د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

 

بعثت جولة رئيس كوريا الجنوبية مون جاي-إن في منطقة الشرق الأوسط في الفترة من 15 إلى 21 يناير 2022، والتي زار خلالها كلاً من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، حيوية جديدة في الشراكات الاقتصادية والأمنية التي تربط سول بعواصم هذه الدول، خاصة وأن لقاءات الرئيس الكوري مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الإماراتي حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، كشفت عن أن سول عازمة على لعب دور اقتصادي وعسكري أكبر في المنطقة، وهو الأمر الذي قد يجعلها في المستقبل أحد كبار اللاعبين في المنطقة، إلى جانب اللاعبين الخارجيين التقليديين (مثل الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي)، واللاعبين الخارجيين الجدد (مثل الصين واليابان).

الرئيس الكوري أكد، خلال لقاءاته مع زعماء الدول الثلاث، على أن بلاده تسعى إلى تجاوز الإطار الضيق للمصالح الاقتصادية، القائمة على استيراد النفط والغاز وفتح الأسواق أمام الشركات الكورية للدخول في مجالات التكنولوجيا المتقدمة كالهيدروجين الأخضر والأزرق، والسيارات والهواتف المحمولة والالكترونيات وغيرها، في اتجاه تقديم سول لمساهمات ملموسة وكبيرة في تأسيس أمن إقليمي جديد في منطقة الشرق الأوسط، ودمج دولها كمشاركين فاعلين في الاقتصاد العالمي.

 وقد برز ذلك بوضوح في نجاح زيارة الرئيس مون للدول الثلاث في إبرام عدد من الاتفاقات المهمة في مجالات أنظمة الدفاع الجوي (صواريخ أرض-جو متوسطة المدى المعروفة باسم "أم-سام")، والتصنيع العسكري، وبث الحيوية في مفاوضات اتفاقات إقامة منطقة للتجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، والبدء في دراسة تدشين مفاوضات لإقامة منطقة مماثلة مع مصر، والتي حال توقيعها ستكون أول اتفاقية بين كوريا الجنوبية ودولة إفريقية.

وبالإضافة إلى ذلك، كانت زيارة الرئيس الكوري إلى مصر، والتي تعتبر الأولى من نوعها منذ 16 عاماً، مؤشراً أيضاً على المساعي الكورية الجديدة للعب دور إقليمي أكبر في المنطقة، خاصة وأنها جاءت في إطار الشراكة التعاونية الشاملة التي تربط الدولتين منذ مارس 2016، عندما قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيارة سول، والتي أعقبها لقاء الرئيسين المصري والكوري الجنوبي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 2018. كما جاءت هذه الزيارة بعد إعلان سول في عام 2021 اختيار مصر لتكون شريكاً استراتيجياً ذا أولوية في المساعدات الإنمائية الرسمية.

مصالح استراتيجية كبرى

الدول الثلاث، التي زارها الرئيس مون تعتبر، من وجهة نظر سول، من أهم الدول الصديقة لكوريا الجنوبية في الشرق الأوسط والعالم العربي، لما لها من أهمية استراتيجية كبيرة. إذ تلعب هذه الدول الثلاث دوراً رئيسياً في استقرار سلاسل إمداد الطاقة العالمية واللوجستيات البحرية، لتحكمها في الممرات البحرية الرئيسية كقناة السويس ومضيق هرمز. ويشار في هذا الصدد إلى أن سول تعتمد على دول مجلس التعاون الخليجي الست، وهي السعودية والإمارات والبحرين وقطر والكويت وسلطنة عمان، في تلبية حوالي 68 في المائة من احتياجاتها النفطية. كذلك، تمثل أسواق هذه الدول الثلاث أهمية كبيرة للشركات الكورية العملاقة في مجال السيارات والالكترونيات، والهواتف المحمولة، والإنشاءات، وغيرها.

