أدان الاتحاد الأوروبي الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية بأشد عبارات الإدانة وتوعد بعقوبات موجعة ضد الاقتصاد الروسي. غير أن التوعد بالعقوبات الأوروبية الذي استمر لقرابة الشهرين قبل البدء الفعلي للغزو أملاً في تغيير "السلوك العدائي" لموسكو، بدا وكأنه قد فشل في ردع الروس عن الإقدام على الحرب، ثم بدا رداً باهتاً على أسوأ تهديد لأمن أوروبا منذ عقود.
لا شك أن الرد الأوروبي على الغزو الروسي لأوكرانيا لا يزال في طور التكشف، فالاتحاد- الذي يضم 27 دولة- رافض بالكلية لذلك، ولكنه ليس متفقاً تماماً حول خطة التصعيد ضد روسيا أو العقوبات التي يجب أن تطالها. وتختلف دول الاتحاد الأوروبي بشكل واضح حول أساليب التعامل مع روسيا بحسب درجة اعتمادية كل دولة من دول الاتحاد على تشابك المصالح الاقتصادية مع روسيا. ولكن بصفة عامة يمكن تمييز عدة أطوار من رد الفعل الأوروبي على الغزو الروسي ضد أوكرانيا، ففي البداية كان الأساس هو دعم دول الاتحاد لأوكرانيا والتشديد على عدم السماح لروسيا بتهديد سيادة دولة متاخمة وترتبط مع الاتحاد الأوروبي باتفاقيات شراكة وثيقة.
كما بدأ الاتحاد الأوروبي بالتلويح بالعقوبات الموجعة ضد اقتصاد روسيا في حال أقدمت موسكو على خطوة الحرب، حيث حذر الممثل السامي للسياسة الخارجية والأمن الأوروبي جوزيب بوريل أكثر من مرة من عواقب إقدام روسيا على أي عمل عدائي ضد أوكرانيا، مؤكداً دعم الاتحاد الأوروبي لسيادة ووحدة الأراضي الأوكرانية. ولكن بوريل في الوقت نفسه حذر من تهويل الوضع في أوكرانيا، معتبراً أن المحادثات مع روسيا لاتزال جارية ولا داعي للقلق منتقداً سياسة واشنطن التي سحبت أغلب دبلوماسييها من كييف على إثر تزايد حشد القوات الروسية على الحدود المشتركة بين البلدين[1].
ثم مع اعتراف موسكو بمنطقتي دونتسيك ولوغانسك الانفصاليتين كجمهوريتين مستقلتين، انتقل الرد الأوروبي من التهديد بالعقوبات إلى التصويت بالإجماع ضمن اجتماع طارئ لوزراء الخارجية الأوروبيين على تطبيق عقوبات أولية ضد روسيا. وقد استهدفت هذه العقوبات 351 من أعضاء البرلمان الروسي- الدوما- الذين صوتوا لصالح الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في أوكرانيا، كما تضمنت أيضاً حظر التعامل اقتصادياً ومالياً معهما. بالإضافة إلى إقرار عقوبات ضد 27 فرداً وكياناً روسياً اعتبرهم الاتحاد الأوروبي مساهمين في التهديد الروسي لسيادة أوكرانيا[2]. ومن ثم جاء دخول القوات الروسية التي أرسلت إلى المنطقتين الانفصاليتين - لحفظ الأمن بحسب موسكو - على وقع بيانات وزراء الخارجية الأوروبيين الرافضين لهذا التصعيد الروسي الخطير. وما لبثت العقوبات أن أُقِرت، حتى فاجأ الرئيس الروسي الجميع ببدء الغزو البري والبحري والجوي المتزامن لأوكرانيا من الشمال والشرق والجنوب، فبدت على الفور هذه العقوبات دون مستوى الحدث ولم تنفع في وقف الزحف الروسي والتصعيد العسكري الشامل.
