تطرح حالة السيولة التي تتسم بها أنماط التفاعلات التي تجري على الساحة الدولية نتيجة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، فرضيات كثيرة لم تكن موضع اعتبار قبل تلك اللحظة التي اتخذ فيها الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين قراره باستخدام الخيار العسكري في التعامل مع الأزمة الأوكرانية وتصفية حساباته مع الدول الغربية وحلف الناتو، في 24 فبراير الفائت (2022). وفي الواقع، فإن من أهم هذه الفرضيات- التي تبدو في حاجة إلى اختبار لتقييم فرص تحققها من عدمه وتداعياتها المحتملة- ما يتعلق بخروج روسيا من الاتفاق النووي، على غرار الخطوة التي سبق أن اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، في 8 مايو 2018.
مبعث طرح هذه الفرضية هو المطالب التي طرحتها روسيا قبل الإعلان عن الوصول إلى صفقة جديدة في المفاوضات التي تجري في فيينا بين إيران ومجموعة "4+1" وتشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر، على نحو يبدو أنه تسبب في إرباك الحسابات وتأجيل الإعلان عن نجاح المفاوضات، بل وتراجع نبرة التفاؤل التي بدت جلية في تصريحات مسئولي الدول المشاركة فيها، على غرار ما أشارت إليه المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية آن كلير لوجندر، في 10 مارس الجاري، عندما قالت أن "الآمال تتضاءل في التوصل إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015 بين إيران والقوى العالمية".
وتتمثل المطالب الروسية في الحصول على ضمانات مكتوبة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية تفيد عدم تأثر العلاقات بين روسيا وإيران بالعقوبات الغربية التي تتعرض لها روسيا بسبب تدخلها العسكري في أوكرانيا. لكن تلك المطالب لم تلق تجاوباً من جانب الدول الغربية. بل إن إيران نفسها لم تتبن موقفاً واضحاً في هذا السياق، لكنها سمحت في الوقت نفسه لوسائل إعلامها بشن حملة انتقادات قوية ضد الموقف الروسي الجديد الذي أجّل الإعلان عن الصفقة وأضاف متغيراً جديداً في المفاوضات لم يكن في الحسبان، وبدأ الاتجاه الذي كان قد سبق أن حذر مراراً من عواقب الرهان على "الحليف" الروسي يستثمر ذلك في إضفاء وجاهة خاصة على هذا التحذير.
هنا تحديداً تبقى كل الاحتمالات مفتوحة والفرضيات مطروحة، ومنها أن تضطر روسيا إلى التغاضي عن ذلك وتساهم في إنجاز الصفقة، أو أن تصر على موقفها وربما تهدد باستخدام الفيتو في حالة ما إذا اتجهت الأطراف المشاركة إلى محاولة استصدار قرار أممي جديد على غرار القرار 2231 الذي صدر في 20 يوليو 2015 بعد أسبوع واحد من الوصول للاتفاق النووي.
أربعة خيارات
في هذه اللحظة، فإن القوى الأخرى المشاركة في المفاوضات سوف تجد نفسها أمام خيارات رئيسية أربعة: أولها، تمرير الصفقة بدون موافقة روسيا وبدون استصدار قرار جديد من مجلس الأمن. وثانيها، الاستجابة لمطالب روسيا بالحصول على ضمانات خطية بتحصين علاقاتها مع إيران من أية عقوبات غربية. وثالثها، تأجيل الإعلان عن الصفقة لحين الوصول إلى تفاهمات بين إيران وروسيا في هذا الصدد. ورابعها، الإعلان عن فشل المفاوضات وعودة أزمة الملف النووي إلى مربعها الأول من جديد.
الخيار الأول قد يعني مباشرة أن روسيا لن تكون طرفاً في الاتفاق، وبالتالي تكون قد خرجت منه. ورغم أن تلك الخطوة تتشابه، نظرياً، مع تلك التي سبق أن اتخذتها إدارة ترامب، وتحاول إدارة بايدن حالياً تلافي عواقبها، إلا أنها تختلف عنها في متغير أساسي هو مستوى الاستحقاقات التي سوف تترتب على ذلك.
