حديث النظام العالمى والتغيير الذى سيحدث فيه لا ينقطع منذ بدء الهجوم العسكرى الروسى ضد أوكرانيا فى 24 فبراير 2022، وقبله بأشهر عندما وضعت موسكو على الحدود قوات تُحشد عادةً لأغراض قتالية. يوحى السلوك الروسى الهجومى، ورد الفعل الغربى الدفاعى، لكثير ممن يتوقون إلى تغيير فى النظام العالمى بأن هذا التغيير اقترب، أو بات وشيكًا، أو لعله بدأ فعلاً.
ولهذا يثير ما يحدث فى أوكرانيا وحولها أسئلة عن نتائج إقدام روسيا على شن أول حرب كبيرة فى أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعما إذا كان العالم يتجه إلى تغيير جوهرى فى علاقات القوى، وهل أصبح النظام العالمى متعدد الأقطاب، أو بات هذا التعدد وشيكًا، وغيرها.
وهى كلها أسئلة مهمة. ولكن السعى إلى إجابات عنها يبدأ بسؤال لابد، من الناحية المنهجية، أن يسبقها وهو: كيف سيحدث الانتقال فى النظام العالمى الراهن؟ وقد فضلتُ استخدام تعبير انتقال Transition، وليس تغييرًا Change، انطلاقًا من فرضية أطرحُها للتفكير فيها وبحثها موضوعيًا بمنأى عن الانحيازات، وهى أن احتمال حدوث تجديد فى النظام العالمى من داخله، وفى إطار قواعده الأساسية المنصوص عليها فى ميثاق الأمم المتحدة مع بضع إضافات محتملة فى الاتجاه نفسه، ربما يفوق احتمال تغييره بالكامل وبواسطة تحدى هذه القواعد أو بعضها، وأن احتمال التطور الكمى فيه –بالتالى- قد يكون أكبر من احتمال التغيير النوعى، وأن احتمال حدوث التجديد على هذا النحو اعتمادًا على قوة النموذج ربما يكون أوفر من احتمال تغيير استنادًا على قوة السلاح.
وتعبير الانتقال، الذى ينطوى بطابعه على تدرج، أقرب إلى طبيعة هذه الفرضية، التى يمكن أن نصوغها مبدئيًا كالتالى: كلما ازدادت قوة النموذج الجديد الذى تقدمه الصين وجاذبيته، قل تأثير القوة العسكرية فى التفاعلات المؤدية إلى تجديدٍ فى النظام العالمى.
ولكى نبدأ التفكير فى هذه الفرضية، بدون أن نطمح إلى سبر أغوارها بشكل كامل فى مقالة تهدف أساسًا إلى طرحها والحث على البحث فيها، يحسن أن نعود قليلاً إلى تاريخ غير بعيد لإلقاء نظرة سريعة على الخطوط العامة جدًا لتطور النظام العالمى، والتغيير الذى حدث فيه، منذ أوائل القرن التاسع عشر حين ظهر هذا النظام فى صورته الحديثة، قبل أن يُسمى بهذا الاسم، وحتى أواخر القرن العشرين بعد الانتقال من نظام عالمى ثنائى القطبية إلى نظام القوة الأولى أو القوة الأكبر من قوى أخرى، وليس نظام القطب الأحادى بخلاف ما بدا أنه سيكون فور تفكك الاتحاد السوفيتى السابق ومعسكره، ولكن لم يمض عقد من الزمن حتى تبين أن هذا الذى بدا لم يكن هو الذى يحدث فى الواقع.
مرحلةُ التحولِ فى النظامِ العالمىِ بقوةِ السلاح
كان ضرورريًا أن تُهزم هزيمة فرنسا النابليونية عسكريًا، وتنتهى حروبها التى امتدت فى الفترة بين 1798 و1814، لكى تنضج الظروف لتأسيس نظام عالمى حديث على أساس تعاقدى فى مؤتمر فيينا (سبتمبر 1814 – يونيو 1815)، والمعاهدة التى تمخضت عنه ووقعتها الدول الأوروبية الكبرى. فقد أرست تلك المعاهدة مبادئ أساسية فى مقدمتها توازن القوى، واحترام سيادة الدول، وعدم قيام أى منها بتهديد الأخرى، وحرية الملاحة فى الأنهار الدولية وغيرها.