وقد كشف ذلك بطء وتعقيد الإجراءات الجماعية الموحدة الأوروبية وعدم قدرتها على الاستجابة السريعة لحدث يهدد الأمن والاستقرار الأوروبي ويعود بالذاكرة إلى أجواء الحرب العالمية الثانية، أي منذ ماقبل تأسيس الاتحاد الأوروبي نفسه. فالاتحاد الذي قام في الأساس على تعاون ثنائي فرنسي- ألماني لتشبيك المصالح الاقتصادية المغذية للحرب وخاصة الفحم والصلب لمنع تجدد الحرب في القارة العجوز مرة أخرى، وقف عاجزاً عن وقف الحرب ضد الجارة أوكرانيا رغم تشابك علاقاته الاقتصادية مع روسيا. والاتحاد الأوروبي هو الشريك الاقتصادي الأول لروسيا، فحوالي 37% من التبادل التجاري الروسي مع العالم يجري مع دول الاتحاد. فيما تأتي روسيا في المركز الخامس على قائمة الاتحاد الاوروبي للتبادل التجاري العالمي بواقع نحو 5% فقط من مجمل تبادلات الاتحاد الخارجية. وتعتمد أوروبا أيضاً على روسيا لتلبية احتياجاتها من الطاقة بواقع 26% للنفط و40% للغاز الطبيعي[3]. ورغم ذلك، فإن هذا التشابك الاقتصادي الكبير لم يمنع موسكو من الإقدام على قرار الحرب ضد أوكرانيا. ويبدو أن الرئيس الروسي هادئ البال واثقاً من السيطرة على الموقف مع تقدم قواته باتجاه العاصمة كييف بينما تستمر أوروبا بالتهديد بحزمة جديدة من العقوبات الموجعة واسعة النطاق التي من شأنها عزل روسيا اقتصادياً عن العالم.
تمايز المواقف بين الدول الأوروبية
تمايزت المواقف الأوروبية فيما بينها إزاء التصعيد الروسي ضد أوكرانيا. ففرنسا، التي حرص رئيسها ايمانويل ماكرون على التواصل المستمر مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين وزيارة موسكو، كانت تؤمن بأن التفاوض مع روسيا يمكن أن يُجهض خيار الحرب. فالدبلوماسية المكوكية التي قام بها الرئيس ماكرون بين موسكو وكييف قبل ثلاثة أسابيع بدت في حينها أنها قد حققت هدفها وأعادت الاعتبار لخيار الدبلوماسية وأبعدت شبح الحرب مع وجود مؤشرات لسحب القوات المحتشدة على الحدود المشتركة[4]. بينما بدا الموقف البريطاني أقرب للأمريكي في تتبع بيانات حشد القوات على الحدود الروسية- الأوكرانية وعدم تصديق تصريحات بوتين النافية لنية بلاده مهاجمة أوكرانيا. ولذا حذر رئيس الوزراء بوريس جونسون بقوة أثناء مؤتمر ميونيخ للأمن من التهوين من التهديد الروسي لسيادة أوكرانيا وانضم للرئيس الأمريكي جو بايدن في التحذير شديد اللهجة ضد موسكو في حال الإقدام على إشعال الحرب[5]. أما وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك فاعتبرت قبل الغزو أن نية روسيا للجوء للخيار العسكري غير محسومة في محاولة للتخفيف من التحذيرات الأمريكية، بينما زار المستشار الألماني أولاف شولتز كييف وموسكو لمؤازرة الرئيس الفرنسي في محاولته فتح قنوات للحوار لتهدئة الأزمة[6].
ولكن المواقف تغيرت بالكلية بعد تنفيذ الغزو، فالرئيس الفرنسي أطل في كلمة متلفزة يظهر خلفه فيها العلم الفرنسي والعلم الأوروبي والعلم الأوكراني في رسالة تضامن واضحة مع أوكرانيا مؤكداً أنها لا تواجه الهجوم الروسي وحدها وأن حريتها من حرية فرنسا[7]. ويبدو أن التصريح القوي للرئيس الفرنسي جاء بالأساس من صدمته في فشل مساعيه لإعادة الاعتبار للحل الدبلوماسي وتعرضه ربما للخداع والتلاعب من جانب نظيره الروسي.
