أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

ملخص تنفيذي:

على النحو المعتاد في المشهد الليبي، طيلة 12 عاماً، لم تنكسر قاعدة التكرار فى عملية الانتقال السياسي الليبي، حيث تفشل مرحلة انتقالية، بينما يجري إعداد مرحلة انتقالية تالية، على وقع فصول متتابعة من معارك السياسة والحرب، لدرجة أنه أصبح من الصعوبة بمكان إنهاء هذا النمط. لكن الجديد في هذا المعتاد، هو متغير مقاربة التحالفات بين مراكز القوة والسلطة، في ظل تقارب مجلسى النواب والأعلى للدولة للمرة الأولى نحو التوافق على ملامح خريطة الطريق الانتقالية، بالإضافة إلى محاولات تذويب العامل الجهوي الحاكم للصراع السياسي بين شرق البلاد وغربها، مع تكليف رئيس حكومة من غرب البلاد بدعم من مراكز القوى فى الشرق والبرلمان وضمن خريطة طريق توافقية بشكل نسبي.

لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت عملية الانتقال السياسي الجديدة ستجري في أجواء سلمية، وأن غيوم التوتر الأمني في غرب البلاد ستتبدد، وبالتالي يتم العبور ما بين مرحلتين انتقاليتين بشكل سلمي، أم أن هناك فصلاً من الصراع المسلح سيندلع في غرب البلاد لتمكين الحكومة الجديدة، ما يعيد البلاد إلى مربع الصراع والانقسام، ويهدر فرصة جديدة تضاف إلى الكثير من الفرص الضائعة. وفى ضوء الخبرة الليبية، لا يمكن الجدل بشأن تشخيص أسباب ودوافع التكرار في عملية الانتقال السياسي، ويعتقد أنه دون بناء عملية انتقال سياسي مستقرة، ستظل العملية السياسية هشة، وبالتبعية يصعب الوصول إلى حالة الاستقرار السياسي المستدام.

إن اختزال فروض عملية الانتقال السياسي فى إجراءات تشكيل حكومات مؤقتة، والاستحقاق الانتخابي، يعيد ليبيا في كل مرة إلى المربع الأول، بينما يتم ترحيل المعضلات الرئيسية، التي تبقي من دون معالجة، كإنهاء التدخلات الخارجية بكافة مظاهرها لاسيما التواجد العسكري الأجنبي، والمقاتلين الأجانب، والمليشيات المحلية، وتوحيد المؤسسة العسكرية، وإجراء عملية مصالحة اجتماعية شاملة، وكسر نمط تدوير النخبة السياسية من مرحلة إلى أخرى، وإنهاء مظاهر الفساد، والجريمة المنظمة. وتعكس كافة هذه الأبعاد منظوراً مهماً لعملية الانتقال السياسي فى أي مرحلة، حيث يحتاج الليبيون إلى الإجابة عن سؤال محوري: هل الغاية هي عملية إعادة بناء السلطة أم عملية بناء الدولة الوطنية؟، ففى كل مرة يثبت الليبيون أن المسألة لا تزال صراعاً على السلطة.

ويُعول شركاء خريطة الطريق فى المرحلة الانتقالية الجديدة (البرلمان ومجلس الدولة)، والتي بدأت عملياً فى 10 فبراير 2022 مع إعلان تكليف فتحي باشاغا برئاسة الحكومة الجديدة، وصدور التعديل الدستوري الثاني عشر، على أن المقاربات الجديدة للمرحلة الانتقالية، والتي تتمثل فى رسم خريطة طريق انتقالية فى إطار "حوار ليبي – ليبي" وتعزيز السيادة الليبية برفض التدخل الخارجي فى شئون البلاد، وإنهاء مظاهر الجهوية السياسية، قد يشكل فرصة لعملية انتقال سياسي مستقرة، تقود إلى حالة الاستقرار المنشود.