وكان مؤدى ذلك الحدث غير المسبوق فى تاريخ العلاقات الدولية قيام نظام عالمى متعدد القوى أو الأقطاب، بدون أن يعنى هذا تساويها بشكل كامل، إذ بقى ثمة تفاوت بينها، ولكنه محكوم بالمبادئ التى أُرسيت. فكانت بريطانيا، التى ستسبق غيرها إلى الثورة الصناعية بعد قليلٍ من ذلك المؤتمر، أقوى. ولكن المسافة كانت قصيرة بينها وبين دول أوروبية أخرى، مثل فرنسا والنمسا وبروسيا (ألمانيا لاحقًا) وروسيا. كما لم تكن المسافة بعيدة عن دول أخرى مثل إيطاليا عقب إكمال وحدتها التى حدثت تدريجيًا حتى عام 1870، وبلجيكا، وكذلك اليابان خارج أوروبا. ولكن نظام تعدد القوى أو الأقطاب لم يُحقَّق السلام الذى كان مأمولاً، إذ اندلعت فى العقود التالية حروب عدة خلقت توترات تراكمت حتى بات الوضع مهيئاً لأول حرب عالمية.
وما أن انتهت تلك الحرب المهولة حتى حاولت الدول الكبرى المنتصرة فيها إعادة بناء النظام العالمى فى مؤتمر تاريخى ثان (بعد مؤتمر فيينا) عُقد فى فرساى عام 1919. وأسفر ذلك المؤتمر، فضلاً عن معاقبة ألمانيا والدولة العثمانية، عن إيجاد آلية جديدة غير مسبوقة هى عصبة الأمم التى كانت بداية تنظيم دولى حلم بمثله المفكر الألمانى إيمانويل كانط مبكرًا جدًا فى كتابه (السلام الدائم – رؤية فلسفية) الصادر عام 1795، والذى نقله د. عثمان أمين إلى العربية تحت عنوان (مشروع للسلام الدائم).
لكن قسوة العقوبات التى فُرضت ضد ألمانيا دفعت التيار القومى المتطرف فيها إلى الصدارة، وصار أكثر تطرفًا بقيادة أدولف هتلر الذى قاد العالم إلى حرب عالمية ثانية كانت أكثر ضراوة من سابقتها، ولكنه فشل فى تحقيق التغيير الذى أراده.
مرحلة التحول فى النظام العالمى بقوة النموذج
شنت ألمانيا النازية الحرب عام 1939 سعيًا لإحداث تغيير تستعيد بموجبه حقوقها وفق ما تصوره هتلر، وترفعها إلى قمة النظام العالمى. وحدث التغيير فعلاً بواسطة هذه الحرب، ولكن فى اتجاه مختلف تمامًا لم يتوقعه أى ممن خاضوها، لأن التحاق الولايات المتحدة بها أحدث تحولاً نوعيًا فى مسارها، كما فى موازين القوى الدولية، بالتوازى مع الدور المحورى الذى لعبه الاتحاد السوفيتى آنذاك فى مواجهة التوسع الألمانى خلال الحرب، ودخول قواته بلدانُا عدة فى شرق أوروبا ووسطها، وهو ما صار أساسًا لتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة. فلم تمض سنوات قليلة حتى تبين أن بريطانيا وفرنسا، اللتين اعتمدتا على الولايات المتحدة لإعمار ما دمرته الحرب فيهما، كما فى أوروبا، أخذتا فى التراجع، فى مقابل صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى إلى قمة النظام العالمى.
وكانت تلك هى المرة الأخيرة التى حدث فيها تغيير فى النظام العالمى بواسطة القوة العسكرية، التى ظلت هى أداة كل تحول حدث فى العالم عبر تاريخه الطويل، فقد رفع الردع المتبادل تكلفة أى حرب بين القوى الكبرى التى تملك أسلحة نووية، لأن نتيجتها دمار شامل فعلاً، وليس مجرد اسم أُطلق على هذه الأسلحة.
لم تتحول الحرب الباردة رغم شدتها إلى ساخنة، ولجأت القوتان اللتان تصدرتا النظام العالمى على وكلاء، فانتشر نمط الحرب بالوكالة فى أنحاء مختلفة من العالم. لكن الولايات المتحدة اعتمدت على تقديم صورة زاهية انتشرت فى العالم، فيما أُطلق عليه "الحلم الأمريكى"، لتكون الأداة الأساسية فى إدارة الصراع ضد الاتحاد السوفيتى، وجعلت قوتها الناعمة أساسًا لنموذج اعتمد على الحرية والديمقراطية والمواطنة، ومجال عام مفتوح، ونمط حياة منفتح، ومصادر متعددة للقوة الثقافية، وتوفير فرص العمل والكسب وتحقيق الذات، والارتقاء بمستوى التعليم، وتحقيق قفزات فى البحث العلمى والابتكار. وذاعت شهرة هذا النموذج حتى صارت بعض ملامحه جاذبةً لقطاعات متزايدة من الشعوب فى الاتحاد السوفيتى والدول المتحالفة معه.
