عمرو عبد العاطي

باحث في الشئون الأمريكية، ومساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية

 

شنت القوات الروسية صباح 24 فبراير الجاري (2022) هجوماً عسكرياً ضد أوكرانيا، وهو الهجوم الأكبر الذي تشنه دولة ضد أخرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث نفذت موسكو ضربات جوية في مختلف أنحاء البلاد خصوصاً العاصمة الأوكرانية كييف، بعد يومين من اعتراف الرئيس فلاديمير بوتين باستقلال دونتسك ولوغانسك. وقد برر الرئيس الروسي الهجمات بأنها "للدفاع عنهما إزاء العدوان الأوكراني"، و"التخلص من النازية الأوكرانية" ونزع سلاح كييف التي وصفها بوتين بأنها "تهديد لروسيا". وقد ركزت الهجمات العسكرية الروسية على مراكز القيادة العسكرية والمطارات والمخازن العسكرية الأوكرانية. ولا يزال حجم الهجوم ومدى الغزو البري وما أعقبه من نزوح وتدفقات للاجئين غير معروف حتى الآن.

وفي رد على الهجوم الروسي على أوكرانيا، أدان الرئيس الأمريكي جو بايدن الهجوم وتعهد بفرض عقوبات جديدة "قاسية" على موسكو رداً على ذلك. وقال بايدن في بيان إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "اختار حرباً مع سبق الإصرار ستؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح ومعاناة بشرية". وأضاف أن "روسيا وحدها هي المسئولة عن الموت والدمار الذي سيحدثه هذا الهجوم، وسترد الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها بطريقة موحدة وحاسمة. وسيحاسب العالم روسيا".

مسارات التعامل الأمريكي

مع بداية التصعيد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية، ركزت إدارة الرئيس بايدن على الخيار الدبلوماسي، لإثناء موسكو عن شن ضربات عسكرية ضد أوكرانيا، بما يهدد أمن حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين والأعضاء في حلف "الناتو"، ولكن مع اعترف روسيا باستقلال دونتسك ولوغانسك، تخلت واشنطن عن الخيار الدبلوماسي، حيث أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن إلغاء لقاءه مع نظيره الروسي سيرجي لافروف. ومع بداية العمليات العسكرية الروسية ضد الأراضي الأوكرانية، يمكن القول إن مسارات التعامل الأمريكي مع تطورات الأزمة الأوكرانية ستتمثل، على الأرجح، فيما يلي:

1- فرض مزيد من العقوبات على روسيا وحلفائها: أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال خطاب له من البيت الأبيض يوم 22 فبراير الحالي، أن بلاده ستفرض أربع حزم من العقوبات على روسيا بعد اعترافها باستقلال منطقتين انفصاليتين في شرق أوكرانيا، وإعلان نشر قوات هناك، الأمر الذي اعتبره الرئيس الأمريكي إعلاناً ببداية الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد استهدفت العقوبات الأمريكية مؤسسات مالية روسية وأعضاء من النخب الروسية وعائلاتهم والديون السيادية الروسية. وفي إطار توسيع العقوبات على موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية، أعلن الرئيس بايدن، في 23 فبراير الجاري، فرض عقوبات على الشركة المشغلة لخط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يربط روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق. وقد ذكر أن تلك العقوبات هي الدفعة الأولي من العقوبات، وأن الإدارة ستفرض المزيد من العقوبات في حال التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا.

ويتوقع أن يعلن الرئيس الأمريكي خلال خطابه اليوم (24 فبراير الجاري) عن مزيد من العقوبات على روسيا في ظل تعهده بتحمل روسيا المسئولية عن أعمالها، ورغبة المشرعين الأمريكيين في فرض الولايات المتحدة وحلفاءها حول العالم عقوبات أشد على موسكو. وستنسق الولايات المتحدة مع حلفاء الأوروبيين والمجتمع الدولي لفرض المزيد من العقوبات القاسية على روسيا والتي ستستهدف قطاعي البنوك والطاقة الروسيين، وحظر صادرات التكنولوجيا والسلع الأخرى الروسية. ومن الممكن أن تشمل العقوبات الأمريكية الدول التي شنت من على أراضيها موسكو ضربات عسكرية ضد أوكرانيا مثل روسيا البيضاء. وفي هذا السياق، قال الرئيس بايدن، في 24 فبراير الجاري، أنه اتفق مع نظرائه في مجموعة السبع على فرض عقوبات "رادعة" و"قاسية" ضد موسكو.