لكن أيضاً على الجانب العملي، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المشهد التالي قد يشكل فرصة نوعية فى عملية تفكيك المعسكرات التقليدية، التي نشأت ما بين الشرق والغرب، بل يمكن التركيز على احتمالات قوية لقيام فتحي باشاغا بتفكيك معسكر الغرب الليبي، القائم على تحالفات النخب السياسية والمليشيات، بالإضافة إلى ظهور فرصة واعدة فى التعامل مع ملفات القواعد العسكرية الأجنبية والمقاتلين الأجانب، لاعتبارات تتعلق بدور باشاغا إبان حكومة الوفاق فى تشكيل جانب من هذه الظواهر، وهو ما يشكل معطى إضافياً للتعامل مع أكثر المهددات تأثيراً على العملية السياسية، وسيشكل ذلك قوة مضافة لعملية توحيد المؤسسات. لكن على الجانب الآخر، فإن هناك قيوداً أخرى تتعلق بضمانات المرحلة الانتقالية الجديدة، والمخاوف من تحولها لسلسلة من الصفقات ما بين الفاعلين المحليين، بالإضافة إلى أن كل عملية انتقالية تفرز أنماطاً جديدة من المصالح.

وبما أن هذه العملية سيكون لها سماتها الخاصة، فستظل تلك المخاوف قائمة، والأهم من بين التحديات، هو ألا يحدث تراجع فى الملف الأمني، بالعودة إلى الصراع والاحتراب المسلح، حتى وإن كان العديد من المراقبين يرون أن التوتر الراهن قد يشكل عامل إخفاق مبكراً ربما يعمل على وأد أي فرصة تلوح فى الأفق. كذلك هناك عامل هام من بين تلك التحديات، وهو كيف يمكن استعادة ثقة نحو 2.5 مليون ليبي كانت لديهم الرغبة في تجديد مشروعية مؤسسات السلطة، وهو ما يشكل أكبر إجماع ليبي فى تاريخ الاستحقاقات المحدودة التي عرفتها البلاد.

وتناقش هذه الورقة مدى إمكانية توافر عوامل الاستقرار فى عملية الانتقال السياسي الجديدة، فى ضوء ديناميكيات الحالة الليبية، وملفات العملية السياسية، ومواقف الأطراف المختلفة من عملية الانتقال، وأدوار اللاعبين المؤثرين من الخارج.

مقدمة:

أطلق البرلمان الليبي مرحلة انتقالية جديدة، تحت عنوان "حوار ليبي – ليبي"، ورفض التدخل الخارجي فى الشأن السياسي الداخلي، لتعزيز استعادة سيادة البلاد، التي لا تزال تحت الفصل السابع من الأمم المتحدة، وبالتوافق مع المجلس الأعلى للدولة، كنوع من السلامة الإجرائية، لتشكيل حكومة انتقالية جديدة برئاسة فتحي باشاغا، الذي جرى تكليفه بهذه المهمة فى 10 فبراير الجاري (2022)، بالتزامن مع التوصل لصيغة خاصة بالمسار الدستوري، وهي مقاربات تشكل منظوراً جديداً وغير معتاد فى المشهد الليبي، فللمرة الأولى هناك محاولة لتشكيل إجماع وطني على جدول أعمال خريطة طريق انتقالية، تتم صياغتها فى الغرف السياسية الليبية، كما كسرت عملية تشكيل الحكومة التي اعتمدها البرلمان التقاليد المتعارف عليها فى السياسة الليبية، التي كانت تستند فى الغالب على العامل الجهوي، ما بين شرق البلاد وغربها.

