أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

اختلطت أوراق العملية السياسية في ليبيا بعد إهدار فرصة الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقرراً في 24 ديسمبر 2021، ولم يعد مصير عملية الانتقال السياسي واضحاً في ظل التعقيدات والتشابكات السياسية الراهنة. فلا تزال الأمم المتحدة تشدد على أن هناك خريطة طريق يجب أن تستكمل بإجراء الانتخابات بمجرد إزالة "الظروف القاهرة" التي عطّلت العملية الانتخابية، ودون الإفصاح عن طبيعة هذه الظروف حددت يونيو المقبل كسقف زمني لإجراء الانتخابات. فى المقابل، شرع مجلس النواب في إطلاق عملية انتقالية جديدة من دون الإعلان عن ذلك رسمياً، ومن دون توضيح الظروف القاهرة التي حالت دون إجراء الانتخابات أيضاً على الرغم من أنه شكل لجنة جديدة لخريطة الطريق، كما أعلن المجلس رسمياً (31 يناير 2022) عن تشكيل لجنة لوضع قاعدة دستورية للانتخابات، وأعلن في الوقت ذاته عن فتح باب الترشح لرئاسة حكومة انتقالية جديدة سيتم الإعلان عنها في 8 فبراير المقبل.

خرائط مأزومة

هناك صراع بين مسارين: الأول، يراهن على تمديد المرحلة الانتقالية التي أقرت في السابق وتعثرت على وقع الفشل في تنفيذ الاستحقاقات الرئيسية. والثاني، يراهن على مسار جديد منفصل تماماً عن المسار السابق، وكل منهما لديه نقاط قوته وضعفه:

مسار التمديد: وهو المسار الذي تراهن عليه حكومة تصريف الأعمال برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والذي يستند إلى عدم مشروعية البرلمان الذى منح الحكومة الثقة وسحبها منها لاحقاً، لكنه لم يؤسس للقاعدة السياسية التي جاءت بها الحكومة والمتمثلة في اتفاق جنيف، وبالتالي تصر الحكومة على أنها لن تسلم السلطة إلا لسلطة منتخبة وفق الاتفاق المشار إليه. وتكمن نقاط قوة هذا الفريق في الدعم الأمريكي والأممي، بشكل غير مباشر، حيث ترى واشنطن – ووفق ما صرح به المبعوث والسفير ريتشارد نورلاند- أن إقالة الحكومة تهدر زخم الانتخابات وبالتالى لا تشكل أولوية مرحلية، وهو نفس الخطاب الذي تعتمده ستيفاني وليامز المستشارة الأممية. لكن نقطة ضعف هذا المسار تتمثل في انتهاء مشروعية دوره رسمياً وفق الاتفاق السياسي بحلول يونيو المقبل. وهناك صعوبة، إن لم تكن هناك استحالة، في أن يتمكن هذا المسار من تغيير مسار الفشل الذي تعرضت له العملية السياسية. وبما أن صلاحية هذا الفريق ستنتهي بحلول يونيو، فإنه سيرسم هو الآخر مساراً جديداً خارج نطاق خريطة الطريق الأممية، وخارج نطاق خريطة الطريق البرلمانية التي يجري الإعداد لها حالياً.

مسار التجديد: إجرائياً، يواصل البرلمان العمل على رسم مسار جديد لعملية الانتقال السياسي، فتشكيل لجنة لخريطة الطريق يعني تجاوز ملتقى الحوار السياسي، بالإضافة إلى إعلان البرلمان عن تشكيل فريق لوضع قاعدة دستورية، فضلاً عن الإعلان عن حكومة جديدة، بما يعني عملياً نسف المسار السياسي السابق. كذلك فإن الاطار الزمني وفق الجدول المحدد لوضع قاعدة دستورية وإجراء استفتاء قد يصل إلى عام ونصف العام، وبالتالي سيمتد هذا المسار إلى ما قد يتجاوز العامين إذا ما وضعنا في الحسبان أن هناك عملية انتخابات ستعقب عملية الاستفتاء. ولدى هذا الفريق أيضاً نقاط قوة وضعف، حيث يشكل التقارب بين مجلس النواب ومجلس الدولة نقطة قوة وفق الاتفاق السياسي. كذلك من صلاحيات البرلمان تغيير الحكومة بإجراءات معينة منها تصويت 120 نائباً، وهو ما لم يحدث، وهى نقطة تجاوزها البرلمان بوضع 13 شرطاً للحكومة الجديدة التي تطلب تزكية 25 نائباً، والأرجح سيكون التصويت بأغلبية الحضور في 8 فبراير وإن كان هناك احتمال لغياب عدد من النواب المؤيدين لحكومة الدبيبة. لكن نقطة الضعف الجوهرية ستظهر في محدودية الحركة في ظل وجود حكومة في طرابلس لن تسلم السلطة، وغياب الدعم الاقتصادي على ضوء مساندة المصرف المركزي لحكومة الدبيبة، وغياب التوافق السياسي في ظل الانقسام، وهو ما يعكس وجود العديد من الإشكاليات والتداعيات المحتملة في ضوء هذا التطور.

تحديات عديدة

إن أقرب التداعيات المحتملة بعد 8 فبراير هو العودة إلى حالة الانقسام السياسي مرة أخرى، بوجود أكثر من حكومة كل منها تعتقد أنها تمتلك مشروعية. فالحكومة الجديدة تمتلك مشروعية البرلمان الذي سيشكلها، وتؤكد على انتهاء صلاحية حكومة تصريف الأعمال باعتبارها فشلت في تنفيذ بنود خريطة الطريق والوصول إلى الانتخابات وبالتالي فقدت صلاحياتها بعد تاريخ 24 ديسمبر. أما حكومة تصريف الأعمال فلديها أسانيد أخرى بأنها ليست المسئولة عن التعثر ولم يتم إعلانها باعتبارها "القوة القاهرة" التي أعاقت الانتخابات، وهي اعتبارات شكلية لا تمثل أكثر من مبررات. لكن في حقيقة الأمر، فإن جوهر ما ستستند عليه كل حكومة هو ميزان القوى الذي يتشكل من مفردات واضحة، هى رئاسات الأركان العسكرية في الشرق والغرب، إلى جانب المصرف المركزي، وهو أيضاً يتجه إلى دعم الدبيبة.

