د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

الصورة لا تتكلم. لكنها قد توحي بمعانٍ وتُوجِه رسائل وإشارات ما، يمكن في بعض الأحيان أن تكون أكثر تأثيراً من الكلمة. قد لا يكون ذلك جديداً، إلا أنه متجدد باستمرار؛ فالصورة أصبحت رقماً مهماً في معظم التفاعلات إن لم يكن مجملها، وعلى كافة المستويات. وقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورُ بارز في تعميق وتوسيع نطاق هذا التأثير. يكفي أن تنشر صورة على أىٍ من التطبيقات المتاحة لتصل إلى مختلف بقاع العالم بسرعة البرق.

ساعات يد لافروف وشويغو تشير إلى عقد اجتماع مجلس الأمن القومي مبكرا

الأزمة الأوكرانية ليست استثناءً في ذلك، فقد كان للصورة دورُ وتأثير في هذه الأزمة، وكشفت في بعض الحالات عن حقائق مغايرة للواقع. على سبيل المثال، كشفت صور المسئولين الروس المشاركين في اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي برئاسة الرئيس فيلاديمير بوتين، في 21 فبراير الفائت (2022)، أن الرسالة التي حاولت روسيا توجيهها إلى العالم بأن قرارها بالاعتراف باستقلال كل من "دونتسيك" و"لوغانسك" جاء محصلة لما شهده الاجتماع من مناقشات، كانت غير صحيحة، حيث كشفت ساعات يد هؤلاء المسئولين عن أن هذا القرار كان قد اُتخذ قبل الاجتماع وليس بعده.

لكن الصورة الأهم التي أوحت بمعانٍ كثيرة كانت تلك التي جمعت الوفدين الروسي والأوكراني في الجولة الثانية من المفاوضات التي أُجريت على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، في 3 مارس الجاري، حيث وجهت رسائل عديدة إلى الأطراف المعنية بما يجري من محادثات بين موسكو وكييف تتوازى مع استمرار التصعيد الميداني بين الطرفين.

البدلة في مقابل الأفرول

أول انطباع ظهر في الصورة التي نُشرت للمفاوضات تعلق بالزى الذي ارتداه وفدا التفاوض. فقد ارتدى أعضاء الوفد الروسي أزياءً رسمية (بدل وربطات عنق)، في حين ارتدى أعضاء الوفد الأوكراني زياً عسكرياً رغم أنه ضم مسئولين ذوي خلفية سياسية. ويطرح ذلك دلالتين رئيسيتين:

الأولى، أن هناك أجندات مختلفة من جانب الطرفين. إذ بدا المسئولون الأوكرانيون حريصين عبر ذلك على تأكيد استعدادهم للانخراط في الميدان، والاستمرار في مقاومة العمليات العسكرية الروسية. في حين بدا الروس أكثر حرصاً على الفصل بين الخيار الدبلوماسي والتصعيد الميداني، حيث ضم الوفد الروسي كلاً من مستشار الرئيس، ونائب وزير الخارجية، ورئيس لجنة الشئون الخارجية بالدوما، والسفير الروسي لدى بيلاروسيا. في حين ضم الوفد الأوكراني كلاً من وزير الدفاع، ومستشار الرئيس، ورئيس الحزب الحاكم.

الثانية، أن الهدف الأساسي الذي سعى إليه الوفد الأوكراني كان هدفاً عسكرياً، تمثل في وقف إطلاق النار، وسحب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. في حين كان الهدف الأساسي للوفد الروسي أكثر اتساعاً وتعدداً، حيث تراوح ما بين السياسي والعسكري. لكن في النهاية لم تنته الجولة بنتيجة تتوافق بشكل كبير مع حسابات الطرفين، حيث تم الاتفاق على إنشاء ممرات إنسانية في المناطق الأكثر تضرراً مع وقف إطلاق النار فيها مؤقتاً. وكان لافتاً في هذا السياق، أن مستشار مكتب الرئاسة الأوكراني، ميخائيل بودولياك، أكد بعد اختتام الجولة الثانية أن "الوفد الأوكراني لم يحقق النتيجة التي كان يأمل بها".

ربما كان ذلك منطقياً إلى حد بعيد؛ فالمعارك العسكرية ما زالت في بداياتها، ولا يُتوقع أن تنتهي قريباً. وبالتالي، فإن العناوين الكبيرة التي تبدأ بها المفاوضات، على غرار وقف العمليات العسكرية ونزع السلاح، سرعان ما تتراجع لصالح عناوين فرعية، مثل الممرات الإنسانية وإدخال المساعدات. وبمعنى آخر، فإن الظروف التي يمكن أن توفر المجال أمام إنجاح المفاوضات وتزيد من احتمال الوصول إلى توافق حول هذه العناوين الكبيرة ربما لم تنضج بعد.

