قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2022-3-2
سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

في أى حرب، وأياً كانت دقة حسابات الدولة التي تشنها ضد دولة أخرى، ثمة احتمال قائم لوقوع مفاجآت تربك هذه الحسابات أثناء عملية القتال. كما قد تظهر تدريجياً عناصر لم تكن محسوبة من جانب الدولة التي تبدأ الحرب، أو كان قد تم التقليل من تأثيرها قبل بدء المعارك، فتلعب دوراً كبيراً في تحديد حركة وسياسة هذه الدولة وكذلك مصير الحرب ذاتها.

في الماضي، لم يحسب ادولف هتلر، قبل تصعيد المواجهة ضد بعض البلدان الأوروبية في الحرب العالمية الثانية، إمكانية تشكل تحالف واسع تشارك فيه الولايات المتحدة في الحرب ضده وضد حلفائه في دول المحور، كما لم يتحسب لخطورة توسيع جبهة القتال بغزوه المفاجئ للاتحاد السوفيتي (عملية بارباروسا) في يونيو 1941، وأخطأ هتلر عندما اعتقد بأن تكثيف الغارات ضد بريطانيا سيقوض قدرتها علي المقاومة ويدفعها للاستسلام سريعاً، وبالمثل رغم تمكنه من احتلال أجزاء واسعة من فرنسا، إلا أن جزءً لا يستهان به من الشعب الفرنسي قرر الاستمرار في المقاومة، ولم يقبل بالخضوع لحكومة الجنرال بيتان التي قام هتلر بتنصيبها عام 1940.

الأمر المؤكد أن التاريخ لا يعيد نفسه كما تقول الحكمة القديمة، ولكن تظل فكرة وجود حسابات خاطئة في كل قرارات شن الحروب صحيحة، في الماضي كما الحاضر وأيضاً في المستقبل. فهل أخطأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما قرر استخدام الخيار العسكري ضد أوكرانيا؟.

إغراء الارتهان إلى القوة العسكرية وحدها

رغم التحذيرات المتوالية من جانب الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية للرئيس الروسي بعدم غزو أوكرانيا، راهن بوتين على إمكانية كسب المواجهة مع التكتل الغربي في النهاية للأسباب التالية:

1- أن الولايات المتحدة غير راغبة في الدخول في أية مواجهات عسكرية في الخارج، خاصة وأنها أنهت وجودها في أفغانستان في العام الماضي بانسحاب غير منظم أساء لسمعتها العسكرية، ودفع الشعب الأمريكي- وفق العديد من استطلاعات الرأى- لرفض مشاركة بلاده بقوات في جبهات قتال خارجية.

2- أن الدول الاوروبية الكبرى، مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، لن تتحرك لمواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا عسكرياً، فمن ناحية لا تمتلك هذه الدول قدرات عسكرية يمكنها مواجهة الجيش الروسي، وطالما امتنع حلف "الناتو" عن اتخاذ قرار بدخول مواجهة عسكرية مع روسيا، فإن الدول الثلاث المذكورة لن تفكر من الأصل في إمكانية مواجهة الغزو الروسي، فضلاً عن حقيقة عدم وجود تنسيق عسكري بين جيوش هذه البلدان حتى بافتراض أنها ستفكر في التكتل معاً ضد روسيا.

3- أن الجيش الأوكراني صغير ولا يمتلك قدرات عسكرية حقيقية يمكن أن تشكل خطراً على القوات الروسية الغازية، وأن إسقاط نظام الحكم هناك لن يستغرق سوى بضعة ساعات أو أيام على الأكثر.

كانت حسابات بوتين صحيحة في العنصرين الأول والثاني، ولكنه أخطأ في تقديره فيما يخص العنصر الثالث، سواء لما ثبت خلال الأيام الستة الماضية من قدرة الجيش الأوكراني على الدفاع عن معظم المدن الأوكرانية التي دخلها الجيش الروسي، أو لإدراك بوتين خطورة استعمال القوة العسكرية الشاملة ضد مدن مكتظة بالسكان، ليس خوفاً من سقوط عشرات الآلاف من المدنيين قتلى، وما يستتبعه ذلك من إدانات دولية، ولكن ليقينه من أن المذابح ضد المدنيين ستمنع روسيا عملياً من الاستقرار في أوكرانيا حتى لو قامت بضمها إليها، ويمكن أن تتعرض القوات الروسية التي ستضطر للبقاء في الأراضي الأوكرانية لحرب استنزاف قد تستمر لسنوات طويلة، وتعيد تذكير روسيا بالكارثة التي لحقت بالاتحاد السوفيتي السابق عندما غزا أفغانستان عام 1979، ليغرق في مستنقع حرب طويلة اضطرته في النهاية للخروج مهزوماً بعد عشر سنوات، مما كان له أبلغ الأثر في تسريع تفكيك الإمبراطورية السوفيتية عام 1991.