ورغم ذلك، يشكك العديد من المسئولين الأمريكيين والحاليين في نجاح العقوبات الأمريكية في تغيير السلوك الروسي، حيث تدفع بعض الحجج إلى أن العقوبات الأمريكية في المقابل ترغم الخصوم على تعزيز سلوكهم غير المرغوب فيه، فضلاً عن أن العقوبات الأمريكية على قطاع الطاقة الروسي ستعرض الاقتصاد الأمريكي، وجهود الإدارة لتعافي الاقتصاد من تبعات الجائحة، وكذلك الاقتصاد العالمي، لمزيد من الأزمات مع ارتفاع أسعار النفط، والتي تجاوزت 100 دولار للبرميل في أعقاب الهجوم، وهو الأعلى منذ سبع سنوات، بجانب ارتفاع أسعار العديد من السلع الأخرى. وهناك توقعات بأن العقوبات الأمريكية سترفع أسعار النفط إلى 140دولار للبرميل، وهي زيادة سيستفيد منها الاقتصاد الروسي.

2- مزيد من الدعم العسكري مع الحلفاء الأوروبيين: في ظل تعهد الولايات المتحدة بحماية أمن حلفائها الأوروبيين، والأعضاء في حلف "الناتو"، وتأكيد الإدارة الأمريكية على التزاماتها بالمعاهدات والتحالفات الدولية، يحتمل أن ترسل واشنطن المزيد من الجنود الأمريكيين إلى الدول الأوروبية. ففي أعقاب التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا، أمرت الولايات المتحدة بنشر 3 ألاف جندي إضافي في بولندا وبذلك يصل العدد الإجمالي للتعزيزات الأمريكية التي تم إرسالها إلى أوروبا في الأسابيع الأخيرة إلى حدود 5 آلاف عسكري أمريكي. وسيدفع الهجوم الروسي على أوكرانيا الولايات المتحدة إلى إعادة قواتها لدعم حلفائها الأوروبيين الأعضاء في حلف "الناتو"، والقوات العسكرية التي غادرت العديد من القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا قبل ثلاثة عقود.

3- عدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا: لا تخطط الولايات المتحدة لإرسال قوات عسكرية لأوكرانيا، حيث أنها ليست عضواً في حلف "الناتو"، ولذلك لا تنطبق عليها المادة الخامسة من ميثاق الحلف التي تقضي بتحريك الدول الأعضاء لقواتها للدفاع عن أحد الأعضاء في حال تعرضه لعدوان عسكري. ويأتي القرار الأمريكي متسقاً مع توجهات الرأي العام الأمريكية، حيث يفضل غالبية الأمريكيين عدم انخراط الإدارة الأمريكية في الصراع العسكري في أوكرانيا. فقد أظهرت نتائج استطلاع أجرته شبكة "سي بي إس نيوز/ يوجوف" خلال الفترة 8-11 فبراير الجاري أن 53٪ من الأمريكيين يقولون إنه يجب على الولايات المتحدة البقاء بعيداً عن الصراع من خلال عدم الانحياز إلى أوكرانيا أو روسيا، بينما قال 43٪ إن الولايات المتحدة يجب أن تدعم أوكرانيا. ويقود الجهوريون والمستقلون التيار الذي يدعو إلى أن تكون الولايات المتحدة بعيدة عن الصراع، بينما يدعو الديمقراطيون إلى ضرورة أن تقف الولايات المتحدة إلى جانب أوكرانيا، بما يعني أن الأمريكيين يدعمون العقوبات الاقتصادية ضد روسيا مقابل إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا في حالة الغزو الروسي. ولذلك أعلن بايدن خلال خاطب له للرأي العام الأمريكي في 15فبراير الجاري أن واشنطن لن ترسل قوات لدعم أوكرانيا، لكنه وعد بدعم الشعب الأوكراني وحكومته بأسلحة دفاعية، ومساعدات اقتصادية.

4- عودة سياسات الحرب الباردة مجدداً: بعد عقود من انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، فإن التصعيد العسكري الروسي ضد أوكرانيا، وعدم رغبة واشنطن في الانخراط العسكري المباشر ضد موسكو في أوكرانيا، وتقديم الولايات المتحدة الدعم العسكري لكييف، والتوقعات بتوفير واشنطن التمويل لقوى المقاومة الأوكرانية، يزيد من احتمالية نشوب حرب باردة جديدة بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا في أوكرانيا.

تحديات أمريكية

تفرض العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، على الرغم من أنها تبعد عن الحدود الأمريكية، العديد من التحديات أمام الإدارة الأمريكية، والمواطنين الأمريكيين الذين يتحملون تبعات الهجمات العسكرية الروسية، ومن أبرز تلك التحديات:

1- تحمل المواطنين الأمريكيين تبعات الحرب الروسية: على الرغم من أن المواطنين الأمريكيين لا يتعرضون للنيران الروسية مثل الشعب الأوكراني، إلا أنهم سيدفعون ثمن هذا الهجوم مع تجاوز أسعار النفط في أعقاب الهجمات العسكرية الروسية حاجز 100دولار لأول مرة منذ عام 2014، وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، حيث سيؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى زيادة تكاليف تدفئة المنازل والكهرباء. وكذلك سيؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة تكلفة الطيران وارتفاع تكاليف النقل والمدخلات للشركات، ومن المرجح أن تمرر الشركات بعضٍ من تلك التكاليف المرتفعة للمستهلكين في شكل طفرات في الأسعار.