نقطة توازن

أصبحت هناك معادلة متوازنة فى عملية الانتقال السياسي، تجمع ما بين الاستحقاقات الرئيسية للعملية السياسية، من حيث بناء قاعدة دستورية يتم التصويت عليها فى استفتاء عام، عليها أن تختار فى أكثر من فرصة، ما بين تعديل الوثيقة الدستورية التي قدمتها الهيئة التأسيسية للدستور، وهى التعديلات التي ستعكف عليها لجنة الـ(24) التي ستتشكل من أقاليم البلاد الثلاثة (طرابلس- برقة – فزان)، أو وضع قاعدة دستورية مؤقتة (إعلان دستوري) في حال نفاذ الاستفتاء مرتين على الدستور، وعليه ستكون هناك فى نهاية المطاف قاعدة دستورية يمكن الاحتكام إليها، بالإضافة إلى العامل الإجرائي الهام المتمثل فى توافق مجلسي النواب والدولة خطوة بخطوة على هذا الأمر.

ولم يكن هذا السياق متاحاً فى المرحلة الانتقالية السابقة، بالنظر إلى الخصومة التي كانت مستحكمة بين المجلسين فى إطار إرث معارك عديدة سابقة، آخرها معركة طرابلس، بالإضافة إلى عامل لوجيستي آخر، وهو أنه كانت هناك استحالة لإجراء هذه العملية فى إطار السقف الزمني للمرحلة الانتقالية الذي كان مؤقتاً بحدود 24 ديسمبر 2021، بينما بدأت العملية السياسية عملياً فى مارس من العام نفسه، وبالتالي كانت المهلة الزمنية المتاحة أقل من 9 أشهر، بينما كانت المفوضية العليا للانتخابات ترى أن إتمامها بشكل صحيح يتطلب على الأقل ما بين عام ونصف العام إلى نحو العامين، ناهيك عن أولوية الاستعدادات للعملية الانتخابية.

الطرف الآخر فى هذه المعادلة، والذي يحقق قدراً من التوازن هو عامل الاستحقاقات الأمنية، والتي لا تقل أهمية عن الاستحقاقات السياسية، بل إنها كانت أسبق فى التوافق الليبي، مع التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020) الذي مهّد لتلك العملية، وتضمنت هذه الاستحقاقات إنهاء مظاهر التدخل الأجنبي، من تواجد عسكري أجنبي فى نحو 10 قواعد عسكرية فى البلاد، إلى جانب وقف عمليات التدريب والتسليح، وإجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب. وعلى الرغم من حفاظ الطرفين على وقف إطلاق النار، إلا أن باقي الاستحقاقات الأخرى لم تدخل حيز التنفيذ عملياً، لكن فى واقع الأمر شكلت لجنة (5+5) آلية فاعلة للتقارب ما بين الطرفين العسكريين (القيادة العامة فى الشرق – رئاسة الأركان فى الغرب)، انعكس فيما بعد فى مظاهر تطبيع الحياة ما بعد الحرب بين شرق البلاد وغربها، بالإضافة إلى إذابة الجليد ما بين الفريقين العسكريين والتطرق جدياً إلى إمكانية العمل على توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، فى ضوء حوار داخلي مشترك دون تدخلات خارجية، وقد تهيىء هذه العوامل فى المستقبل لإنضاج خطوة توحيد المؤسسة العسكرية إذا ما تم تفادي الصراع المحتمل، وتشكلت إرادة سياسية حقيقية لإنجاز هذه العملية.

من الناحية الواقعية، ستظل نتائج هذه المعادلة رهن مسار المرحلة الانتقالية الجديدة، وينظر إلى فتحي باشاغا على أنه الرجل القوي فى الغرب الليبي، الذي تمكن من إخضاع عدد من المليشيات لخطة إدماج لم تستكمل، حيث قطعت العملية السياسية العام الماضي الطريق على هذا المسار بعد فشل قائمة باشاغا في ملتقى جنيف وفوز قائمة الدبيبة، وبالتبعية سيدخل باشاغا فى اختبار جديد فى هذه العملية، قد يكون الأصعب منها اختباره فى إنهاء الاتفاق الأمني مع الجانب التركي، على اعتبار أنه كان الممثل لحكومة الوفاق فى هذا الاتفاق (نوفمبر 2019)، والذي سينتهي فى غضون يونيو المقبل على الأرجح، وبالتالي يتعين ألا يكون قابلاً للتجديد.