بينما أعلنت ألمانيا تعطيل العمل في خط "نورد ستريم" الذي يمد ألمانيا بالغاز الروسي عبر بحر البلطيق، وهو المشروع الذي كانت تعارضه بالأساس كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وبولندا وأوكرانيا[8]، مما حدا بالبعض إلى اتهام ألمانيا بأنها ساعدت من حيث لا تدري الرئيس الروسي على التجرؤ على مهاجمة أوكرانيا وهو مطمئن إلى اعتماد أوروبا وخاصة برلين على الغاز الروسي ووقوعها تحت رحمته[9]. فعندما اجتمع القادة الأوروبيون في قمة غير اعتيادية عقب الغزو الروسي، تقرر مطالبة روسيا بوقف الأعمال العدائية فوراً وسحب قواتها وعتادها العسكري من أوكرانيا واحترام سيادتها ووحدة أراضيها واحترام القانون الدولي ووقف الحملات الإعلامية الكاذبة والهجمات السيبرانية[10]. وإذ طالت العقوبات الأوروبية قطاعات المال والطاقة والمواصلات والصادرات والتأشيرات، تريث الزعماء الأوروبيون قبل إضافة عقوبة حول عزل روسيا عن نظام التحويل المالي "سويفت"، حيث تزعمت كل من ألمانيا وإيطاليا خيار رفض العزل عن "سويفت" باعتباره سيضر البنوك الأوروبية بشدة ولن يقف ضرره عند القطاع المالي الروسي. إذ اعتبر رافضو هذا الخيار – وفي مقدمتهم ألمانيا وإيطاليا والمجر وقبرص- أنه المعادل النووي للحرب الاقتصادية على روسيا ويجب التمهل قبل استخدامه عسى أن يفتح ذلك المجال إلى مفاوضات لوقف الحرب والخروج من الأزمة[11]. بينما برر جوزيب بوريل عدم إقرار عقوبات تتعلق بنظام "سويفت" بأن الإجماع الأوروبي لم يتوفر لإقراره هذه المرة ولكن ربما سيتوفر بعد وقت لاحق، وهو ما تحقق بعد أقل من 48 ساعة، إذ طرحت دول الاتحاد مرة أخرى مسألة عزل البنوك الروسية عن نظام "سويفت" بالتنسيق مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وتمت الموافقة على هذا المقترح. كما تم إقرار عقوبات جماعية ضد البنك المركزي الروسي وعدد من الأثرياء والنخبة المقربة من الرئيس الروسي، أملاً في أن يتسبب ذلك في الضغط عليه لتغيير موقفه من استكمال الحرب. كما اعتبر بوريل أيضاً أن الرد العسكري الأوروبي غير مطروح لأن الاتحاد الأوروبي ببساطة ليس تحالفاً عسكرياً بل "الناتو" هو التحالف العسكري وهو الذي يُسأل في هذا الأمر.
ولعل هذا الرد لممثل السياسة الخارجية والأمن الأوروبي على مطالب المساعدة السريعة للدفاع عن أوكرانيا يختصر معضلة وعجز الاتحاد الأوروبي حينما يتطلب الأمر التحرك في ملفات عاجلة وساخنة. فالاتحاد الأوروبي صُمم بالأساس لتفادي الحرب، ولم يطور وسائل وأدوات للدفاع المشترك، ويبقى تنسيق السياسة الخارجية والدفاعية له أمراً صعباً. وحتى بالنسبة للسياسة التجارية والاقتصادية والمالية التي تبدو أسهل في التنسيق والانسجام في إطار الاتحاد، تظل المصالح الفردية للدول الأعضاء هي المؤثر الأهم في توجيهها. فلا شك أن اعتماد ألمانيا على مصادر الطاقة الروسية بواقع 55%، قد عطل سرعة تفكير برلين في بدائل العقوبات ضد موسكو. ولذا تظل العقوبات الاقتصادية، التي لا تبدو الآن كافية في نظر البعض، هي الأدوات الأساسية التي يستخدمها الاتحاد الأوروبي إلى جانب إرسال مساعدات إنسانية وإغاثية وأيضاً استقبال اللاجئين الأوكرانيين في دول الاتحاد المتاخمة. يُضاف إلى ذلك تقديم بعض المعدات العسكرية الدفاعية، والبحث في سبل عقد مفاوضات روسية- أوكرانية سواء في مينسك- عاصمة بيلاروسيا حليفة موسكو- أو وارسو – عاصمة بولندا العضو بالاتحاد الاوروبي.
