د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

مع حلول الذكرى السنوية للثورة الإيرانية، في 11 فبراير من كل عام، دائماً ما تطرح أسئلة عديدة حول مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي تأسس بعد الإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي في عام 1979. وفي العام الحالي (2022)، كان السؤال الأهم الذي طرح في هذا السياق، هو السؤال نفسه الذي طرح قبل أكثر من عشر سنوات ولم تكن هناك إجابة واضحة له ومفاده: هل يتحول النظام السياسي الإيراني من رئاسي إلى برلماني؟.

بصرف النظر عن الافتراض الذي يقضي بأنه من الصعوبة تطبيق المعايير الكلاسيكية التي تطرحها الأدبيات الأكاديمية الخاصة بتصنيف الأنظمة السياسية بين رئاسي وبرلماني وشبه رئاسي على نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، باعتبار أنه نظام فريد من نوعه في تركيبته السياسية وقاعدته الثيوقراطية، التي تبدو جلية حتى في المسمى الرسمي للدولة، الذي يمزج في آن واحد بين جانب مؤسسي هو "الجمهورية" وآخر أيديولوجي هو "الإسلامية"، فإن المعنى الإجرائي للسؤال هو مدى إمكانية إعادة العمل بمنصب رئيس الوزراء مجدداً.

كان هذا المنصب قد ألغى بمقتضى التعديل الدستوري الذي أجرى في عام 1989، وكان آخر من تولاه هو مير حسين موسوي أحد قادة ما يسمى بـ"الحركة الخضراء"، التي تشير إلى الاحتجاجات التي اندلعت في إيران عام 2009 بسبب الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية التي ترشح فيها موسوي إلى جانب رئيس مجلس الشورى الأسبق مهدي كروبي- وكلاهما يخضع للإقامة الجبرية منذ فبراير 2011 وحتى الآن- أمام الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، وأسفرت عن فوز الأخير بفترة رئاسية ثانية.

هنا، فإن هذا السؤال تتفرع عنه أسئلة أخرى لا تقل أهمية. فهل في حالة إعادة العمل بمنصب رئيس الوزراء، سيتم إلغاء منصب رئيس الجمهورية، أم سيتم العمل بالمنصبين معاً، كما كان الحال قبل إلغاء منصب رئيس الوزراء، حيث كان المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي هو آخر من تولى منصب رئيس الجمهورية وقت أن كان هناك رئيس وزراء في الوقت نفسه، قبل أن يتم تعديل الدستور عام 1989، ويصعد خامنئي إلى منصب المرشد ويلغى منصب رئيس الوزراء، ويتولى هاشمي رفسنجاني منصب رئيس الجمهورية.

كلمة السر

اللافت في هذا السياق، هو أن خامنئي كان أول من طرح هذا السؤال، وتركه بلا إجابة. وربما كان الهدف من ذلك، كما يقال، هو إلقاء حجر في مياه راكدة، بهدف استشراف ردود الفعل وإنضاج رؤية أكثر شمولاً لمدى إمكانية تطبيق هذا التعديل من عدمه، ومدى ملاءمته للظروف التي تواجهها إيران، على المستويين الداخلي والخارجي، خاصة أن طرحه في البداية كان عقب تصاعد حدة الأزمة السياسية في عام 2009، ثم اندلاع ما يسمى بـ"الربيع العربي" بعد ذلك بعامين. وربما لا يمكن استبعاد أن يكون خامنئي بهذه الإشارة قد حاول توجيه تحذيرات مباشرة للرئيس الأسبق أحمدي نجاد الذي كان قد بدأ خلال فترته الرئاسية الثانية في إثارة أزمات عديدة كان لها صلة مباشرة بصلاحياته التنفيذية وتشابكها مع صلاحيات المرشد.

ففي 16 أكتوبر 2011، قال خامنئي أنه "لا توجد أى مشكلة في إلغاء انتخاب الرئيس بشكل مباشر إذا تبين أن هذا أمر مرغوب"، وأضاف: "النظام السياسي الحاكم للبلاد حالياً هو نظام رئاسي يتم فيه انتخاب الرئيس بشكل مباشر من قبل الشعب وهو أسلوب جيد ومؤثر. لكن إذا اعتبر في يوم ما .. ربما في المستقبل البعيد.. أن النظام البرلماني لانتخاب مسئولي السلطة التنفيذية هو الأفضل فلا توجد أي مشكلة في تغيير الآلية الحالية".