لكن هناك معضلة أخرى تتمثل فى بقية القواعد الأجنبية، التي تتواجد فيها قوات روسية إلى جانب عدد من القوات الأوروبية، ومن غير الواضح ما هي طبيعة الاتفاقيات المبرمة معها، إن كان هناك بالفعل اتفاقيات، إلى جانب المقاتلين الأجانب من مختلف الدول، سواء العناصر السورية أو مجموعة "فاجنر" الروسية، بالإضافة الى كم كبير من العناصر الإفريقية، وهناك اتفاق مبدئي فى إطار لقاءات برلين 1-2 (2020 – 2021) ولقاء باريس (نوفمبر 2021) على انسحاب متزامن ومتناسب للعناصر فى الشرق والغرب، بالإضافة إلى تعاطي آلية دول الجوار مع ملف المرتزقة الأفارقة، وهو ملف شهد عملية تحريك غير مسبوقة لهذا الملف من الجانبين المصري والجزائري، بالتعاون مع تشاد ومالي، فضلاً عن دور اللجنة العسكرية المشتركة الليبية (5+5)، على نحو أسفر عن التوصل لرؤية حول إمكانية التعاطي مع هذا الملف، وبالتالي هو ليس ملفاً حكومياً بالدرجة الأولى.

لكن فائض قوة معادلات التقارب المرحلية، ما بين مجلسي النواب والدولة، بالإضافة الى فتحي باشاغا والمشير خليفة حفتر، سيشكل عاملاً مهماً، من حيث إعادة الشيء إلى أصله، حيث أن أية مساعدات عسكرية أو تعاون عسكري خارجي يتطلب موافقة البرلمان، الذي استعاد رئيسه المستشار عقيلة صالح صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة، بل إن تنامي ونضوج هذا التقارب الرباعي يقوض بدوره الدوافع التي جلبت هذه المظاهر فى ظل الصراع الجهوي فى السابق.

لكن أيضاً من الأهمية بمكان الإشارة إلى موقع المليشيات والفصائل المسلحة فى غرب البلاد، باعتبارها أحد الفاعلين فى هذه التطورات، فقد سبقت الإشارة إلى تفكك معسكر الغرب الليبي حالياً، فى إطار مساعي رئيس الحكومة المنتهية ولايته عبد الحميد الدبيبة للبقاء فى السلطة، والاستعانة بالمليشيات كإحدى أدوات الدعم الرئيسية لهذه الصيغة، والتي يمكن تقسيمها ما بين مليشيات أو فصائل مسلحة تسعى إلى جنى أرباح الصراع المسلح بمنطق أمراء الحرب، وليس دعماً لطرف لحسابات شخصية، ومليشيات ترى أن تجسير العلاقة ما بين الشرق والغرب سيهدد مصالحها، لاسيما فى ظل حضور المشير حفتر فى المشهد والمعروف بعدائه الشديد للمليشيات والتي تبادله بالتبعية العداء المستحكم.

لكن هناك عدة مؤشرات مهمة فى هذا السياق، منها أن حدوث حالة تفكك على أكثر من مستوى، منها تفكك معسكر "فبراير" سياسياً وعسكرياً، ومسقط رأسه مصراته فى المقام الأول- وهي أيضاً مسقط رأس كل من الدبيبة وباشاغا- ثم الزاوية والزنتان وهي جبهات أصبحت أيضاً منقسمة على نفسها ما بين الطرفين. وبغض النظر عن الانتماءات، هناك معركة مؤجلة لباشاغا مع المليشيات التي لم تدخل فى سياق عملية الاندماج فى المؤسسات الأمنية، والتي تطل برأسها حالياً فى المشهد بوقوفها خلف الدبيبة ربما طمعاً فى الأموال، لكن من جانب آخر تدرك أن مسار تقويض نفوذها أصبح حتمياً لا محالة على اعتبار أنه سيشكل اختباراً لقوة باشاغا- كما سلفت الإشارة- من زاوية التمكين لحكومته فى طرابلس، والأمر الآخر فرض مظاهر القوة واحتكار السلطة لها خلال المرحلة الانتقالية. وبطبيعة الحال، سيتعين على باشاغا فيما بعد، حال نجح فى هذا الاختبار، إثبات أنه كان يتعاطى معه للصالح العام والوطني، وليس لإعادة تشكيل مركز قوة مرة أخرى.