فالحقيقة أن الهجوم الروسي لم يكن نتاج فشل مفاجئ في المفاوضات التي رعتها الدول الأوروبية ولكنه جاء من نية مبيتة لدى موسكو لوقف تقدم مساعي اندماج كييف أكثر فأكثر في الشراكة الأوروبية وتبني قيم الديمقراطية الغربية والتخلص من الميراث السوفيتي الثقيل. فالقوات الروسية الزاحفة نحو كييف خلال ساعات لا تقصد فقط نقل كييف من السيطرة الغربية إلى السيطرة الروسية، ولكنها تنقل أوروبا بأكملها إلى عصر التحديات الأمنية والعسكرية التقليدية، إذ تعود بها عقوداً إلى الوراء حيث القوة العسكرية الثقيلة ذات الأثر الآني والتي لها الكلمة العليا وحيث الأدوات الاقتصادية ذات الأثر طويل الأجل والتي تبدو عاجزة ومهزومة. فحتى الآن لا تبدو التصريحات السياسية "الحازمة" للقادة الأوروبيين قادرة على وقف الحرب ولا تبدو وعود المساعدات الإغاثية والمالية على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قادرة على إنقاذ الأرواح. فالاتحاد الأوروبي لم يوجه حتى الآن من التهديدات ما يجبر الرئيس الروسي على التعامل معها بجدية ومراجعة قراره باستكمال الغزو قبل تحقيق أهدافه. بينما تظل هذه الأهداف الروسية غامضة حتى الآن، فهل يريد الروس إسقاط الحكومة الموالية للغرب وتنصيب حكومة موالية لموسكو؟، أم يريدون فعلياً محو أوكرانيا من الخريطة واستبدالها بجمهورية موالية لهم وتدور في فلكهم؟. أما الاتحاد الأوروبي، فيعبر عن مخاوف متعددة ويدعم سيادة أوكرانيا في تصريحات مدوية ولكن أشد ما تريده الدول الأعضاء حالياً هو تنويع مصادر اعتمادها على الطاقة والتخلص من مأزق الاحتياج للغاز والنفط الروسيين.
وإذ تقف الآلية الأوروبية الجماعية شبه عاجزة، قد تحمل وعود الدعم العسكري للدول الأعضاء بعض الأمل لأوكرانيا، حيث تتوالى وعود التسليح بصواريخ وذخيرة وعتاد عسكري من الدول الأوروبية ولكن بشكل ثنائي بينها وبين أوكرانيا وليس عبر الآلية الأوروبية الجماعية. فالتعامل الثنائي المباشر مع أوكرانيا قد يعوض بعض ما عجز عنه الكيان الأوروبي الموحد الذي بدا كثير العثرات وبطيء الحركة إزاء الأزمة الرهنة.
[1] الاتحاد الأوروبي: لا حاجة "لتهويل" الوضع في أوكرانيا، يورونيوز، 24/1/2022، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/oN1Mc
[2]Russia/Ukraine: Press remarks by High Representative Josep Borrell after extraordinary informal meeting of EU Foreign Ministers, European External Action Service, 22/02/2022, available at; https://cutt.us/OOlj4
[3] European Commission, Countries and regions, Russia, available at; https://cutt.us/04YZO
[4] "انفراج بلا معجزات".. هذا ما حملته زيارة ماكرون إلى موسكو، موقع العربية نت، 9/2/2022، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/fnihQ
[5] بوريس جونسون: غزو روسيا لأوكرانيا سيؤثر على العالم أجمع وبوتين سيدفع ثمنا باهظا، بي بي سي، 19/2/2022، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/v4pbY
[6] مؤتمر ميونيخ للأمن: هاريس تهدد روسيا بـ"عقوبات ثقيلة" إذا أصرت على غزو أوكرانيا وزيلينسكي يؤكد رغبته في السلم، فرانس 24، 19/2/2022، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/MiLK1
[7] Guerre Russie-Ukraine : ce détail symbolique pendant l'allocution de Macron, RTL, 24/02/2022, https://cutt.us/dRBJr
[8] Ukraine crisis: Germany halts pipeline as nations sanction Russia,BBC, 23/2/2022, available at; https://cutt.us/f8Zpv
[9] MATTHEW KARNITSCHNIG, How Germany helped blaze Putin’s path into Ukraine, POLITICO, February 24, 2022, available at; https://cutt.us/E7Z1z
[10]the Council of the EU, Special meeting of the European Council, 24 February 2022, available at; https://cutt.us/bB6a8
[11] Germany opposes Russia's cutoff from SWIFT banking over energy access concerns, Journalism for the energy transition, 25 Feb 2022, available at; https://cutt.us/SlpOO