وبرغم أن سباق التسلح أثر فى النتيجة التى انتهت إليها الحرب الباردة، فقد أتاحت قوة النموذج للولايات المتحدة إمكانات أكبر من الاتحاد السوفيتى الذى أضعفت تلك التكلفة اقتصاده، فى الوقت الذى عجز نظامه السياسى الأحادى عن حل مشكلة القوميات التى يصعب معالجتها فى غياب قدر معقول من حرية التعبير عن كل من هذه القوميات، ومناخ مناسب للتفاعل الإيجابى بينها، بخلاف الحال فى الولايات المتحدة التى تمكن النظام التمثيلى فيها من دمج الأقليات الإثنية بدرجات متفاوتة، والحد من أزمة العنصرية ضد الأمريكيين من أصل إفريقى، وتحقيق تقدم جزئى فى التعامل معها بدءًا من ستينات القرن الماضى.
وهكذا حدث انتقال سلس فى النظام العالمى اعتمادًا على قوة النموذج الأمريكى، وبدون طلقة واحدة. وبعد ما بدا أن هذا النظام يمضى باتجاه هيمنة أمريكية، تبين أن الولايات المتحدة صارت فى وضع أقرب إلى القوة الأولى، منها إلى القطب الواحد أو الأحادى، وخاصةً بعد أن بدأت عملية التنمية الضخمة فى الصين تؤتى ثمارها تدريجيًا مع نهاية القرن المنصرم، وشرعت روسيا بدءًا من منتصف العقد الأول فى القرن الحالى فى التطلع إلى استعادة ما فقدته، أو شيئًا منه، وتنامى أدوار ما صارت تُعرف بالقوى الصاعدة.
مستقبل النظامِ العالمىِ بينَ قوةِ السلاحِ وقوةِ النموذج
كان من سمات النظام العالمى الذى نتج عن انتهاء الحرب الباردة، فضلاً عن عدم تمكن الولايات المتحدة من التفرد بقمته، ظهور عوامل عدم استقرار جديدة مثل تنامى الإرهاب وازدياد التهديدات المترتبة عليه، وجموح السياسة الأمريكية فى رد فعلها على خطره الذى وصل إلى قلبها، وعدم قدرتها على إدارة العلاقات مع الصين الصاعدة بطريقة خلاٌقة، وتحول روسيا إلى قوة مراجعة Revisionist تدفعها طاقة استياء وغضب شديدين ليس بسبب ما حدث للاتحاد السوفيتى السابق فقط، ولكن لما تعرضت له فى الفترة التالية أيضًا. وبفعل هذه المؤثرات، وغيرها، وصل النظام إلى النقطة التى يُثار عندها السؤال عما بعده فى وقت أقصر من النظامين السابقين، اللذين استمر أحدهما (التعددى) قرنًا كاملاً، والثانى (الثنائى) ما يقرب من نصف القرن.