وفى الحاصل الأخير فى هذه الجزئية، يمكن افتراض أنه على الرغم من احتمالات التوتر القائمة حالياً فى الغرب الليبي، لكن من المتصور أن المعركة المقبلة مع المليشيات فى حال اندلاعها قد تشكل عاملاً صحياً وليس عامل تعثر للمرحلة الانتقالية، إن تم حسمها سريعاً، وإن لم تخرج عن نطاق المليشيات إلى رئاسة أركان غرب ليبيا، وإن لم تتجاوز حدودها فى الغرب وتمتد إلى الشرق، لسبب أو آخر.

على الجانب الآخر، هناك تحدي إصرار الدبيبة على البقاء فى المشهد، وعدم تسليم السلطة، وبالتالي سيظل أحد الفاعلين، على نحو قد يفرض سيناريوهات غير متوقعة على المسار المقبل، لاسيما وأن لديه قاعدة دعم بأشكال مختلفة، من تأييد جماهيري، ومليشياوي – كما سلفت الإشارة- لكن يعكس خطابه حالة من التناقض فى واقع الأمر، فقد أشار فى راقلدين فى مؤتمر جماهيري (12 فبراير 2022) إلى أنه بصدد الإعلان عن خريطة طريق موازية فى ذكرى ثورة (17 فبراير)، سيحيلها إلى مجلس النواب، بينما فى الوقت ذاته يعتبر مجلس النواب "مزوراً ويدفع البلاد إلى الاحتراب وتستأثر به قوة محدودة من النواب" – على حد قوله- بينما هو عملياً لا يمتلك هذه الأدوات السياسية. الأمر الآخر، أن دفعه للمليشيات يناقض هدف (حكومة الوحدة الوطنية) التي جاءت لتقويض الانقسام، بينما يعمل فى الوقت ذاته على العودة مرة أخرى إلى الانقسام، وبغض النظر عن أن معادلة موازين القوى لا تميل لصالحه بشكل عام، لكنه قادر على التأثير فى المشهد وتوتيره، وعرقلة المسار السياسي المقبل، ويتدثر بغطاء الأمم المتحدة التي لا تدعمه بشكل شخصي، بقدر ما تدعم استمرار المسار الحالي حتى يونيو المقبل فى إطار الصلاحية الزمنية لعملية الانتقال السياسي التي يمثلها الدبيبة، وهى معادلة معقدة، وبالتالي سيحاول إرباك المشهد قدر المستطاع.

ربما تكون توجهات فتحي باشاغا هى احتواء الأزمة مع الدبيبة وفق خطابه الذى أدلى به فى مطار معيتيقة عقب تكليفه برئاسة الحكومة (10 فبراير 2022)، لكن ذلك سيتوقف على عوامل قد يصعب تجنبها، منها العامل الخارجي. فعلى سبيل المثال، لا يزال من غير المعروف ما هى طبيعة التعاقدات الاقتصادية والأمنية التي أبرمها مع قوى خارجية قد ترى فى دعمه أولوية لمصالحها، وهو ما قد يعوق رهانات باشاغا وشركائه السياسيين فى الملف الأمني، الخاص بالوجود الأجنبي فى البلاد، على نحو يتطلب استمرار فتح قنوات اتصال من القوى المحلية والخارجية الحريصة على احتواء الأزمة، وعدم التعامل معها بسياسة مرحلة الوفاق، وقد يكون تسليمه السلطة فرصة للعودة مرة أخرى عن طريق الانتخابات فى المستقبل، عبر الصندوق وليس من خلال السلاح.

