د. عمرو الشوبكي

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

مع بدء الهجوم الروسى على أوكرانيا وفشل المحاولات الأوروبية، خاصة الفرنسية والألمانية، فى منع اندلاع الحرب، واقتراب القوات الروسية من العاصمة كييف، اتضح تباين الموقف الأوروبى من «التحدى الروسى» وعدم قدرته على الانخراط الكامل فى تطبيق العقوبات الأمريكية، خاصة فى مجال الطاقة نظراً لكونه يعتمد فى أكثر من ثلث استهلاكه على روسيا.

وكانت كل من فرنسا وألمانيا قد تحركت قبل الهجوم الروسى فى محاولة لمنع اندلاع الحرب، حيث زار الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون موسكو، وكذلك فعل المستشار الألمانى أولاف شولتس، واستمعا لتأكيدات من المسئولين الروس عن عدم نية روسيا غزو أوكرانيا، وهو ما لم يحدث.

وقد أربك الهجوم الروسى الحسابات الأوروبية ليس فقط لأن الحرب كانت فى عقر دارها، وإنما أيضاً لأن أوروبا اعتادت على استخدام أدوات ناعمة فى مواجهة أى خلافات مع روسيا. فمنذ أن أعلنت موسكو فى 2014 ضم إقليم القرم عقب استفتاء شعبي، رفض الاتحاد الأوروبى الاعتراف به، ووقع عقوبات محدودة على روسيا، لم تؤثر على العلاقات التجارية والاستثمارات المشتركة بين الطرفين.

كما عجزت روسيا عن منع تمدد الناتو طوال السنوات الماضية حتى أصبح فى بلدان كانت جزءاً من حلفها القديم (وارسو)، بل إن دول البلطيق التى كانت جزءاً من الجمهوريات السوفيتية السابقة انضمت للاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، وهو ما اعتبرته روسيا تهديداً لأمنها القومى وأرسلت إشارات متكررة برفض استنساخ هذا الوضع فى أوكرانيا وهو ما تجاهلته الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي.

والحقيقة أن التحركات الأوروبية، كما الأمريكية، فى مواجهة الغزو الروسى ظلت رغم التباين بينهما لم تتجاوز الخطوط الحمراء للنظام الدولى القائم، والذى يعترف ضمناً بالمجال الحيوى للقوى العظمي، حتى لو كان حلف الناتو استثمر الضعف الروسى عقب انهيار الاتحاد السوفيتى وتمدد فى كثير من الدول المتاخمة للحدود الروسية، فإن إصرار أوروبا والولايات المتحدة على عدم التدخل عسكرياً فى أوكرانيا لتفادى حرب عالمية ثالثة يعنى اعترافاً ضمنياً بأن أوكرانيا تقع داخل المجال الحيوى الروسى خاصة أنها ليست عضواً فى حلف الناتو، وحتى لو اختلفت مع وسيلة الغزو وواجهتها بالطرق الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية.

المصالح الاقتصادية والطاقة الروسية

كشفت قمة فرساى التى عُقدت فى فرنسا مطلع هذا الأسبوع عن توافق أوروبى على إدانة الهجوم الروسي، وعلى بعض العقوبات الاقتصادية، التى مازالت مختلفة عما تريده الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بمجال الطاقة.

والحقيقة أن أوروبا تعتمد على ما يقرب من 40% من طاقتها على روسيا، وهذا ما جعل المستشار الألمانى أولاف شولتس يصرح عقب القمة: «تعمدت أوروبا استثناء إمدادات الطاقة الروسية من العقوبات لأن ذلك سينعكس بشدة على اقتصاد الدول الأوروبية».

صحيح أن الاتحاد الأوروبى قال إنه سيبحث عن مصادر بديلة للطاقة الروسية وأنه ينوى الاستغناء عنها فى 2027، إلا إنه لا توجد مؤشرات حقيقية توحى بأن هناك بدائل متاحة، بما فيها البدائل الخليجية التى لن تستطيع تغطية احتياجات السوق من النفط والغاز الروسيين.