وصار هذا السؤال أكثر إلحاحًا اليوم فى ضوء نشوب أول حرب كبيرة فى أوروبا منذ انتهاء النظام الثنائى القطبية. فهل يمكن أن يكرر التاريخ نفسه، ويعود العالم إلى مرحلة تغيير النظام العالمى بالقوة العسكرية، التى تعنى هذه المرة القوة النووية، وكأن المرحلة التى صارت قوة النموذج فيها هى العامل الرئيسى فى التغيير لم تكن، أو كأنها كانت "جملة اعتراضية" يمكن التغاضى عنها؟
وحتى إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تغيير النظام العالمى بالقوة العسكرية هذه المرة فى وجود أسلحة نووية يمكن أن تدمر العالم بما ومن فيه، وهل تبقى أهمية لصراع على هذا النظام فى ظل دمار شامل سيلحق بالعالم ويصعب تخيل المدى الذى يمكن أن يبلغه؟
وحتى إذا مضينا أبعد من ذلك، واستهنا بالأسلحة النووية ودمارها، أو هوَّنا من شأنها، وتخيلنا أن هناك منتصرًا فى حرب تُستخدم فيها هذه الأسلحة سيتصدر النظام العالمى، أو تصورنا أن العالم سيرضخ لمن يلوح باستخدام الأسلحة النووية ليضعه بين خيارى التسليم له، أو المغامرة بحرب إفناء الكون، أفلا يعنى هذا أنه قد يصير فى إمكان أىٍ من أعضاء النادى النووى أن يسعى إلى تغيير هذا النظام متى يشاء؟
والسؤال التالى منطقيًا فى هذا السياق، هو: هل يبدو احتمال تغيير النظام العالمى بالقوة العسكرية ممكنًا حقًا، حتى إذا استخدمها من لا يملك من عناصر القوة الشاملة للدولة غيرها، وخاصةً حين نأخذ فى الحسبان أن واقع العلاقات الدولية يشى بتقدم سريع للصين فى الطريق إلى قمة العالم، اعتمادًا على قصة نجاح اقتصادى-اجتماعى لا مثيل لها، وعلى نموذج جديد آخذ فى التطور وقابل لأن يكون جاذبًا مع بعض الإصلاحات فيه خلال عدة سنوات، فى الوقت الذى تضعف جاذبية النموذج الأمريكى، على نحو يمكن أن يجعل الدولتين متعادلتين تقريبًا فى قوة النموذج وقدرته على التأثير؟
وألا يفرض هذا التطور تركيزًا أكثر للاهتمام على احتمالٍ قد يكون أقرب، وهو أن العالم كان يتجه قبل الحرب الروسية على أوكرانيا صوب نظام ثنائى القطبية مرة ثانية، ولكن مع وجود الصين هذه المرة بجوار الولايات المتحدة فى قمته، وتقدمهما بمسافة معتبرة على القوى الكبرى الأخرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبى واليابان، وبعدها القوى الصاعدة التى ستتمكن من مواصلة الصعود؟
وألا يدل موقف الصين المحايد إلى حد كبير تجاه هذه الحرب، وعدم اصطفافها مع روسيا، على أنها ليست لها مصلحة فى استخدام القوة العسكرية لتحقيق تغييرٍ قطعت بالفعل شوطًا طويلًا فى الطريق إليه، وأنها تستطيع بلوغ هدفها من داخل النظام العالمى، وليس عن طريق تغييره؟ وأليس هذا ما يُستفاد من أهم ما ماقاله وزير خارجيتها وانج يي، فى مؤتمر صحفى عقده فى 7 مارس 2022، وهو أن الصين تحافظ على النظام العالمى، وتعمل لتدعيم قيم التنمية المستدامة والتعاون والسلام وتعزيز الثقة وحل النزاعات بالحوار، وتحرص على الانفتاح فى الاقتصاد العالمى بدون مواجهات بين كتل فى العالم؟
وألا يعنى هذا عدم صواب النظر إلى الصين بوصفها قوة مراجعة Revisionist للنظام العالمى الحالى، بخلاف الحال بالنسبة إلى روسيا؟ ثم كيف تكون الصين قوة مراجعة، وهى المستفيد الأول من هذا النظام، الذى تُحرز فى ظله تقدمًا مستمرًا، إذ باتت القوة التجارية الأكبر، والمصدر الأهم للإقراض العالمى، إلى جانب تحولها لمركز عالمى للابتكار، واقترب حجم اقتصادها من معادلة الاقتصاد الأمريكى؟ وأليس الأرجح منطقيًا أن تواصل هذا المنهج لما يحققه من نتائج آخذة فى التراكم ما لم تحدث مفاجأة قد ترتبط بتفاعلات داخلية أو إقليمية، وتؤدى إلى اختلاف فى المعطيات الحالية والمتوقعة فى الفترة القادمة؟ وهل يمكن، بالتالى لأى حرب تشنها روسيا أو غيرها أن تثنى الصين عن هذا المنهج الذى يجعلها موضع ثقة الجميع تقريبًا (استخدم مُنسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى جوزيف بوريل عبارة "دولة موثوق بها من جميع الأطراف" فى سياق حديثه، الذى نُشر فى صحيفة البايبس الإسبانية فى 4 مارس 2022، عن أنها التى قد تستطيع القيام بدور الوسيط لوقف الحرب)؟
وأليس متوقعًا، والحال هكذا، أن تكون الصين الرابح الأول من الحرب فى أوكرانيا، وتليها الولايات المتحدة التى يُرجح أن تكون خسائرها أقل من روسيا والاتحاد الأوروبى؟
هذا غيض من فيض أسئلة يتعين أن نطرحها على أنفسنا عند اختبار الفرضية التى بدأنا بها هذه المقالة، وربما نجد فى ثنايا بعضها إجابات عنها.