د. أيمن السيد عبد الوهاب

نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

 

تطرح فكرة التقدم أو التطور معانى لكلمات ومرادفات دالة على مسار من التراكم الدافع لإحداث قفزات إلى الأمام، وهى السمة المرتبطة بالتقدم على غيرها من المرادفات القريبة فى المعنى الدلالى، والتى تثير بدورها العديد من التساؤلات، عن معنى التقدم، وارتباطه بمنتجات الثورات العلمية والصناعية والتكنولوجية، وانعكاسها على نمو الرشاده والعقلانية والتحرر كما قدمتها الحضارة الغربية الحداثية.

وينقلنا ذلك للتساؤل عن حدود ما تمثله التكنولوجيا من مقياس حقيقى للتقدم، إلى التساؤل عن علاقتها بالإنسان وإعمار الأرض وحدود انتقالها من كونها وسيلة وآلية، لكونها المسيطرة والحاكمة لمسارات الحياة والمعيشة، وما علاقة ذلك كله بالانسانية والحضارة، ومن الذى سيتحكم فى تلك التكنولوجيا ومساراتها وتوجيهها.

1ـ تساؤلات حاكمة

لقد فرض التقدم مع القفزات التكنولوجية الكبرى تغييرا كبيرا فى  أنماط الحياة البشرية، ونبدو حاليا أمام قفزة جديدة غير مسبوقة مع الثورة الصناعية الخامسة ومجتمع ما بعد المعلومات (أو المعرفة)، وما يطرحه الميتافيرس من أنماط جديدة لشكل العديد من العلاقات والتفاعلات، وعلاقة الإنسان والآلة  والحديث عن الإنسان الهجينى (دمج الذكاء الصناعى فى جسم الإنسان)، وهو ما يقودنا لتساؤل آخر حول غاية العلم؟ أو هدف من يسيطر على التكنولوجيا وحدود توظيفها لخدمة الإنسان وتحسين معيشته والمحافظة على إنسانيته، بل والتساؤل حول القدرة على المحافظة على التوازن البيئى وسلامة الأرض وسبل العيش فيها، أم إننا أمام نقلة جديدة من توحش الرأسمالية ذات تكلفة اجتماعية وحضارية كبيرة، تسعى من خلال التكنولوجيا والشركات التى تمتلكها لصياغة واقع جديد يعتمد على الذكاء الصناعى وتغيير أنماط الحياة الإنسانية والعلاقات بين البشر.

والسؤال هنا، هل هناك ضوابط حاكمة لمسار التقدم، من نوعية الأخلاق والقيم والقانون تكون قادرة على صياغة معادلة التقدم بطرفيها التقنى والروحانى، أم أن معايير الأرباح وفلسفة الشركات الكبرى  ستكون هى الحاكمة بعد أن تفككت كثير من الروابط التى حكمت العلاقة الوثيقة بين نهضة العلم وتحسين حياة الإنسان،  صحيح أن التقدم فى المجالات المختلفة يسير فى مسارات ويتراكم، وأنه لا يسير فى خطوط مستقيمة، ولكن ما طرحته الحضارة الغربية الرأسمالية من تأثيرات ثقافية وأنماط معيشية واستعلاء حضارى، أخذ يثير الكثير من المخاوف على الإنسانية ومستقبل هذا المسار من التقدم وعلاقته بمستقبل البشرية، والخصوصية من منظور الهوية والذات الحضارية، لاسيما مع تزايد فجوة الواقع القيمى والأخلاقى والثقافى وما يطرحه من تناقض بين منظور افتراضى يتعلق بالقيم الأخلاقية المطلقة والحاكمة، وواقع يحمل قيم لمجتمعات تتسم بالنسبية والفجوات والإدراك المتعددة، فضلا عما تطرحه الحضارة الغربية من تساؤلات داخلية حول مضامينها وإمكانيات مواجهة العديد من الاختلالات الفكرية والفلسفية والمجتمعية والحياتية.