كما قررت كثير من الشركات والمؤسسات المالية الأوروبية تجميد استثماراتها ولم تنسحب من السوق الروسية كما فعلت شركة توتال الفرنسية الشهيرة على خلاف شركة شيل الأمريكية التى قررت الانسحاب من السوق الروسية. ولم تغير أوروبا أيضاً المسار المعقد والطويل لانضمام أى دولة للاتحاد من أجل أوكرانيا التى كانت قد أعلنت عن رغبتها فى الانضمام للاتحاد واكتفى القادة الأوروبيون بجملة "لطيفة" مفادها أن أوكرانيا جزء من "العائلة الأوروبية"، دون أن يعنى ذلك وضع مسار خاص أو استثنائى لانضمامها للاتحاد.

رفع الإنفاق العسكرى

أكبر تأثيرات الحرب الروسية فى أوكرانيا هو قرار كثير من دول الاتحاد رفع ميزانية الإنفاق العسكري، حيث جاءت ألمانيا فى الصدارة ورفعت إنفاقها العسكرى من 56 مليار دولار سنوياً إلى 100 مليار دولار، وإعلان مستشارها تخلى بلاده عن عقيدة استمرت لعقود طويلة وقائمة على «التحكم» فى الإنفاق العسكري. كما قررت لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تزويد دولة فى منطقة نزاع بالأسلحة. أما بريطانيا، فقد أقرت زيادة فى ميزانية الدفاع بأكثر من 16.5 مليار دولار. كما أعلنت فرنسا أنها ستزيد من ميزانية الدفاع لهذه السنة بأكثر من مليارى دولار، فى وقت تحقق فيه هدف تخصيص 2% من ناتجها الداخلى الخام للجيش. وزادت كل من هولندا وإيطاليا نسب إنفاقها العسكري، وكذلك فعلت بلدان كانت تطالب بتخفيض الإنفاق على الجيوش مثل السويد والدانمارك. كما بحثت دولة صغيرة على حدود روسيا مثل فنلندا والتى عرفت بحيادها، الانضمام لحلف الناتو.

الاتحاد أمام واقع جديد

بدأت تجربة الاتحاد الأوروبى كجماعة أوروبية للفحم والصلب فى إبريل عام 1951 وضمت فرنسا وألمانيا الغربية وبلجيكا وإيطاليا ولوكسمبرج وهولندا بهدف تأسيس تكتل اقتصادى أوروبى فى مجال الطاقة، وأيضاً لتحييد خطر الحرب، حسب ما جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسى فى ذلك الوقت روبرت شومان الذى قال: «لن نجعل من الحرب أمراً غير وارد فحسب، بل غير منطقى مادياً أيضاً» وهذا ما جرى طوال العقود التى أعقبت الحرب العالمية الثانية.

ورغم أن حرب البوسنة كانت ناقوس خطر لأوروبا التى لم يحسمها إلا التدخل العسكرى الأمريكي، فإن أوروبا بقيت على حالها تركز على برامج التنمية والشراكات الاقتصادية مع دول العالم، وغابت عن المعارك العسكرية التى شهدها العالم إلا فى حالة بريطانيا التى لحقت بمعظم معارك الولايات المتحدة وخاصة أثناء غزو العراق فى 2003.

والحقيقة أن الحديث عن «عسكرة» الاتحاد الأوروبى أو بناء جيش أوروبى موحد أو تزايد نفوذ أوروبا من خلال القوة العسكرية أمر مازال بعيدا عن الواقع. صحيح أن الحرب فى أوكرانيا جعلت اهتمام أوروبا بزيادة قدراتها العسكرية حقيقة، إلا أن قدرتها على منافسة القوى العسكرية الثلاث الأولى فى العالم أى الولايات المتحدة والصين وروسيا مازالت بعيدة، وأنها ستحتاج إلى تغيير عميق فى الثقافة السياسية والمجتمعية لكى يتقبل الأوروبيون فكرة الانتقال من الاعتماد على تأثير نموذج اقتصادى وثقافى وسياسى إلى قطب يعتمد على قوته العسكرية، وهو أمر غير مؤكد وغير وارد فى المستقبل المنظور أو المتوسط.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 16 مارس 2022.