القوة الناعمة… نقطة ضعف بوتين

أحد المواضع التي أخطأ فيها بوتين هو استهانته بالفجوة في القوة الناعمة بينه وبين خصومه، والمتمثلة في قوة الآلة الإعلامية والتي تميل بشكل كاسح لصالحهم، فالحرب التي شنها ضد أوكرانيا كانت تستلزم الإعداد الجيد لصياغة وترويج الرواية الروسية لأسباب العملية العسكرية وأهدافها بشكل مقنع ليس للرأى العام الروسي وحده، بل للرأى العام العالمي بأسره. وغنى عن القول أن النموذج السياسي الذي يمثله بوتين لا يشكل، وفقاً لكتابات عديدة، أي جاذبية للشعوب الأخرى، كما أن الغرب يهيمن على وسائل القوة الناعمة من إعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، ويجيد صناعة الأخبار والشائعات والمواد التي تخاطب عواطف رجل الشارع العادي لتقويض صورة الخصوم.

وحتى لو بدا أن أغلب الرأى العام الروسي كان مقتنعاً بمبررات بوتين للتدخل العسكري في أوكرانيا باعتباره عملاً مشروعاً لحماية الأمن القومي للبلاد، فإن الرأى العام العالمي لم يكن ليتقبل التناقض في خطاب بوتين الذي ادعى أن هذا التدخل يستهدف أيضاً إقامة نظام عالمي جديد أكثر توازناً وعدالة، إذ كيف يمكن تصديق هذه المزاعم من طرف يبدأ إقامة النظام المزعوم عدالته بغزو دولة صغيرة وضعيفة، وكيف يمكن هضم موت مئات المدنيين الأبرياء ودفع مئات الآلاف غيرهم للهروب والتحول إلى لاجئين في دول أخرى كنتيجة مباشرة لذلك، والاستمرار في الوقت نفسه في ترديد رواية البحث عن نظام دولي أكثر أمناً وعدالة للجميع. لقد خسر بوتين الحرب الإعلامية والدعائية حتى قبل أن تبدأ قواته في اجتياح الأراضي الأوكرانية، بينما كان الغرب أكثر قدرة على تقديم روايته وموقفه من الأزمة بشكل مختلف، فهو (أي الغرب)، وفقاً لروايته، ينتصر لدولة ضعيفة وشعب معرض لأهوال حرب لا يستطيع وقفها أو منع تأثيرها الكارثي على أمنه واستقراره. كما تمكن الغرب من تبرير العقوبات الاقتصادية التي فرضت على روسيا ليس بعد الغزو وفقط بل منذ بداية فرضها عام 2014، رغم أن هذه العقوبات ستؤدي حتماً إلى الإضرار بمصالح المواطن الروسي الذي سيعاني من تأثيرات متعددة جراء فرض هذه العقوبات مثل تدهور قيمة العملة وارتفاع تكاليف المعيشة، ونقص بعض السلع والخدمات الغذائية والصحية نتيجة الحصار الاقتصادي.

ويبدو أن بوتين بدأ مبكراً في الشعور بخطأ حساباته فيما يتعلق بالأثر الذي ستتركه العقوبات على شعبه ونظامه، فلم يكن يتوقع المدى الذي ستصل إليه هذه العقوبات، كما لم يتوقع أن تشارك معظم الدول الأوروبية ودول أخرى في فرضها. وصف بوتين الغرب في تصريح له أثناء اجتماعه مع كبار الخبراء الاقتصاديين في روسيا، بأنه "إمبراطورية الأكاذيب"، في اعتراف صريح بتراجع إمكانية التغلب على التفوق الغربي في القوة الناعمة، التي تجعل روايته عن الحرب في أوكرانيا مقبولة وأكثر أخلاقية من مثيلتها الروسية، فهل اكتشف فجأة أن الغرب يجيد صناعة الأكاذيب والترويج لها؟ أم أنه نسى كيف تمكنت آلة الإعلام الغربي من الإسهام في تقويض الاتحاد السوفيتي ونشر ما عرف باسم الثورات الملونة في أوروبا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وأيضاً اضطرابات ما سمى بثورات الربيع العربي، وجميعها أحداث استخدمت فيها القوة الناعمة وآلة الإعلام الغربي لتحقيق المصالح الغربية دون إطلاق رصاصة واحدة.