2- تصاعد حدة الانتقادات الجمهورية للرئيس بايدن: في وقت يكافح فيه الرئيس الأمريكي وحزبه من تبعات ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة منذ أربعة عقود، وإخفاقه في الوفاء بكثير من وعودة الانتخابية قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرر لها في 8 نوفمبر المقبل، استغل الجمهوريون الهجوم العسكري الروسي ضد أوكرانيا لتوجيه المزيد من الانتقادات للإدارة الديمقراطية، حيث يلقي الجمهوريون والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مسئولية الأعمال العدائية الروسية المتصاعدة ضد أوكرانيا على عاتق الرئيس جو بايدن، إذا يقولون إن "إدارته مهدت الطريق أمام العدوان الروسي بسلسلة من الأخطاء الفادحة في السياسة الخارجية مثل الانسحاب الكارثي للقوات الأمريكية من أفغانستان". ففي هذا السياق، قال زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور ميتش ماكونيل إن الرئيس الروسي لم يكن ليتجرأ على إرسال ما يزيد عن 150 ألف جندي إلى الحدود الأوكرانية لولا الانسحاب الأمريكي المتعجل من أفغانستان. وقد استغل الرئيس السابق ترامب التحركات الروسية لتوجيه انتقادات للرئيس بايدن، حيث انتقد طريقة إدارة الأخير للأزمة في أوكرانيا، متحدثاً عن العلاقة المتينة التي كانت تربطه بالرئيس الروسي، ومؤكداً أن "بوتين ما كان ليتصرف على هذا النحو في ظل إدارته".

3- احتمال تعرض المؤسسات الأمريكية لهجمات إلكترونية روسية: هناك مخاوف أمريكية من هجمات إلكترونية روسية جديدة في أعقاب الدعم الأمريكي لكييف، وقيادة الولايات المتحدة المجتمع الدولي لفرض عقوبات قاسية على موسكو، بعد شنها عملاً عسكرياً ضد أوكرانيا. وتتزايد تلك المخاوف بعد التداعيات المؤثرة التي تحملتها واشنطن نتيجة الهجوم الإلكتروني الروسي على خط أنابيب كولونيال خلال العام الماضي، حيث أدى إلى إغلاق أحد أهم خطوط الأنابيب في الولايات المتحدة وتعطيل تدفق ملايين البراميل من المنتجات النفطية إلى السوق الأمريكية، وترك العديد من محطات الوقود في الجنوب الشرقي للبلاد فارغة بدون وقود. وهناك مخاوف أمريكية من تعرض النظام المالي الأمريكي لهجمات إلكترونية روسية، والتي ستكون لها تأثيرات متعاظمة على الاقتصاد الأمريكي، وعلى الأوضاع الاقتصادية للأمريكيين.

4- تفاقم التهديدات للنظام الدولي والديمقراطية الغربية: يضيف الهجوم الروسي على أوكرانيا تحدياً جديداً للنظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة، الذي يعاني من الكثير من الإشكاليات، بعد انتهاء فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتهديده قواعد وقيم النظام الدولي التي تخدم بالأساس المصالح والهيمنة الأمريكية المنفردة عليه، وكذلك الديمقراطية الغربية التي تواجه تحدياً من قوى تتهم بأنها غير ديمقراطية في مقدمتها روسيا والصين، في وقت تترنح فيه الديمقراطية الأمريكية بعد ممارسات الرئيس السابق للتمسك بالسلطة وتشككه في أسس الديمقراطية الأمريكية.

خلاصة القول، يركز نهج الإدارة الأمريكية في التعامل مع العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا على الردع سواء من خلال رفع السرية عن المعلومات الاستخباراتية حول "الغزو الروسي"، أو فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية الشاملة على موسكو، وستكشف العقوبات التي سيعلن عنها الرئيس الأمريكي ما إذا كانت بمثابة ردع فعل أم مجرد إجراء اقتصادي مضاد للهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا.

وسيكون لنجاح أو إخفاق التعامل الأمريكي مع الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا تداعيات على صورة الولايات المتحدة كقوة عالمية وقائدة للنظام الدولي تتحمل مسئولية قيادة المجتمع الدولي لصون الأمن والاستقرار الدوليين، ومدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها، ولا سيما بعد اهتزاز ثقتهم في الالتزامات الأمنية الأمريكية في أعقاب عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر.