والغربية من أهمية التنسيق مع روسيا في سوريا، يظل العامل الإيراني عنصراً مهماً في الخطاب الإسرائيلي. ومن شأن الإعلان عن منع روسيا وصول تعزيزات عسكرية إيرانية إضافية إلى مطار القامشلي، شمال شرق سوريا، في 23 مارس الجاري، ورفض استخدام المطار، الخاضع لإدارة وإشراف القوات الروسية، في تجربة طائرة مسيرة إيرانية، التأكيد على أهمية الدور الروسي في ضبط التفاعلات على الساحة السورية.

الملف النووي والتقارب رغم التناقض

رغم النفي الروسي، تم الربط بين الحصول على ضمانات وتأخير التوصل لاتفاق، في حين تحدث البعض عن تنسيق روسي- إسرائيلي قد لا يكون حقيقياً ولكنه يصب في تحقيق مصالح إسرائيل. وتشمل مطالب موسكو التأكد من عدم تأثير العقوبات المفروضة عليها بسبب الحرب الأوكرانية على مصالحها مع إيران، وشراء فائض اليورانيوم الإيراني وفقاً لاتفاق 2015. ومع تأكيد التصريحات الأمريكية والأوروبية أن القضايا منفصلة، واحتفاظها بحقها في البحث عن بدائل لا تشمل موسكو، رفضت إيران ذلك في موقف جعلها أقرب إلى الموقف الإسرائيلي.

وفي حين تعارض إسرائيل الاتفاق النووي بصفة عامة، تحمل اللحظة الراهنة المزيد من المخاطر لأنها يمكن أن تقود إلى اتفاق سيئ، وفقاً لها، في ظل العقوبات الاقتصادية على روسيا، والحاجة إلى موارد الطاقة الإيرانية، وهي الأوضاع التي تسمح بمساحة حركة إيرانية تتجاوز القيود التي ترغب إسرائيل في فرضها كما ظهر واضحاً مع معارضتها الحادة للحديث عن توجه الإدارة الأمريكية إلى إزالة الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية. وفي ظل تلك الأوضاع تزداد أهمية دعم إسرائيل للضمانات الروسية في الاتفاق النووي، ورفض التوصل إلى اتفاق بديل دون روسيا. وفي حين يمكن أن يؤدي الجدل حول الضمانات إلى إطالة أمد التفاوض، يتقاطع وجود روسيا ضمن الاتفاق مع حاجة إسرائيل للحفاظ على التنسيق معها بما يتيح استمرار الدور الروسي الضابط للتفاعلات في سوريا، وحرية حركة الطيران الإسرائيلي، وتقييد التموضع الإيراني.

تساهم سياسة الحبل المشدود في حماية مصالح إسرائيل في اللحظة، وتركيز الاهتمام على القضايا المهمة، وخاصة الخطر الإيراني، لكن النجاح في تحقيق المصالح وتقليص الخسائر يظل رهناً بالعديد من الاعتبارات ومنها أمد الحرب وتطوراتها. وحتى تحتاج إسرائيل إلى الوقوف كلياً مع طرف ضد الآخر يساعد تراكم خطاب التحديات على هامش التوازنات في تأسيس فرص المناورة والخروج من حالة السير بين النقاط إلى السير خلف التحيزات دون الكثير من الخسائر رغم التحديات الأخلاقية.