وفي تحرك سريع من جانب الغرب لتجريد موسكو من سلاح قطع الاتصالات وخدمات الإنترنت، وهو أحد أهم وسائل القوة الناعمة الحديثة، عن أوكرانيا بعد سيطرتها على المجال الجوي الكهرومغناطيسي فيها، نشرت شركة "سبيس إكس" للفضاء أقمار "ستارلينك" الصناعية للإنترنت فوق أوكرانيا، لتزويدها بخدمات الإنترنت التي تعطلت خلال الغزو الروسي الجاري حالياً، وبذلك ستتمكن الحكومة الأوكرانية من التواصل مع شعبها وحثه على الصمود في مواجهة الغزو الروسي.

خسائر مرشحة للزيادة

مع عدم تمكن القوات الروسية من دخول العاصمة الأوكرانية كييف بعد ستة أيام من القتال، ومع تناقض الموقف الروسي الذي ادعى عدم شرعية نظام الحكم في أوكرانيا في نفس الوقت الذي قبل بإجراء مفاوضات معه، يبدو وضع روسيا ضعيفاً، فحتى لو فشلت المفاوضات واستمر القتال لفترة أطول، فإن روسيا ستظل غير قادرة على فرض إرادتها النهائية ما لم تتمكن من الاستيلاء على كييف وإسقاط الحكم القائم فيها، وإذا ما تمكنت من ذلك سيكون السؤال الجوهري عن حجم الدمار وأعداد القتلى واللاجئين الأوكرانيين الذين خلفتهم الحرب، وتأثيره على فرص روسيا في الاستقرار داخل أوكرانيا، خاصة مع استمرار المقاومة الشعبية، التي يمكن أن تستنزف القوات الروسية لسنوات طويلة. كذلك سيتعين على روسيا إذا ما أرادت تخفيف العداء المتوقع من الشعب الأوكراني ضدها، أن تنفق مليارات الدولارات لتلبية احتياجات المواطنيين الأوكرانيين من سلع وخدمات، بما يؤدي إلى زيادة العبء على الاقتصاد الروسي الذي ستؤدي العقوبات الغربية إلى مفاقمة أزمته على المدى القريب (خلال عام أو عامين).

ورغم أن روسيا لم تستخدم سلاح قطع إمدادات الغاز عن أوروبا حتى الآن، حيث أن هذا السلاح يمكن استخدامه خلال الشهرين القادمين مع استمرار موسم الشتاء، إلا أنه من غير المتوقع أن يلجأ بوتين لاستعماله، لأن أوروبا ربما تستطيع تحمل العقبات وستكون أكثر تصميماً في هذه الحالة، على توسيع نطاق العقوبات ضد روسيا إذا ما أقدم بوتين على ذلك. هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر، فإن بيع منتجات الغاز الروسية ذات العائد الهام للاقتصاد الروسي، إلى دول أخرى يستلزم بعض الوقت، مما سيؤثر حتماً على عائدات الحكومة الروسية، وبالتبعية على التزاماتها الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها.

وعلى المدى المتوسط وبغض النظر عن المسار الذي ستتجه إليه الأزمة الروسية - الأوكرانية، سيزداد العداء لروسيا في دول الجوار وخاصة بلدان أوروبا الشرقية، التي ستندفع أكثر لتأمين نفسها من المصير الأوكراني عبر زيادة الاعتماد على التحالف الغربي، كما قد تلجأ هذه الدول لطرد الأقليات الروسية من أراضيها لأسباب أمنية، أو للضغط على موسكو لإيقاف حربها التي تتسبب في تدفق اللاجئين الأوكرانيين إلى أراضيها.