اختبار الثقة

يمثل اختبار الثقة اختباراً متعدد المستويات، إذ كيف يمكن استعادة ثقة الليبيين فى العملية السياسية بشكل عام، وفى الكيانات والنخب السياسية التي تقوم على رسم خريطة طريق جديدة، حتى وإن توافرت الاجراءات الشكلية، فى إطار التطورات السياسية الراهنة؟. ففى واقع الأمر، يمكن القول إن الليبيين ذهبوا إلى الانتخابات لكنهم لم يصوتوا، حيث فشلت عملية إجراء الاستحقاق الانتخابي الذي كان مرتقباً فى 24 ديسمبر 2021. وكشفت العديد من التقديرات واستطلاعات الرأى أن رغبة الليبيين فى الانتخابات لم تكن علامة صحة أو دعم لعملية الانتقال السياسي خلال العام 2021 بل على العكس كانت محاولة للتخلص منها، وأيضاً رغبة فى تجديد مشروعية الأجسام السياسية بشكل عام، وانتخاب سلطة موحدة للبلاد للمرة الأولى فى تاريخها.

على هذا النحو، لايزال من المبكر اختبار عامل الثقة ما بين مجلسى الدولة والبرلمان، فلا تزال هناك شكوك حول إمكانية تحول العلاقة بين الطرفين لصفقات تبادلية، لكن فى واقع لا يزال من المبكر الحكم على هذه العلاقة، كونها لم تنضج بعد بشكل يمكن تقييمه، ولا تزال الخطوات الأولى تطغى عليها بعض مظاهر الارتباك، فرغم التوافق بينهما على خطوة تشكيل الحكومة، إلا أن الأعلى للدولة أعلن (12 فبراير 2022) أن هناك شكاوى فى إجراءات عملية اختيار البرلمان لرئيس الحكومة، وهو ما ينطوي على رسالة تتعلق بأن مجلس الدولة يصر على الانخراط بشكل فاعل ومؤثر خطوة بخطوة فى مسار العملية الانتقالية، وربما سيكون المسار الدستوري وملف المناصب السيادة فيما بعد هو المحك الحقيقي لهذا الاختبار.

على الجانب الآخر، أعلن البرلمان أن الخطوات التي اتخذها بشأن خريطة الطريق تمت فى إطار حوار وطني "ليبي – ليبي"، لكن على الأرجح لا يمكن وصف ذلك على هذا النحو، فربما يشكل "حلاً ليبياً – ليبياً" أو محاولة لطرح حل أكثر منه حواراً يحتاج إلى فرصة أوسع فى المجال العام، لكن الأهم فى هذا السياق، هو التشديد على فكرة عدم التدخل الخارجي، وهى نقطة مهمة، لكن من حيث الممارسة الفعلية، طالب البرلمان بإبعاد البعثة الأممية عن المشهد، وبالفعل تراجعت المستشارة الأممية ستيفاني وليامز عدة خطوات إلى الوراء من التأكيد على أن عملية تشكيل حكومة انتقالية ليست أولوية إلى اعتبارها شأناً سيادياً ليبياً، لكنها لم تتراجع بشأن نهاية الفترة الزمنية لعملية الانتقال السياسي المقررة فى يونيو المقبل، وهو ما يتماهى مع موقف الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش.