وكان لافتاً أن هذه التصريحات جاءت بعد شهور قليلة من أزمة اندلعت بين المرشد والرئيس، عندما ألغى الأول، في 22 أبريل 2011، قراراً اتخذه الثاني بإقالة وزير الاستخبارات حيدر مصلحي، على نحو دفع الرئيس إلى الاعتكاف في منزله لأيام عدة قبل أن يعود إلى مزاولة مهام منصبه.

منذ تلك اللحظة، بدأت التكهنات تتزايد حول احتمال أن يكون أحمدي نجاد (2005-2013) هو آخر رئيس جمهورية لإيران، ولم تتحقق، وجاء حسن روحاني (2013-2021) وتكررت التكهنات نفسها ولم تتحقق، ثم جاء إبراهيم رئيسي (2021- حتى الآن) وبدأت التكهنات تظهر من جديد، لكن لا يعرف هل ستتحول إلى خطوات إجرائية على الأرض بالفعل أم ستتكرر مع رئيس آخر قادم.

المهم في كل ذلك، هو أن الجدل بدأ يتزايد مجدداً حول هذه القضية. ففي حوار مع موقع "خبر انلاين" القريب من رئيس مجلس الشورى السابق علي لاريجاني، في 6 فبراير الجاري (2022)، دعا السياسي المحافظ محمد رضا باهنر رئيس جمعية "المهندسين الإسلاميين"، إلى إجراء استفتاء على تعديل الدستور، من أجل تحويل النظام السياسي من رئاسي إلى برلماني عبر إنشاء سلطة تشريعية بغرفتين، في إطار تأسيس ما أطلق عليه "الجمهورية الثانية".

وفي رؤية باهنر، فإن إيران باتت في حاجة إلى إصلاح هيكلي يتركز حول المواد التي يمكن تعديلها والمؤسسات التي يمكن إعادة تشكيلها، دون الاقتراب من "الخطوط الحمراء" التي تتمثل في هوية النظام وتراتبية مؤسساته وقاعدته الثيوقراطية ممثلة في ولاية الفقيه، فضلاً عن تأسيس نظام حزبي أكثر فاعلية لإفراز نواب لديهم القدرة على ممارسة سلطاتهم التشريعية بشكل أكثر تأثيراً وتجاوز الطابع الجهوي لأدوارهم الحالية.

جدل واسع

وقد أثارت هذه الدعوة جدلاً واسعاً داخل إيران، ما بين مؤيد ومعارض. لكنها في النهاية ألقت- بشكل غير مباشر- الضوء مرة أخرى على إشكاليات هيكلية عديدة داخل النظام السياسي الإيراني، وأهمها إشكالية العلاقة بين المرشد والرئيس، وهى إحدى جوانب صفة "الازدواجية" التي يتسم بها النظام السياسي الإيراني، الذي يجمع- كما سلفت الإشارة- بين "الجمهورية" و"الإسلامية"، ويقسم القوات المسلحة بين الجيش النظامي والحرس الثوري، وتنقسم قواه السياسية الرئيسية بين إصلاحيين ومحافظين، بل إن الأخيرين انفسهم انقسموا إلى محافظين تقليديين ومحافظين أصوليين، وبدأ المحافظون الأصوليون ينقسمون بدورهم بين محافظين أصوليين وأصوليين جدد.

مبعث هذه المشكلة هو أن الرئيس لا يمتلك الصلاحيات التنفيذية كلها، بل إن بعضها يعود- بمقتضى الدستور- إلى المرشد. وقد سبق أن ألمح رؤساء جمهورية سابقون إلى هذه الإشكالية، على غرار أحمدي نجاد وحسن روحاني، الذي سبق أن دعا، في 21 ديسمبر 2020، إلى تعديل الدستور، واشتكى من تقييد صلاحياته، وإن أعاد ذلك إلى "التفسير المغاير" الذي يتبناه مجلس صيانة الدستور للمادة 113 التي تحدد موقع الرئيس داخل تركيبة النظام السياسي.