إحدى الخسائر التي سيواجهها بوتين مستقبلاً هى اضطراره لخوض سباق تسلح مع الدول الأوروبية، فبعد أن عجزت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن حمل الدول الكبرى في أوروبا على زيادة نصيبها في تحمل الأعباء المالية لنفقات الدفاع في الكتلة الغربية، أدى التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى إعلان ألمانيا أنها ستزيد من نفقاتها الدفاعية بما يتجاوز 2% من الناتج القومي الإجمالي، والتي كان يطالب بها ترامب أثناء ولايته. وقد تحذو فرنسا وبريطانيا حذو ألمانيا، وربما تزيد الدول الأكثر تعرضاً لصدام مع موسكو، مثل بولندا ودول أخرى حتى من خارج "الناتو"، من إنفاقها العسكري، وهو ما سيفرض على موسكو مواجهة هذا التحول بمزيد من الإنفاق العسكري على حساب احتياجات مواطنيها.

إلى أين تتجه الأزمة؟

بالحسابات التقليدية، يبدو أن روسيا في ورطة، فهى لم تحقق أياً من أهدافها، فلا احتلت أوكرانيا وأطاحت بنظام الحكم فيها، ولا تنازل الغرب عن إصراره على الابقاء على سياسة الباب المفتوح التي تمكن أوكرانيا أو غيرها من الدول من الانضمام لحلف "الناتو". الأسوأ من ذلك أن هناك حركة متصاعدة في أوروبا ربما تمتد لأجزاء واسعة من العالم ضد السياسة الروسية، تشتمل على مظاهرات حاشدة ضد التدخل الروسي وتفقده شرعيته، كما قد تتسع حزمة العقوبات ضد الاقتصاد الروسي دون وضع سقف نهائي لها كمياً أو زمنياً. فضلاً عن أن المفاوضات التي بدأتها مع أوكرانيا إما أن تفشل سريعاً، وهو ما قد يدفع ببوتين نحو تجاهل المخاوف من تكلفة احتلال أوكرانيا بالكامل، والسعى لإسقاط الحكم فيها وإقامة حكومة موالية له، على نحو سيرتب خسائر سياسية واقتصادية فادحة لروسيا على المديين القريب والبعيد كما سلفت الإشارة. وإما أن تجد روسيا نفسها مستنزفة في جولات تفاوضية قد تطول لفترة طويلة تفقد خلالها حتى التماسك الداخلي الذي حافظ عليه بوتين حتى الآن.

ويأمل بوتين بعد أن هدد باستعمال الخيار النووي والذي برره بـ"تصريحات الحلف الأطلسي العدوانية" تجاه روسيا، وفرض العقوبات الاقتصادية عليها، أن يجبر الغرب على الاستجابه لمعظم مطالبه. صحيح أن قوات  الردع الروسية مجموعة من الوحدات هدفها ردع هجوم على روسيا بما في ذلك في حالة نشوب حرب تتضمن استخدام أسلحة نووية، بحسب وزارة الدفاع الروسية، أي أنها لا تمثل تهديداً مباشراً باستخدام السلاح النووي، إلا أن الغرب يحاول تقديم قرار بوتين على أنه تهديد باستخدام السلاح النووي، ليجلب مزيداً من الإدانة للسياسة الروسية، والاستفادة من هذا التفسير لاحقاً إذا ما جرت مفاوضات مع روسيا، ليس فقط من أجل تقليل التنازلات التي سيقدمها الغرب لها في هذه المفاوضات فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية، بل أيضاً من أجل وضع قيود على المواقع التي يمكن أن تنشر عليها روسيا أسلحتها النووية بالقرب من الدول الأوروبية الأعضاء في حلف "الناتو".

في النهاية، فإن المخرج الوحيد لهذه الأزمة هو أن يقف الغرب بعيداً عن المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، وأن يدفع الأخيرة للقبول بعقد اتفاق مع روسيا يقضي بامتناعها (أى أوكرانيا) طواعية عن الانضمام لحلف "الناتو" لمدة لن تقل عن عشرة سنوات، مقابل انسحاب القوات الروسية من أراضيها، وسحب الاعتراف الروسي بالجمهوريتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا مع التعهد بمنحهما الحكم الذاتي الموسع لسكانهما. وفي مرحلة لاحقة، قد يبدي الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، استعداده للدخول في مفاوضات مع روسيا بهدف رفع العقوبات المفروضة عليها والمتعلقة بالتدخل العسكري في أوكرانيا، وليس العقوبات التي فرضت بعد ضم شبه جزيرة القرم. فهل ستقبل روسيا بهذا العرض، أم ستختار استمرار التصعيد بلا نهاية في الأزمة الجارية حالياً؟.