وفي نفس الوقت، تتمتع كوريا الجنوبية بصورة ذهنية مشرقة في أذهان شعوب هذه الدول الثلاث، نتيجة وجود "تاريخ أبيض" لا يعكره أية خلافات سياسية أو صراعات عسكرية، فضلاً عن دور القوة الناعمة الكورية (ممثلة في الأفلام والمسلسلات والأغاني والمطاعم وغيرها) في تعزيز أواصر الصداقة والتعاون بين الجانبين. وفي هذا الإطار، على سبيل المثال، كشفت نتائج استطلاع للرأي العام جرى مؤخراً في مصر عن أن حوالي 86 في المائة من الذين أجرى عليهم الاستطلاع لديهم مشاعر إيجابية تجاه كوريا الجنوبية (66٪ إيجابية للغاية و26٪ إيجابية نوعاً ما)، وكانت الكلمات الرئيسية الأكثر استخداماً لوصف الكوريين من جانب المصريين هي: "الإبداع" و"النظام" و"الانضباط" و"النشاط"، و"الاجتهاد" و"الصدق" و"الانفتاح".

نتائج مهمة للجولة

الجولة التي قام بها الرئيس الكوري الجنوبي في الدول العربية الثلاث نجحت في التوصل إلى العديد من الاتفاقات المهمة. ففي مصر، تم الاتفاق على القيام بدراسة مشتركة حول جدوى الشراكة التجارية والاقتصادية بين البلدين، تمهيداً لإقامة منطقة تجارة حرة بين الدولتين. كما تم التوقيع على مذكرة تفاهم بشأن التعاون المالي بين الحكومة المصرية والصندوق الإنمائي الاقتصادي الكوري للأعوام 2022 ــ 2026، بقيمة مليار دولار. ووقعت أيضاً حكومتا الدولتين على "وثيقة ترتيبات" بشأن قرض من صندوق التعاون الكوري للتنمية الاقتصادية لمشروع تحديث سكك حديد مصر الأقصر، والسد العالي بقيمة 251 مليون دولار. كما كانت زيارة الرئيس الكوري للقاهرة أيضاً فرصة مناسبة لبحث التعاون في المشروعات التنموية الكبرى التي توليها الحكومة المصرية اهتماماً، مثل مشروعات قطارات الأنفاق وتحلية مياه البحر والبتروكيماويات، ووسائل المواصلات الصديقة للبيئة، كالسيارات الكهربائية والقطارات الهيدروجينية وتحويل قاطرات قناة السويس الجديدة للعمل بالغاز الطبيعي وغيرها. كما تم الاتفاق على مزيد من التعاون لمواجهة أزمة التغير المناخي العالمي، حيث تستضيف مصر مؤتمر (كوب 27) في نوفمبر 2022، وبحث إمكانات التصنيع العسكري لمدافع هاوتزر K-9 Thunder، والدبابات من طراز K-2.

وخلال زيارته للإمارات العربية المتحدة، تم الاتفاقبين الرئيس الكوري والقيادة الإماراتية على قيام أبوظبي باستيراد أنظمة صواريخ الدفاع الجوي الكورية الجنوبية شونجانج 2 Cheongung II، أو M-SAM2، لتصبح بذلك الإمارات الأولى التي تشغل هذا الصاروخ، بخلاف كوريا الجنوبية. وقد بلغت قيمة هذه الصفقة 3.3 مليار دولار، وهي أكبر صفقة في تاريخ صناعة الدفاع الكورية. واتفق الجانبان أيضاً على التعاون في البحث والتطوير المشترك لأنظمة الأسلحة والشراء المشترك وإنتاج أنظمة الأسلحة المطورة. وناقش مسئولو الدولتين أيضاً التعاون في مجالات الهيدروجين والفضاء والزراعة الصحراوية وتحلية مياه البحر، خاصة أن التقنيات الكورية في السيارات التي تعمل بالهيدروجين ومحطات التزويد بالهيدروجين وخلايا الوقود يمكن أن تخلق تآزراً مع الإمارات العربية المتحدة، التي لديها القدرة على إنتاج ما يسمى بالهيدروجين الأزرق.