هذه الازوداجية التي تبدو جلية في مزاحمة المرشد للرئيس في الصلاحيات التنفيذية دفعت بعض الاتجاهات حتى داخل إيران نفسها إلى الحديث عن وجود رئيسين في إيران. الرئيس الأول، هو رئيس الدولة، وهو المرشد الأعلى للجمهورية. والرئيس الثاني، هو رئيس الجمهورية، وهو رئيس السلطة التنفيذية.

وتبقى الإشكالية في هذا السياق في المنصب الأول، وهو رئيس الدولة. فأى دولة يتولى رئاستها المرشد الأعلى أو الولى الفقيه؟. والإجابة قد تكون: إنها الدولة الإسلامية. وهنا، فإن ثمة فرضيات تطرح نفسها وتبدو في حاجة إلى اختبار. إذ قد يوحي ذلك للوهلة الأولى بأن الدولة الإسلامية ليست بالضرورة إيرانية، على نحو يستند إلى اعتبارات كثيرة، منها أن المرشد الأعلى في إيران يوصف بأنه "ولى أمر المسلمين في العالم" (ولی امر مسلمین جهان)، ومنها أن المعايير التي يعين على أساسها المرشد في منصبه- طبقاً لما جاء في الدستور- لا تتضمن أن يكون إيراني الجنسية، على عكس رئيس الجمهورية على سبيل المثال. ويعني ذلك أن ما تضمنه الدستور من مواد خاصة بمعايير اختيار المرشد كان له دور في طرح تلك الفرضية.

وقد أفسح ذلك المجال أمام اجتهادات عديدة طرحت للتعامل مع هذه الإشكالية، منها ما أشار إليه موقع إليكتروني تابع للحوزة الدينية(*)، الذي نشر تقريراً تحت عنوان "رهبری در قانون اساسی" (المرشد أو القائد في الدستور) جاء فيه أن "الولى الفقيه يحظى بالموقع والمكانة الأبرز في النظام الإيراني، وفي الاجتهاد فإن الاعتبارات الدينية تطغى على الجغرافية"، بما يعني أن المرجع الديني ليس في حاجة لجنسية محددة لكى يكون له مقلدون، الذين ليسوا بالضرورة أن يكونوا إيرانيين. لكن الموقع يضيف أن الصلاحيات التي يمنحها الدستور لولى الأمر المعين من قبل مجلس الخبراء الذي ينتخب من جانب الشعب، على غرار وضع السياسة العامة للنظام وتعيين قادة القوات المسلحة وإعلان الحرب والسلام، ترتبط في المقام الأول باعتبارات وطنية وليست دينية، بما يعني أنها تفترض، ضمنياً، أن يكون معيار الجنسية متوافراً فيمن يتولى هذا المنصب.

لكن هذه النوعية من الاجتهادات لا تنفي أن هناك فرضيات أخرى تطرح في هذا السياق ولا يمكن تجاهلها. إذ أن تغيير النظام السياسي وفقاً لأى تعديل محتمل للدستور، من رئاسي إلى برلماني، قد يوحي بأن هناك توجهاً لإنهاء تلك الإشكالية، بأن يتم إلغاء منصب الرئيس أو على الأقل أن يتم تقاسم صلاحياته الحالية مع رئيس الوزراء بما يعني إضعاف موقعه داخل تراتبية النظام، وفي النهاية تكون النتيجة واحدة، وهى أن هناك رئيساً واحداً وفعلياً هو رئيس الدولة.

كل ذلك يبقى مجرد فرضيات في حاجة إلى وضعها موضع الاختبار، لا سيما أنه سوف يكون لها علاقة بالإجابة على السؤال الآخر الذي لا يقل أهمية ومفاده: من سيتولى منصب المرشد الأعلى أو الولى الفقيه بعد خامنئي، وكيف سيكون شكل النظام بعد غياب المرشد الحالي عن المشهد؟.


* مرکز تحقیقات کامپیوتری علوم اسلامی(نور)، پايگاه اطلاع رساني حوزه، رهبری در قانون اساسی، 1/5/1385: https://cutt.us/inhRp.