د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

 

جاء الرد الأمريكي "المكتوب" على المطالب الأمنية التي قدمتها روسيا لنزع فتيل الأزمة الأوكرانية، مخيباً لآمال الأخيرة. وينذر هذا الرد، الذي وصفه الروس بأنه استمرار للسياسات "العدائية" من جانب واشنطن، بارتفاع حدة المواجهة والتصعيد بين موسكو والعواصم الغربية الكبرى، خلال الفترة القصيرة القادمة، رغم كل المساعي الدبلوماسية التي تم بذلها مؤخراً في جنيف وبروكسل وفيينا وباريس، لاستعادة الهدوء والاستقرار في القارة الأوروبية، بعدقيام الروس، في صيف العام الماضي، بنشر أكثر من 120 ألف جندي بالقرب من حدودهم مع أوكرانيا.

ففي 26 يناير الجاري (2022)، سلّم السفير الأمريكي في موسكو جون سالفيان، ردّ بلاده على مشروع معاهدة ثنائية، من جانب الكرملين، حول الضمانات الأمنية المرغوبة روسياً لخفض التصعيد على الحدود الأوكرانية، حسب ما أعلنت وزارة الخارجية الروسية. وأكد زير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بعد تسليم الرسالة إلى موسكو، أن واشنطن في رسالتها للحكومة الروسية حددت "مبادئ جوهرية" في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، تشمل "سيادة أوكرانيا، وسلامة أراضيها، وحقّ الدول في اختيار الترتيبات الأمنية والتحالفات الخاصة بها". وبذلك، كشفت الإدارة الأمريكية عن أنها لن تنصاع للمطالب الروسية بمنع عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مشيرة إلى أنها تتمسك بـ"سياسة الباب المفتوح" التي يتبعها الناتو، والتي تتيح العضوية لأي دولة مؤهلة للانضمام إلى الحلف، مع رفض تمتع أي طرف خارجي بحق النقض على طلب مثل هذه العضوية. ومن جهته، وفي نفس اليوم، حذر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في خطاب أمام مجلس النواب الورسي، من أن موسكو ستتخذ "كل الإجراءات اللازمة"، إذا واصل الغرب "سياسته العدوانية"، مؤكداً على أن موسكو لا تريد إطالة أمد المحادثات بشأن أوكرانيا.

رفض المطالب الأمنية الروسية

الرد الأمريكي الأخير يعني عدم الاستجابة لمطالب موسكو الأمنية لخفض التصعيد وتحقيق أمن القارة الأوروبية بأكملها. وكانت موسكو قد قدمت إلى الجانب الأمريكي عدة طلبات في هذا السياق، منها على سبيل المثال: عدم السماح لأوكرانيا بالانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والعودة إلى أوضاع عام 1997، بما في ذلك انسحاب القوات التابعة للحلف من منطقة أوروبا الشرقية (وخاصة من بلغاريا ورومانيا)، وهي المنطقة التي تعتبرها موسكو "منطقة نفوذ خاصة بها"، وسحب القوات النووية الأمريكية من القارة الأوروبية.

ويأتي رفض إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمطالب الأمنية الروسية في ضوء اعتقادها بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقد العزم على تحدي نظام ما بعدالحرب الباردة، من خلال محاولة فرض نفوذه في أوكرانيا، وباقي دول شرق أوروبا، وهو في ذلك يستغل انسحاب واشنطن من أفغانستان، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة في واشنطن، مراهناً على عدم قيام الإدارة الحالية بفعل أي شئ، حال إذا ما قام بغزو اوكرانيا، مثلما حدث عندما ضم شبه جزيرة القرم في 2014.

 وفي هذا السياق، أكدت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان، في 26 يناير الجاري، على أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تعتقد أن الرئيس الروسي يعتزم استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا "ربما (بين) الآن ومنتصف فبراير 2022، على الرغم من التحركات الدبلوماسية الرامية لمنع ذلك".

إجراءات اقتصادية وأمنية

ومن أجل ردع روسيا عن القيام بغزو عسكري لأوكرانيا، كانت الولايات المتحدة قد كثفت، في الأيام الأخيرة، من تهديداتها بعقوبات اقتصادية قاسية على موسكو، في حال هاجمت روسيا جارتها الموالية للغرب، وذهبت واشنطن أبعد من ذلك، لتعلن استعدادها لفرض عقوبات تستهدف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً. وسبق للكرملين الإشارة إلى أن أي عقوبات أمريكية تستهدف بوتين شخصياً ستمثل تجاوزاً للخط الأحمر، محذراً من أن هذه الخطوة ستؤدي إلى قطع العلاقات الثنائية. وفي هذا السياق، تشير وسائل الإعلام الأمريكية إلى أن إدارة بايدن تستعد لفرض مجموعة متنوعة من العقوبات الاقتصادية "الكاسحة" لكي "تعزز إلى الحد الأقصى الألم الذي سيشعر به الكرملين إذا غزت روسيا أوكرانيا"، ومن ضمن هذه العقوبات فرض قيود على الصادرات الروسية للخارج (في مقدمتها الغاز والبترول والأسلحة)، ومنع التحويلات المالية من أكبر ثلاثة بنوك في روسيا (وهي "سبيربانك"، و"في تي بي"، و"غازبرومبنك").