الشروط الروسية

كان لافتاً أيضاً في الصورة التي التقطت لمفاوضات الجولة الثانية أن الأوراق الموضوعة أمام الوفد الروسي كانت تتضمن نقاطاً عدة مكتوبة، في حين كانت الأوراق الموضوعة أمام الوفد الأوكراني بيضاء. ويعني ذلك في المقام الأول، أن الوفد الروسي ركز على "الشروط" التي سبق أن حددتها روسيا للوصول إلى تسوية للأزمة، وهى تَبَني أوكرانيا سياسة محايدة في علاقتها بحلف "الناتو"، والاعتراف بسيادة روسيا على القرم، ونزع سلاح أوكرانيا. وبدا أن ذلك يمثل محاولة من جانب موسكو لاستغلال الموقف الميداني من أجل ممارسة ضغوط أكبر على كييف، ودفعها إلى الاستجابة لشروطها.

وقد كان الجيش الروسي حريصاً على المسارعة في السيطرة على خيرسون، وهى إحدى المدن الكبرى في جنوب أوكرانيا، وذلك قبيل ساعات من انعقاد الجولة الثانية من المفاوضات، وذلك بهدف تعزيز الموقع التفاوضي للوفد الروسي، وتمكينه من ورقة ضغط إضافية في مواجهة الوفد الأوكراني، الذي بدا أنه يركز هدفه الأول والوحيد على وقف إطلاق النار، وهو مطلب لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض خلال المرحلة الحالية من التصعيد الميداني، خاصة بعد أن أكد الرئيس بوتين، في الاتصال الثاني الذي أُجرى مع نظيره الفرنسي ماكرون، في 3 مارس الجاري، على أن العملية العسكرية سوف تستمر حتى النهاية.  

تراجع عدد المفاوضين الأوكرانيين


الجولة الأولى من المفاوضات-28 فبراير 2022

 

تراجع عدد أعضاء الوفد الأوكراني في الجولة الثانية، وفقاً لما كشفته صورة اللقاء، سواء مقارنة بعدد أعضاء الوفد الروسي، أو حتى بعدد أعضاء الوفد الأوكراني نفسه في الجولة الأولى. وربما كانت الدلالة الأساسية في هذا السياق، هى أن أوكرانيا لا ترى أن المفاوضات، في الوقت الحالي، يمكن أن تفضي إلى نتائج بارزة، أكثر من الاتفاق على إنشاء ممرات آمنة، خاصة بعد أن سيطرت القوات الروسية على خيرسون، بالتوازي مع تأكيد بوتين على استمرار العملية العسكرية.

وقد لا ينفصل ذلك بدوره عن احتمالين: أولهما، أن أوكرانيا لم تستقر على النمط الأفضل للتفاوض مع روسيا، وهو ما يوحي به العرض الجديد الذي طرحه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، في 3 مارس الجاري، بإجراء مفاوضات مباشرة مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين. وقد كان لافتاً أن زيلينسكي ركز في تصريحاته على ما تكشف عنه الصورة من رسائل. فقد أشار "ساخراً" إلى المائدة الطويلة التي يعقد عليها بوتين اجتماعاته سواء مع المسئولين الروس أو الأجانب، ووجه حديثه إلى الأخير بقوله: "اجلس معي للتفاوض.. فقط ليس على بعد 30 متراً. أنا لا أعض. ما الذي تخشاه؟".

وثانيهما، أن أوكرانيا تسعى إلى كسب الوقت أملاً في أن تحصل على مستوى أعلى من الدعم الغربي، على أساس أن ذلك يمكن أن يساعد في إبطاء التقدم الروسي وبالتالي يربك حسابات موسكو ويعزز الموقع التفاوضي لكييف. وقد بدا أن الأخيرة بدأت في رفع سقف مطالبها من الغرب، حيث طالب زيلينسكي الدول الغربية بفرض حظر جوي على أوكرانيا، أو على الأقل إمدادها بطائرات مقاتلة.

وقد لا ينفصل ذلك عن الدعم السياسي الرمزي الذي حصلت عليه أوكرانيا بعد القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2 مارس الجاري، وأدان التدخل العسكري الروسي وطالب موسكو بسحب قواتها فوراً، حيث أيدت 141 دولة القرار، في حين عارضته 5 دول، وامتنعت 35 دولة عن التصويت من إجمالي 193 دولة عضو. وقد كان الرئيس بوتين حريصاً خلال اتصاله الأخير مع ماكرون على الإشارة إلى أن أوكرانيا تحاول كسب الوقت وإطالة أمد المفاوضات، وهو أمر لن يؤدي، في رؤيته، إلا إلى مزيد من المطالب الروسية في المفاوضات.

ومع ذلك، فإن لعبة "كسب الوقت" قد لا تكون بعيدة بدورها عن حسابات المفاوض الروسي، الذي يسعى بدوره إلى السيطرة على مزيد من الأرض لتعزيز احتمالات الوصول إلى تسوية تستوعب المطالب الروسية في المقام الأول.

في النهاية، يمكن القول إن صورة المفاوضات، وإن كشفت عن محاولة لـ"التهدئة" في ظل حرص المشاركين على تبادل المصافحة، فإنها في النهاية لم تخل من معانٍ تشير بدورها إلى أن العملية العسكرية والمفاوضات ما زالت، على الأرجح، في بدايتها.