كذلك هناك نقطة أخرى، وهى أن مقترح تحويل سرت لعاصمة إدارية للحكومة الجديدة ربما أيضاً سيشكل نقطة ضعف بالنسبة للحكومة الجديدة. صحيح أنه سيجنبها الصدام مع الفصائل المسلحة في الغرب، لكن ما هى مقوماتها، وكيف ستحصل على موازنة اقتصادية. كذلك هناك المؤسسة الوطنية للنفط التي لا يعتقد أنها ستتبنى نهجاً مختلفاً. وهناك أيضاً إشكال في مصير المجلس الرئاسي، الذي تم انتخابه في ملتقى جنيف على قائمة واحدة مع رئاسة الحكومة، وبالتبعية ما هى مشروعية كافة الكيانات السياسية بلا استثناء، كمجلسى النواب والدولة، ففي حال تمديد العملية السياسية، فإن عمر البرلمان الحالي سيصل إلى 10 سنوات تقريباً، والأعلى للدولة يتجاوز هذه المدة، وتشير المستشارة الأممية ستيفاني وليامز في هذا الصدد إلى مسألة فقدان صلاحية كافة الكيانات السياسية بانتهاء صلاحية خريطة الطريق التي تنتهي في يونيو 2022.

أما خارجياً، فلا تزال كافة الأطراف المنخرطة في الملف الليبي تتعامل بمنطق رد الفعل مع التطورات الراهنة، باستثناء التأكيد على عدم إهدار فرصة الزخم الانتخابي. فقط أشار المبعوث والسفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند إلى معارضة إقالة حكومة الدبيبة، على اعتبار أن تشكيل حكومة جديدة ليس أولوية وإنما الأولوية هى إجراء الانتخابات، والتحدي الأكبر في السياق هو وضع البعثة الأممية المربك والمرتبك في الوقت ذاته، فقد أربكت البعثة مسار العملية الانتقالية من الخطوة التي أقدم عليها يان كوبيتش الذي استقال قبل أسابيع من موعد الانتخابات، دون إبداء مبررات كافية، لكن يعتقد أنه اصطدم عملياً بالقوة القاهرة التي تأكد معها أنه لن تكون هناك انتخابات، وتأكدت المؤشرات عندما أعلن سيف الإسلام القذافي عن ترشحة في الانتخابات بدعم روسي، وعندما ترشح الدبيبة الذي لم يكن يحق له الترشح وفق اتفاق جنيف، ثم جاءت مرحلة الارتباك مع عودة وليامز التي لم تتمكن من إنقاذ مسار العملية السياسية، كما أضعفها أيضاً الموقف الروسي، الذي لم تتمكن من تفاديه، وهو ما تأكد في جلسة مجلس الأمن (31 يناير 2022) مع رفض موسكو قبول ترشيحها كمبعوث أممي بشكل رسمي، ثم التمديد المحدود للبعثة لأربعة أشهر فقط.

مسار ضبابي

تعكس دلالات هذه التطورات غياب الرغبة في إجراء الانتخابات في المدى المنظور، وأن هناك تعاطياً من جانب كافة الأطراف بلا استثناء مع الوضع الراهن الذي يحقق مصلحة للجميع، فتمديد مرحلة الانتقال السياسي لا يعد تمديداً لمنح فرصة لتصحيح مسار سياسي متعثر، بقدر ما هو فرصة لتمديد عمر المؤسسات القائمة، وبالتبعية إعادة تشكيل موازين القوى في ضوء الاصطفافات الجديدة، وتبدل التحالفات، فالمرشحون لرئاسة الحكومة الجديدة (فتحي باشأغا–أحد معيتيق) كانوا بالأمس مرشحين للانتخابات الرئاسية، ويؤكدون على أهمية الانتقال إلى مرحلة الاستقرار السياسي، والآن هم مرشحون للحكومة الجديدة وكل منهم سيعرض برنامجه للحكومة والفترة الانتقالية الجديدة، وهو سياق كاشف عن إشكالية جوهرية هى إشكالية النخبه السياسية التي يعاد تدويرها من مرحلة لأخرى، وفقاً لطبيعة التطورات السياسية وتغير المصالح، وتموضع المؤسسات، وتبدل التحالفات. في السياق ذاته، تعكس خبرات الانتقال السياسي المتكررة في ليبيا أن البدايات لا يشترط أن تؤدي إلى النهايات المتوقعة، وإنما تؤدي إلى استدارة سياسية تعيد تشكيل النخبة والمؤسسات مرة أخرى. وبالتالي فإن أفضل ما يمكن الطموح إليه في المرحلة المقبلة هو تجنب خروج مظاهر التوتر الأمني عن السيطرة في ظل مؤشرات التحشيد المسلح في طرابلس.

على هذا النحو، ستدخل عملية الانتقال السياسي في ليبيا في مسار ضبابي، ففي ضوء التطورات السياسية الراهنة وتداعياتها المحتملة، لا يمكن الثقة في العملية السياسية بشكل عام، وستظل هذه العملية هشة إلى حد كبير، وسيفرض المسار الانتقالي التالي واقعاً جديداً لا يزال من الصعوبة بمكان التنبؤ بما سيفرزه في النهاية.