وتتعلق هذه الاستحقاقات بما إذا كانت روسيا ستتجه إلى استكمال تلك الخطوة باتخاذ إجراءات عقابية ضد إيران والدول المشاركة في المفاوضات، خاصة الأولى التي تكون في هذه الحالية، وفقاً لرؤية موسكو، قد تجاوبت مع المقاربة الغربية، ولم تأخذ مصالحها في الحسبان. وربما تندفع موسكو في هذا المسار في حالة ما إذا اعتبرت أن الإعلان عن الاتفاق قد يستتبعه مباشرة رفع مستوى الصادرات النفطية الإيرانية إلى الأسواق الدولية، بهدف تعويض قسم من النقص المحتمل في إمدادات النفط الروسية، أو لخفض أسعار النفط التي تواصل ارتفاعها بشكل كبير على خلفية استمرار العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
بدائل نقل اليورانيوم
يرتبط أهم هذه الاستحقاقات باختيار دولة أخرى لنقل كميات اليورانيوم التي قامت إيران بتخصيبها، وتزيد بشكل كبير عن ما هو مسموح لإيران وفقاً للاتفاق النووي الحالي. وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد كشفت، في 3 مارس الجاري، أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب زاد 15 ضعف ما يسمح به الاتفاق، ووصل إلى 3197.1 كيلو جرام، في حين يقضي الاتفاق باحتفاظ إيران بـ202.8 كيلو جرام (أو 300 كيلو جرام ما يعادل سادس فلورايد اليورانيوم).
وربما تكون هذه هى الورقة الأهم التي تحاول روسيا التلويح بها لممارسة ضغوط على القوى المنخرطة في المفاوضات من أجل التجاوب مع مطالبها، بما يعني أنها قد ترفض في حالة عدم الاستجابة لمطالبها استقبال تلك المواد النووية، على نحو سوف يدفع تلك القوى إلى التفكير في خيارات بديلة، وتصبح بالتالي الدول الأقرب إلى ذلك الصين أو كازاخستان، التي تمتلك إمكانيات تكنولوجية كبيرة ورثتها من الاتحاد السوفييتي، وتبنت مبادرة إنشاء بنك دولي للوقود النووي لمساعدة الدول التي تسعى إلى تأسيس برامج نووية للأغراض السلمية. ولا يعرف حتى الآن مواقف القوى المختلفة من ذلك.
التعاون الاقتصادي والعسكري
فضلاً عن ذلك، فإن التأثير على مستوى التعاون الاقتصادي والعسكري بين روسيا وإيران يعد أحد الاستحقاقات المحتملة في حالة تحقق هذا السيناريو. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين نحو 4 مليار دولار، في حين يتوقع أن تبرم الدولتان صفقات عسكرية لتطوير بعض القطاعات التي تحتاج إلى تحديث في المنظومة العسكرية الإيرانية، لاسيما سلاح الجو.
وهنا، فإن ذلك قد يمثل بدوره ورقة ضغط إضافية لروسيا في مواجهة إيران. إذ أن حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي تعول بشكل واضح على العلاقات مع روسيا على المستويات المختلفة في إطار سياسة "التوجه شرقاً" التي تتبعها في الوقت الحالي وتعرضت بسببها لانتقادات قوية من جانب أطراف عديدة اعتبرت أن ذلك قد لا يتسامح مع المصالح الوطنية الإيرانية التي تقتضي الوصول إلى نوع من التوازن في علاقات إيران الخارجية.
من هنا، وفي ضوء هذه الاستحقاقات في مجملها، يمكن القول إن انسحاب روسيا من الاتفاق النووي أصبح أحد السيناريوهات المطروحة. لكن تحديد مدى إمكانية تحققه يرتبط في المقام الأول بحسابات طهران، التي قد تواجه بسبب ذلك مأزق "الخيارات المحدودة". فقد سبق أن اعتمدت بشكل كبير على روسيا كظهير دولي لمواجهة ضغوط الدول الغربية داخل مجلس الأمن وخارجه. ومن ثم فإن الوصول إلى اتفاق جديد من دون موسكو يبقى مخاطرة غير محمودة العواقب.
كما أن روسيا بدورها قد تجازف في حالة ما إذا اتجهت إلى هذا السيناريو، الذي قد يدفع إيران إلى التحول من التوجه شرقاً إلى التوجه غرباً على غرار ما كان قائماً في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، عبر توسيع نطاق علاقاتها مجدداً مع الدول الغربية، وقد تتحسن علاقاتها أيضاً مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في حالة ما إذا ساهمت في تعزيز المساعي الغربية لتقليص الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية، وهو استحقاق لا تبدو روسيا في وارد المغامرة بتعزيز فرص تحققه.