ومن الناحية العملية، لا يبدو أنه من الممكن تقويض أو استبعاد دور الأمم المتحدة بحكم بقاء ليبيا تحت الفصل السابع، ربما هى الطرف الخارجي الوحيد الذي لا يمكن استبعاده من المشهد. لكن أيضاً هو عامل آخر سيُلقي بظلاله على هذا المشهد، عندما تعين الأمم المتحدة – فى حال توافق أعضاء مجلس الأمن - فى أبريل 2022 مبعوثاً أممياً جديداً، مع انتهاء ولاية البعثة الحالية، حيث سيكون هناك مسار مختلف من جانب الأمم المتحدة، لكن استباق البرلمان لعملية سياسية، يعني أنه فى حال تقدم هذا المشروع فإن البعثة المقبلة ستكون مضطرة إلى التعاطي معه، والعمل على تمديد الفترة الانتقالية، والعكس فى حال تعثر المرحلة الجديدة لسبب أو آخر، سيكون للبعثة اليد الأعلى وربما سيوظف الدبيبة هذا المشهد لصالحه.

الاختبار التالي، يتعلق بعملية تشكيل الحكومة المقبلة، والتي سيعول عليها بقدرٍ كبير فى عملية استعادة الثقة، وستبدأ هذه العملية من الاختيارات المتوازنة من حيث تمثيل الوزراء من مختلف الفئات والأقاليم، ولاحقاً الأداء والممارسة. ربما نجح الدبيبة، على سبيل المثال، فى بعض الملفات الاقتصادية، كمنح الشباب، بالإضافة إلى التعاقدات التي أبرمها مع العديد من الدول كنوع من التمهيد لدعمه فى العملية الانتخابية، لكن على الجانب الآخر، فإن توقيف العديد من وزراء حكومته فى قضايا فساد بأوامر من النائب العام طعن فى عامل الثقة فى هذه الحكومة، بخلاف العلاقة مع الأطراف، حيث ظلت العلاقة متوترة مع القيادة العامة فى الشرق، على خلفية موازنة القيادة، بالإضافة إلى استحواذه على منصب وزير الدفاع.

ربما ستحل هذه الأزمة مع حكومة باشاغا، والتي يعتقد أنها ستضم وزيراً للدفاع محسوباً على القيادة العامة، للمرة الأولى منذ تأسيس الجيش الوطني الليبي، لكن قد تظهر عراقيل أخرى، منها استقطاب الدبيبة لرئيس المصرف المركزي، الصديق الكبير، والمعني بتوفير الموازنة، وهو استقطاب مصالح فى واقع الأمر، خاصة وأن الكبير يدرك أن التوافق ما بين مجلسى النواب والدولة فى ملف المناصب السيادية سيطيح به، وهي معركة موازية محتملة، قد تعيد المشهد مرة أخرى إلى المعركة على حقول النفط على نحو ما جرى فى مرحلة الوفاق.

فى الأخير، يمكن القول إن عملية الانتقال السياسى الجديدة فى ليبيا قد تشكل فرصة واعدة مرة أخرى، بحيث لا يمكن أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وأصبح هناك اضطرار لعملية انتقالية جديدة، لكن من الأهمية بمكان تحقيق معادلة البناء السليم والسلمي قدر الإمكان لهذه العملية حتى يتسنى الانتقال بشكل سلمي وسليم إلى مرحلة استقرار مستدام، لكن لا يزال من المبكر الحكم على إمكانية نجاح هذه المرحلة، وإنجاز أهدافها، وهو ما لن يتحقق إن لم يتم الاستفادة من دروس الماضي فى الحالة الليبية والتي أصبحت واضحة الحدود والأبعاد.

إن مقومات بناء عملية انتقال سياسي جديدة فى ليبيا قد تتوافر فى المرحلة الحالية، قياساً على مؤشرات بناء المراحل السابقة، لكن المؤشرات الفعلية ستظهر مع أداء الأطراف فى المرحلة المقبلة، وفقاً لتحسن وضع البيئة السياسية والأمنية والاجتماعية، حيث يظل الأهم هو الحفاظ على المكتسبات الأساسية، كقرار وقف إطلاق النار، والبناء عليها، بإبقاء الحوار الليبي على الطاولة، وعدم الانزلاق إلى الصراع المسلح. 