وبالتوازي مع ذلك، أكد وزير الخارجية الأمريكي على أن بلاده ستواصل إرسال "المساعدات الأمنية" إلى أوكرانيا خلال الأسابيع القادمة. وكانت واشنطن قد أرسلت أنظمة صواريخ مضادة للدروع بالإضافة إلى أسلحة خفيفة وذخائر إلى أوكرانيا العام الماضي. وقد أشار عدد من التحليلات أيضاً إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية عازمة على تطبيق خطة جديدة في أوكرانيا شبيهة بسيناريو "الجهاد" الأفغاني ضد الغزو السوفيتي (1979- 1989)، وذلك بهدف استنزاف موسكو. وتتضمن هذه الخطة تنظيم حركات تمرد وشن حرب عصابات وتقديم دعم لوجيستى بما فى ذلك الصواريخ المحمولة على الكتف (ستينجر)، والتى كانت قد كبدت القوات السوفيتية خسائر كبيرة في أفغانستان.

تأمين بدائل للغاز الروسي

وتحسباً لإمكانية توقف الغاز الروسي الذاهب إلى الأسواق الأوروبية في إطار العقوبات المحتملة على موسكو، ومن أجل طمأنة الأوروبيين بشأن احتياجاتهم من مصادر الغاز الطبيعي في ظل أزمة الطاقة المتفاقمة في القارة، أجرت الولايات المتحدة أيضاً محادثات مع الدول المصدرة للغاز الطبيعي، مثل مصر وقطر والجزائر وإسرائيل وغيرها، للمساعدة في زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى الحلفاء في أوروبا، لضمان "زيادة الغاز الطبيعي المتوفر أمام المشترين الأوروبيين". كذلك، أكدت واشنطن لألمانيا، أكبر مستورد أوروبي للغاز الروسي، على وجود دعم قوي لإمداداتها من الطاقة من مصدرين غير روس، وذلك في سبيل إقناع برلين بضرورة وقف المراحل الأخيرة من خط أنابيب "نورد ستريم 2"، وهو خط ضخم لأنابيب الغاز يمتد من روسيا إلى ألمانيا، وتبلغ قيمته 1.35 مليار دولار، في حال غزو روسيا لأوكرانيا.

وعلى أية حال، يمكن القول إن التجاهل الأمريكي الأخير للمطالب الأمنية الروسية سوف يؤدي إلى استمرار "اللعبة الخطرة" بين واشنطن وموسكو، وهو الأمر الذي يبرز بوضوح في مواصلة روسيا حشد قواتها على جميع جوانب الحدود الأوكرانية، بما في ذلك عمليات انتشار جديدة كبيرة في بيلاروسيا، وتقديم مساعدات عسكرية إضافية للانفصاليين المدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا.كما يتضح أيضاً هذا الأمر في عزم واشنطن على استمرار دعمها العسكري والاستخباراتي لأوكرانيا، في محاولة لرفع الأكلاف على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذا قرر غزو جارته السوفييتية السابقة. ومما يزيد من خطورة اللعبة، إعلان مسئولي حلف الناتو أن الحلف سينشر، حال غزو روسيا لأوكرانيا، مزيداً من القوات في دوله في شرق أوروبا، وهي على الأرجح دول البلطيق الثلاث ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا إضافة إلى بولندا، وهو آخر شيء يريده الرئيس بوتين الذي كان يرغب في خفض أو إزالة الوجود العسكري الغربي في هذه الدول.

ومن جهة أخرى، أعلنت الولايات المتحدة أيضاً، في الأسبوع الماضي، عن إجراء مناورات عسكرية بحرية واسعة النطاق لحلف الناتو في البحر المتوسط، بمشاركة من حاملة الطائرات "يو أس أس هاري ترومان". وجاء هذا الإعلان بعد يوم واحد من إعلان روسيا، في 25 يناير الجاري، عن إجراء مناورات بحرية شاملة، بمشاركة أكثر من 140 سفينة حربية، وحوالي 10 آلاف جندي خلال شهري يناير الجاري وفبراير القادم في مياه المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي والمحيط الهادي والبحر المتوسط.

وفي الختام، تبدو الكرة الآن في ملعب واشنطن، وليس في ملاعب موسكو أو العواصم الغربية الأخرى، لإنهاء "اللعبة الخطرة" في الأزمة الأوكرانية، من خلال تقديم "ضمانات أمنية مكتوبة" لتهدئة المخاوف الروسية "المشروعة" بشأن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي والأطلسي في أوكرانيا وعلى حدودها. فمن الواضح أن الرئيس الروسي "لا يزال غير راغب في حرب شاملة" في أوكرانيا لأنها ستؤدي إلى "عواقب اقتصادية وخيمة وقاسية". كما يبدو أيضاً أن هناك إدراكاً جيداً من جانب معظم دول الناتو بأن عضوية أوكرانيا في الحلف مستحيلة، في ضوء عدم استعدادها لتصعيد التوتر مع روسيا من أجل أوكرانيا، خاصة أنها ترتبط بالعديد من المصالح الاستراتيجية مع موسكو، في مقدمتها ضمان استمرار إمدادات الغاز الروسية، في ظل أزمة طاقة غير مسبوقة في القارة الأوروبية. ومع ذلك، ليس من المتوقع في المدى المنظور أن تقوم واشنطن بوقف اللعبة الخطرة في الأزمة الأوكرانية لأنها تبدو راغبة في توجيه رسالة حازمة إلى موسكو، مفادها أن عصر مناطق النفوذ قد انتهى.