تشير قضية التقدم عبر التاريخ وما صاحبها من بناء للتراث الانسانى الحضارى، إلى مراحل متعددة تتعلق بتطور الفكر الإنسانى نفسه وعلاقته بالتواصل المعرفى بين كافة الحضارات، الذى تم من خلال نقل اليونانيين عن المصريين وحضارات الشرق الهند والصين، ونقل الرومان والمسلمين عن اليونانيين، كما تشير عملية التواصل الحضارى إلى تأثيرات عصر النهضة والتنويرالأوروبى وامتداداتها الثقافية والقيمية وما أنتجته الحداثة وما بعد الحداثة من  إعلاء لقيم الفردية والذاتية والعقلانية وتأثيراتها المادية على المجتمعات ودرجة تجانسها وتماسكها، بل امتدت تلك التأثيرات مع الثورة التكنولوجية وعولمة القضايا الإنسانية إلى مساحة أعمق تتعلق بميكنة الإنسان وأنسنة الآلة وهو ما يثير التساؤل حول مستقبل الحضارة الإنسانية نفسها.

وهو ما يقودنا لأهمية المدخل القيمى والثقافى وعلاقته ببناء الإنسان والتطور الاجتماعى الذى شهدته الأمم والمجتمعات فى إطار السعى نحو مواكبة الفكر للاحتياجات المجتمعية وتفسير الواقع.

٢- التقدم والتكامل الحضاري

التراث الإنسانى الحضارى، يبدو مرآة عاكسة بوضوح على مدى الإسهام الفكرى وعلاقته بتطور المجتمعات ونهوضها، ومدى أهمية التواصل الثقافى والحضارى فى تعزيز وبقاء التراث الإنسانى.

كما أن المعرفة بهذا التراث  تشير بوضوح إلى الإسهام المشترك للشعوب والمجتمعات ومساحات التفاعل والتواصل الحضارى، وتعزز منظومة القيم والأخلاق الداعمة إلى الحوار والتقارب، والبعد عن تلك الأفكار المحفزة للتنافس والصراع ، أو تلك الساعية للتمييز وفرض نموذج حضارى واحد.

فالبحث عن السمات الحضارية المشتركة وركائزها وإسهاماتها فى صياغة حياة البشر، وتكامل دورها المعرفى والثقافى من شأنه أن يقودنا إلى حجم الإسهام المشترك فى بناء التراث الإنساني.

فالمجتمع الإنسانى بجوانبه المتعددة المتصارعة والمتعاونة حول القيم المادية والروحية، تشير بدورها إلى أهمية المكونات القيمية والثقافية والأخلاقية فى بناء الحضارات وانهيارها، من منظور رصيدها الإنسانى فى البناء والتعمير والنهوض وليس فى قدرتها على تغليب الأنماط الصراعية وتلك الداعية لتهميش الثقافات الأخرى.

٣- الإنسان والأبعاد الحضارية   

الحضارة الإنسانية تبدو محملة بالكثير من المخاطر والتهديدات لاستمرارها، بل أن النقاش الدائر حول مفهوم الإنسانية نفسها وطبيعتها، وما يتواكب معها من خطابات خاصة "بالبعديات" لتحمل بين جوانبها العديد من الأزمات المرتبطة بالفكر الإنسانى وتطوره، وهى قضية ليست بالحديثة ولكنها تتزايد إلحاحًا وقوة مع تزايد تأثير القيم المادية والنزاعات الفردية.

وهو ما يقودنا للوقوف على الدروس المستفادة من تناول القواسم المشتركة للحضارات التى سبق تناولها من منظور الواقع المعاصر، وملامح تميزهما ومدلولاتها التاريخية، للخروج من تأثيرات العولمة وما بعد الحداثة السلبية، إلى أهمية التأكيد على قضية الهوية والثقافة الحافظة لقيمة الإنسانية الحضارية، وتعزيز سبل إدارة التنوع الثقافى فى ظل ما يكتنف العالم المعاصر من تنازع وتآكل ثقافى أمام ما يعرف "بالهوية العولمية" أو "المواطن العالمي" أو "أجيال الألفية" أو "الجيل z" والتى من شأنها أن تحول التراث الإنسانى وميراثه إلى تاريخ منسى، يتآكل مع الزمن ويفقد بريقه وتأثيره على هوية المجتمعات، وأجيالها الحالية والقادمة.

ولا يعنى ذلك بالطبع أن نرفض المستقبل والتطور أو ندخل فى صدام مع الثقافات والهويات الأخرى، ولكن تدارس التاريخ والحضارات وتنامى الاعتزاز الوطنى من شأنه أن يساهم فى المحافظة على القيم الإنسانية المشتركة، ويساهم فى مواجهة تداعيات "ثقافة العولمة" ومرحلة  البعديات التى تحتاج الفكر الإنسانى الآن (ما بعد الدولة وما بعد الديمقراطية وما بعد المجتمعات، وما بعد الإنسان ....)، ويعزز من الشعور الوطنى والهوية الذاتية بدون تمييز أو تعالٍ، ويحد من مظاهر التهميش التى تجتاح العديد من الهويات والمجتمعات وخاصة النامية منها التى تعانى من العديد من مظاهر الخلل والضعف المجتمعى.