وفي المملكة العربية السعودية، تم التوقيع على 14 اتفاقية أولية لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين في مجالات التصنيع والطاقة والصحة العامة وكذلك لتطوير الهيدروجين الأخضر. كما ناقش الرئيس الكوري وولي العهد السعودي أيضاً الصفقات المحتملة بشأن أنظمة الدفاع والأسلحة وكذلك مفاعلات الإندماج النووي الكورية. وأبلغ مون ولي العهد أنه يتوقع نتائج إيجابية من هذه المفاوضات، مشيراً إلى ثقته في أن كوريا الجنوبية ستصبح "الشريك الأمثل" لخطط المملكة العربية السعودية لبناء محطات الطاقة النووية. كما وقعت شركة دوسان للصناعات الثقيلة والإنشاءات اتفاقية مع الشركة العربية السعودية للاستثمار الصناعي وشركة أرامكو السعودية لبناء أكبر مصنع للحدادة في المملكة بحلول عام 2025، لإنتاج 60 ألف طن سنوياً من قطع غيار الآلات المستخدمة في مصانع البتروكيماويات والمعدات لبناء السفن والصناعات البحرية.

مستقبل مختلف

على أية حال، يمكن القول إن الجولة الأخيرة التي قام بها الرئيس الكوري في القاهرة وأبوظبي والرياض تكشف للمتابعين للسياسة الكورية الجنوبية في منطقة الشرق الأوسط حدوث تطور نوعي كبير في الأهداف والأطر المفاهيمية ووسائل تحقيق المصالح الوطنية لكوريا الجنوبية في هذه المنطقة. إذ يبدو أن سول أصبحت تسعى إلى توسيع أهدافها في المنطقة لتشمل تحقيق أهداف استراتيجية وعسكرية إلى جانب الأهداف الاقتصادية التقليدية، المتمثلة في تأمين واردات النفط والغاز وفتح الأسواق لشركاتها، وهو الأمر الذي يلقى قبولاً متزايداً من جانب زعماء المنطقة في ظل التحديات والتهديدات الأمنية والعسكرية المتنامية في المنطقة. فالكوريون الجنوبيون موجودون من خلال صفقات بيع الأسلحة والتصنيع العسكري لبعض منتجاتهم المتطورة، والمشاركة في إقامة محطات الطاقة النووية وتنشيط مفاوضات التوصل إلى اتفاقات لإقامة مناطق تجارية حرة، يبد أنهم عازمون على تدشين مرحلة جديدة تختلف جذرياً عن طبيعة العلاقات التي ربطت سول بعواصم منطقة الشرق الأوسط الملتهبة في الماضي، والتي كانت تقوم عن "النأي بالنفس" من التورط في الأوضاع السياسية والأمنية المعقدة فيها.

وفي هذا الإطار، من المتوقع أن يستمر الاعتماد على "دبلوماسية القمة" في تحقيق الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الدول الثلاث وبين كوريا الجنوبية، حتى بعد انتهاء فترة ولاية الرئيس الكوري الحالي في مايو 2022، لما يلعبه هذا النوع من الدبلوماسية في تأسيس الثقة وفتح الحوار البناء بين المسئولين. كذلك من المنتظر أن تلعب قنوات أخرى دوراً مهماً في تعزيز العلاقات الكورية الشرق أوسطية في المستقبل القريب، مثل المؤسسات متعددة الأطراف الرسمية (على غرار الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة المؤتمر الإسلامي) أو غير الرسمية (مثل منتدى كوريا - الشرق الأوسط للتعاون، والجمعية العربية الكورية)، ومجالس الأعمال، والمراكز الثقافية الكورية، ومراكز البحوث المتخصصة.