أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

يتغير المشهد العسكري في اليمن ميدانياً لصالح التحالف والقوات اليمنية. فللمرة الأولى منذ عملية "السهم الذهبي" لتحرير عدن عام 2015 يتم استعادة جبهات واسعة من المليشيا الحوثية كجبهة شبوة، والانتقال لتحرير المناطق المسيطر عليها في مأرب. ومع الوضع في الاعتبار وجود اختلاف كبير بين معركتى شبوة ومأرب، فإن عملية تحرير الأخيرة ستمثل "انتصاراً استراتيجياً" يعيد تموضع الحكومة الشرعية في معقلها الرئيسي، وهو الهدف من محصلة العمليات العسكرية الجارية حالياً على أكثر من جبهة. كما أن فائض هذه الانتصارات - في حال استكمالها – سيشكل عامل ضغط على المليشيا الحوثية للعودة إلى طاولة التفاوض مرة أخرى، وعلى أسس مختلفة في إطار تغير موازين القوى.

وفقاً لهذا التصور، يمكن القول إن المعركة الجارية حالياً في اليمن هى معركة الخطوط الحمراء. فالتحالف العربي يدفع باتجاه إعادة الحوثيين إلى حدود اتفاق ستوكهولم (ديسمبر 2018)، أى قبل أن ينتقل الحوثيون إلى مأرب التي تمثل الخط الأحمر بالنسبة للتحالف. ورغم انتقاد التحالف مؤخراً لدور القوى الدولية المنخرطة في الملف اليمني والأمم المتحدة بالتساهل مع الحوثيين إزاء انتهاك اتفاق ستوكهولم، لكن من المتصور أن التحالف في الأخير يسعى إلى إعادة الاتفاق إلى الواجهة ودفع أطرافه للالتزام بمقرراته.

وفي المقابل، فإن المليشيا الحوثية منخرطة في المعركة في الشرق، لكن تركيزها الرئيسي على الساحل الغربي، والحديدة تحديداً التي تمثل لها الخط الأحمر. دلالة ذلك عملية قرصنة السفينة الإماراتية "روابي" بالإضافة إلى التلويح بإغلاق البحر الأحمر بدعم إيراني. فاستراتيجياً، تمثل الحديدة البوابة الرئيسية للحوثيين على العالم الخارجي واستعادتها من جانب التحالف والقوات اليمنية تعني حصار المشروع الحوثي بالكامل في اليمن.

حسابات مختلفة

تعكس حسابات الخطوط الحمراء للتحالف على هذا النحو إدراكه لقدرات وإمكانيات القوات اليمنية على الأرض، وحساباتها في الوقت ذاته، مع الوضع في الاعتبار من الناحية العملية أن "قوات متعددة" تخوض تلك المعارك، وليس "قوات مشتركة" أو جيش بالمعني المؤسسي أو الاحترافي، بل على العكس، هناك مكونات عسكرية داخل الشرعية لم يكن من مصلحتها مطلقاً أن تتمكن قوات "العمالقة الجنوبية" من حسم معركة شبوة، وهى قوات "الإصلاح"، والتي غالباً ما تلفت العديد من التقديرات إلى أن هذا المكون لديه حسابات سياسية مختلفة. لكن في واقع الأمر، أثبتت التجربة الميدانية خطأ هذه التقديرات. فقد كشفت معركة شبوة عن ضعف مؤهلاتها ومحدودية إمكانياتها العسكرية، خاصة وأنها كانت تتولى مواقع القيادة قبل إزاحتها وتمكين "العمالقة الجنوبية" من القيادة.

في معركة مأرب، ربما ستختلف الأوضاع في ضوء حسابات خريطة انتشار القوات المشتركة فيها، والتي أطلقت عملية "تحرير اليمن السعيد". ورغم أنه مصطلح ينم عن تفاؤل كبير يتجاوز حدود قدرات تلك القوات، لكنه يعكس ضمنياً تنامي دور القوت "الحكومية" في معركة مأرب إلى حد كبير، وبالتالي فمن الطبيعي ألا تطلق عملية لتحرير مأرب فقط. لكن بغض النظر عن هذه السياقات السياسية والدعائية، فإن دور "العمالقة الجنوبية" حتى الآن، وفق مؤشرات التحرك الميداني، هو "الفتح الاستراتيجي" لمعركة تحرير مأرب من الجنوب، من خلال عملية تطهير قطاعي متدرج يبدأ بتحرير جبهة حريب، مُعززاً بضربات التحالف على محافظة البيضاء لاستنزاف المليشيا الحوثية، وقطع الإمداد من الخطوط الخلفية في البيضاء إلى الخطوط الأمامية في مأرب بالتوازي مع ضربات جوية للتحالف على مدار الساعة. وعليه، فمحصلة كل هذه التحركات هى قيام التحالف و"العمالقة الجنوبية" بعملية إسناد استراتيجي للقوات الحكومية في مأرب لإنهاء المهمة التي تأخرت وتعثرت فيها لأكثر من عام منذ بدأ الحوثيون التحرك باتجاه مأرب.