من هنا تأتى أهمية ومحورية التركيز على الأسس الحضارية المشتركة وتغليب المنظور الإنسانى والأخلاقى كمحفز على بناء المقوم الحضارى المشترك، وكسبيل لمواجهة ما يكتنف العالم المعاصر من موجات وتيارات فكرية دافعة للصدام الحضارى، وزيادة القدرة الجماعية على مواجهة العوامل المحفزة لتنامى موجات الإرهاب والتطرف والتعصب سواء الدينى أو اللادينى أو تلك الدعاية للانعزالية.

فما يكتنف العالم الآن من تنامى لمظاهر "مجتمع المخاطر العالمي" تحت تأثير اختلالات التوازن البيئى والتغيرات المناخية وتعامل الإنسان مع الطبيعة وتزايد مخاطر انتشار الأوبئة والأمراض الخطيرة المعدية. جميعًا عوامل دافعة لأهمية الاستفادة من خبرات التاريخ ودروسه، وما شهده من موجات نهوض وانهيار حضارات، والتعلم بما يفيد التعايش مع الواقع المعاصر وما يفرضه من متطلبات دافعة للتقدم الحضارى مع المحافظة على إنسانياتها، ويعزز التعايش فى مجتمع عالمى متعدد الثقافات.

واتساقًا مع أهمية زيادة المكون الثقافى والمعرفى، من هذا المنطلق تسعى أحوال مصرية فى هذا العدد، لطرح تساؤل رئيسى حول معنى التقدم، وما إذا كان التقدم الغربى وفقا لمساراته الكلية تمثل خريطة طريق، وهل يمكن استعادة عمقنا الحضارى من خلال الاقتداء بما يمكن تسميته النموذج الغربى للتقدم أو حتى النموذج الآسيوى الصاعد، وكيف يمكن المساهمة فى التقدم مع المحافظة على هويتنا وخصوصيتنا وذاتنا. وبالتالى ليس المستهدف الوقوف على مسارات وحقائق ومرتكزات التقدم أو النهوض أو حتى استكشاف مسببات التأخر، ولكن المأمول من هذا العدد فتح نقاش عميق حول قضية التقدم من منظور المأزق الحضارى العربى والإسلامى، وموقعنا كمصر وكدول نامية من مسارات التقدم والقفزات التكنولوجية التى ولدتها الثورة الصناعية الرابعة "والخامسة المتوقعة"، من تساؤلات يفرضها المستقبل ببصماته الكبرى على شكل الدول والمجتمعات والهويات، ويطرحها النموذج الغربى، وربما النموذج الآسيوى بقيادة الصين والهند.

وحدود امتلاكنا لرؤية خاصة بالتقدم ومساراته، مع قدرتنا على المحافظة على عمقنا الحضارى والثقافى المصرى وخصوصيتنا وهويتنا كمرتكز وجناح ثان داعم للجناح الأول الخاص بالعلم والمعرفة والتكنولوجيا حتى يمكن أن تحلق الدولة المصرية والمجتمع بقوة على طريق التقدم والمستقبل. وهنا يمكن التأكيد على محددين أساسيين، الأول يتعلق بشمولية التقدم والنهوض بحيث تشمل الدولة والمجتمع والإنسان، وتجمع بين العلم والمعرفة والصناعة والتكنولوجيا من جانب، والفن والإبداع والثقافة من جانب ثان، وتعميق المنظور القيمى والأخلاقى من جانب ثالث، فضلا عن تعميم تلك المعارف فى المدن والقرى.

أما المحدد الثانى فيرتبط بمرجعية التقدم والتى تحكم مساراته وقدرتنا على الأخذ بمسارات وحقائق ومرتكزات التقدم، بدون أن نفقد روحنا وهويتنا وأن تكون مرجعيتنا الثقافية والدينية والأخلاقية مرتكزا حاكما لهذا التقدم وحكام له. بمعنى أدق أن يكون لنا حلم للتقدم من خلال تجربتنا الخاصة وعمقنا الحضارى.