إن أبرز معوقات بناء عملية انتقال سياسي سليمة تتمثل فى وجود معضلات داخلية وخارجية، ومن المتصور أن العوامل الداخلية تميل لصالح المضى قدماً فى المرحلة الانتقالية، وتفادي الإشكاليات السابقة، لكن بمرور الوقت ستكشف الاختبارات العديدة عن مدى الوثوق فى هذه الفرضية. أما العوامل الخارجية التي يسعى التحالف السياسي الجديد إلى تقويضها فستشكل عامل تأثير وعقبات أكثر مما هو متصور، فلا تعني عملية وقف التدخل الخارجي إغلاق أبواب ليبيا أمام الخارج، بقدر ما هناك حاجة لإيجاد طريقة لتأسيس علاقة متوازنة تفيد كافة الأطراف.

إن معالجة إشكالية تدوير النخبة الليبية من مرحلة انتقالية إلى أخرى تشكل عاملاً لتراجع الثقة فى العملية السياسية، خاصة وأن هناك معادلة جديدة فى الخريطة السياسية ظهرت فى المرحلة الانتقالية السابقة، وهى ظهور النظام السابق كلاعب محوري على المسرح السياسي. ورغم ذلك، تم استبعاده من مشهد خريطة الطريق الجديدة، وهو إقصاء سيشكل نقطة ضعف فى هذا المسار. فمدخل المصالحة الوطنية الحقيقية قد يكون البوابة الأفضل لاستيعاب تيار عريض لا يمكن تجاهله من جهة، ومن جهة أخرى منح الثقة لليبيين فى اختيار ممثلين دون فرض وصاية من تحالف سياسي سيتحول بمرور الوقت إلى جماعة مصالح جديدة إن لم تتفادى أخطائها السابقة.

لا يمكن إغفال العامل الأمني فى معادلة استقرار العملية السياسية، وهناك نضوج للعلاقات بين أطراف الأزمة، وآلية قائمة وفعالة، وبالتالي لا يمكن التغاضي عن أهمية الاستمرار عبر هذه القناة لتفعيل خريطة الطريق المتداولة داخل اللجنة المشتركة، وعدم القفز عليها إذا ما أصبح هناك وزارة دفاع ضمن الحكومة، بل على العكس من الأهمية بمكان أن تعزز دور اللجنة أكثر مما كان عليه فى السابق.

لقد أثبتت التجربة الليبية أن عملية تمكين أي حكومة لا يكون إلا بكلفة كبيرة، ولا يعتقد أن الازدواج الحكومي الذي يسعى إليه الدبيبة سيستمر طويلاً، لكن ذلك سيعتمد على الجغرافيا، إذ لن تكون هناك حكومات موازية ما بين الشرق والغرب، لكن ستكون هناك معركة تمكين فى الشرق، وفى حال اندلاع هذه المعركة بشكل مسلح، سيخسر أطرافها سياسياً وعسكرياً فى الأخير.

وقد أصبح دور الأمم المتحدة فى العديد من ملفات الصراعات والأزمات الإقليمية محل انتقاد كبير لعوامل عديدة، وعلى مدار الأزمة الليبية بمحطاتها المختلفة، ظل الارتباك سيد الموقف، ما بين استقالات ومحاولات للوصاية على العملية السياسية، وتحولت البعثة الأممية إلى طرف فى الأزمة، وبالتالي فإن الوقت المتبقي للبعثة الحالية يتطلب إعادة تقييم موقفها، وألا تتحول إلى طرف قد يشعل الصراع من جديد، وفى الوقت ذاته لا يمكن للأجسام الليبية الاستغناء عن الدور الأممي، بقدر ما تحتاج العلاقة إلى عملية بناء الثقة من جديد، وهو ما سيقع على عاتق البعثة الأممية المقبلة.