فى عام 2005، قال الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى خطاب له أمام البرلمان إن انهيار الاتحاد السوفيتى كان أسوأ كارثة جيوسياسية فى القرن العشرين. قبل ذلك بعام واحد، كانت سبع دول قد انضمت لحلف الناتو: بلغاريا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفى عام 2009، انضمت ألبانيا وكرواتيا. وفى عام 2017، انضمت الجبل الأسود. وأخيراً فى عام 2020، انضمت مقدونيا الشمالية. بهذا اكتمل انضمام كافة دول أوروبا الشرقية، وتبلور اتجاه واضح من الحلف لضم كلٍ من جورجيا وأوكرانيا، وهو ما تعارضة روسيا باعتبارهما المجال الحيوى لروسيا الاتحادية التى ورثت الاتحاد السوفيتى عملياً، وأحبطت الحرب فى جورجيا 2008 ضمها للحلف، وحالياً تشكل الحرب فى أوكرانيا العملية الرئيسية لإفشال هذا المشروع تماماً.
كان من الممكن أن تشكل أوكرانيا منطقة حياد ما بين روسيا وجدار أوروبا الشرقى، لكن انهيار الثقة والسياسات التى انتهجها الطرفان جعلت أوكرانيا ضحية لعبة «شد الأطرف»، وهو ما يعكسه الأداء العسكرى والخطاب الرسمى الأوكرانى، الذى لا يدين الموقف الروسى فقط على التحرك العسكرى، ففى الوقت ذاته يلوم «الناتو» والدول الغريبة عموماً على ترك أوكرانيا «فريسة» لروسيا. ومن الناحية الواقعية، فإن لعبة «شد الأطراف» كان يمكن تفاديها لو كان بالإمكان بناء منطقة محايدة ما بين الطرفين، وهو ما كان من الممكن أن يحدث فى إطار ترتيبات أمنية بين موسكو و»الناتو» فى كلٍ من بيلاروسيا وأوكرانيا، إلا أن انضمام بيلاروسيا فى حلف دفاعى مع روسيا، على التوازى مع مساعى أوكرانيا إلى الانضمام إلى «الناتو» كحلف مضاد، أوصل الأطراف إلى منطقة الصدام. فى هذا الإطار، هناك علامة استفهام رئيسية حول الدعم العسكرى الذى قدمه «الناتو» وأعضاؤه لأوكرانيا، فى الوقت الذى لم يظهر فيه تحد عسكرى قوى للاجتياح الروسى لأوكرانيا، وبالتبعية لم يكن هناك أى أثر فعلى لهذا الدعم العسكرى، حيث تمكنت القوات الروسية من الوصول إلى أطراف كييف فى نهاية اليوم الثانى للحرب، ودمرت البنية التحتية والأصول العسكرية الأوكرانية بشكل متسارع. فعلى العكس من الخطاب الرسمى للولايات المتحدة والحلف بشأن الدعم العسكرى، تكشف تقارير أمريكية أن واشنطن لم تقدم أسلحة «فتاكة» لكييف، فقد زارت لجنة عسكرية أمريكية أوكرانيا فى ديسمبر الماضى لتقييم الوضع العسكرى وبحث احتياجات أوكرانيا للتصدى لتحرك عسكرى روسى، لكن كانت النتيجة أن الأسلحة الأوكرانية هى عبارة عن إرث الاتحاد السوفيتى، أغلبها منظومات دفاع مثل (S-200)، و(S-300) متقادمة، وبطبيعة الحال لا يمكن ترقيتها بإمكانيات غربية.
الأمر الآخر وفق تلك التقديرات، أن واشنطن ربما خشيت من وقوع أسلحة أمريكية فى يد روسيا فى نهاية المطاف إذا ما قررت غزو أوكرانيا، كأحد الدروس المستفادة من غزو أفغانستان، فالسلاح الأمريكى فى الأخير وصل إلى أعداء الولايات المتحدة، وهذه الاستنتاجات منطقية فى واقع الأمر، فلو كانت الأسلحة والمنظومات التى تم تدميرها بسرعة هائلة فى أوكرانيا أمريكية أو تابعة للحلف فهو أمر يسىء لسمعة السلاح الأمريكى مقابل الروسى. ربما تمت الإشارة إلى تقديم أسلحة من نوعية منظومات «ستينجر» ومدرعات لأوكرانيا، وبالتالى فإن التسليح الذى قدم لم يكن سلاح ردع فى كل الحالات.
قواعد اشتباك جديدة
مع تحقيق روسيا أهدافها العسكرية فى أوكرانيا، فستكون موسكو قد وصلت إلى غايتها بتحريك خطوطها الدفاعية إلى الأمام، على حدود التماس المباشرة مع «الناتو»، وهو ما يعنى أن الطرفين سينتقلان إلى قواعد اشتباك جديدة، وبالتالى سينتقل المشهد من لعبة «شد الأطراف» إلى صراع «موازين قوى» بين روسيا والحلف. فبلهجة واحدة فى الخطاب الأمريكى والحلف، تم التأكيد على تعزيز الوضع الدفاعى فى دول أوروبا الشرقية، وبالتبعية فإن موسكو فى حال إخضاع أوكرانيا ووفق دعوة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الصريحة للجيش الأوكرانى لتولى مقاليد السلطة، فمن المؤكد أنها ستنقل بدورها بنية عسكرية هائلة خلف خطوط التماس مع الحلف فى المدى المنظور، الأمر الذى سيزيد الموقف العسكرى تعقيداً أكثر مما هو عليه.
على هذه الصورة، من المتصور أن قواعد اللعبة تغيرت على رقعة الشطرنج بين روسيا و«الناتو»، وسيضاعف من التعقيدات أكثر أن الحوار بين موسكو والحلف ذهب إلى نقطة اللاعودة، فالرئيس زيلنيسكى طلب التفاوض مع موسكو، عبر الوسيط الفرنسى الرئيس ايمانويل ماكرون، وفق صيغة «نورماندى»، لكن اللافت للانتباه هو أن البيان الفرنسى فى هذا الصدد كشف عن أن زيلنيسكى اضطر إلى هذه الخطوة بعد الفشل فى الوصول إلى بوتين بشكل مباشر، ثم جاء الرد الروسى بالقبول بالمفاوضات لكن بصيغة استسلام، مع الإشارة إلى دعوة بوتين ــ كما سلفت الإشارة ــ الجيش الأوكرانى إلى الإطاحة بالسلطة، وبالتالى يفرض بوتين قواعد اللعبة من الآن فصاعداً، كما أن التسريبات بشأن أن تكون تلك المفاوضات فى وارسو تكتسب رمزية مهمة بالنظر إلى أن صيغة «مينسك» أصبحت من الماضى، وأن المفاوضات ستكون ما بين موسكو ونظام موالٍ لها فى الأخير وليس بينها وبين «الناتو» الذى يتعين عليه قبول قواعد اللعبة الجديدة.
فى الأخير، فإن الموقف ما بعد سقوط كييف المحتمل فى قبضة روسيا، سيكون نقطة تحول رئيسية ليس فقط فى إطار العلاقة ما بين موسكو و«الناتو»، ولكن أيضاً فى سياق تحولات النظام الدولى بأكمله، حيث سيكون لها ما بعدها، فمن غير المعتقد أن جولة كييف هى آخر الجولات بين الطرفين، فى ظل ضعف احتمالات احتواء الأزمة ما بعد حرب أوكرانيا، والمتصور أن كلا الطرفين ــ روسيا والحلف ــ فى وضع لا يسمح لهما بالوصول إلى نقطة الاحتواء بعد الوصول إلى النقطة الحرجة فى إطار الوضع الراهن، وبالتالى قد يكون الأفضل هو الوصول إلى نقطة توازن، تجتاح إلى وسيط محايد. وربما تكون الصين هى المؤهلة لهذا الدور، ما سيعزز من صورتها كقوة عظمى صاعدة يمكنها أن تمارس دوراً رشيداً فى السياسة الدولية، لكن ذلك سيتوقف على حسابات الصين، من جهة، ورد الفعل ومدى مقبولية هذا الدور لدى الغرب من جهة أخرى، وفى حال غياب دور الوسيط المقبول والمؤثر، فالسيناريو القادم سيكون أسوأ سيناريو يشهده النظام الدولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 28 فبراير 2022.