سيناريو ما بعد مأرب

على الجانب الآخر، ستشكل استعادة مأرب "الانتصار الاستراتيجي" الأكبر كما سلفت الإشارة. لكن أى تمدد تالٍ خارج هذه المساحة سيكون له حسابات مختلفة، في ظل الحاجة إلى إعادة تأمين المناطق المحررة، ومعالجة الاختلالات ونقاط الضعف التي مكنت المليشيا الحوثية من السيطرة على مساحات شاسعة من مناطق نفوذ الشرعية. كذلك تعكس العمليات الجوية للتحالف أنه ليس هناك مجال حالياً لتحرير البيضاء بقدر الرهان على إضعاف الحوثيين فيها، وهو تخطيط موضوعي ينسجم والأهداف الرئيسية من المعركة بتوفير كافة الجهود لتحرير مأرب أولاً. فإلى جانب إطلاق عملية حريب، يتعين على القوات المدعومة من التحالف التحرك باتجاه تحرير المداخل الشرقية والشمالية لمحافظة مأرب، وهى عملية ليست سهلة وربما في حال استمرت التحركات على الأرض بالكيفية الحالية فستحتاج ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر لإتمامها.

وستتحدد الخطوة التالية للتحالف بناءً على مواقف وتحركات الحوثيين. إذ أن تراجع المليشيا على الجبهة الشرقية، بالنظر للخسائر الكبيرة التي تتعرض لها عسكرياً هناك، بالإضافة إلى هامش الخسائر الأخرى في ظل ظهور مجموعات تمرد ضد المليشيا في عمران وصعدة، قد يكون ظاهرة مرشحة للتنامي مع استغلال وضع الانشغال الحوثي على الجبهات الأخرى، يضاف إليها أيضاً متغير التحالفات القبلية لصالح التحالف والشرعية. وعليه فالمتصور أن المليشيا الحوثية ستتجه أكثر إلى التركيز على جبهة الساحل الغربي، لعدة أسباب من أبرزها عدم الانخراط في معركة كبرى في البيضاء تمهد لزعزعة سيطرتها على العاصمة صنعاء مباشرة، خاصة وأن البيضاء لديها مخزون بشري كبير للمقاومة ضد الحوثيين، في حال أطلقت معركة جدية لتحريرها. والسبب الآخر هو التحرك الاستباقي استعداداً لمعركة العودة إلى طاولة التفاوض على أرضية اتفاق ستوكهولم.

الحرب والتسوية

في السياق ذاته، من مصلحة التحالف العربي والقوات اليمنية الحفاظ على المكاسب الاستراتيجية، التي تحققت بناءً على تحرير شبوة، واستكمالها لتحرير باقي مناطق الشرعية، وعدم التمدد بما يتجاوز قدرات القوات التي تقوم بعملية التحرير. كذلك سيتعين على التحالف السيطرة على موازين القوة في الساحل الغربي، انطلاقاً من تجربة ما بعد ستوكهولم، حيث لم تكن القوات المشتركة قادرة على فرض السيطرة وفقاً لخطوط الانتشار التي رسمها الاتفاق، وبالتالي تمددت المليشيا بلا حساب نظراً لميل ميزان القوة لصالحها، على الرغم من أن قوات "العمالقة" كادت أن تلحق بها الهزيمة قبل توقيع الاتفاق، وهو مؤشر آخر يفترض أن تستوعبه أطراف ستوكهولم. فقبل العودة للاتفاق، يتطلب الأمر وضع هذه المعايير في الحسابات. صحيح أن كافة الأطراف تسعى إلى الوصول لعتبة وقف إطلاق النار، لكن الدروس المستفادة من المعارك في اليمن، بل وفي كافة مناطق الصراع في الإقليم، تشير إلى أن تأمين عملية وقف إطلاق النار يتطلب الوضع في الحسبان أين توقف الصراع، وحدود موازين القوى، فإن لم يكن هناك تعادل في ميزان القوى يجعل من كل طرف يراهن على حماية مكتسباته، فهناك طرف آخر سيرى أن أى اتفاق هو مجرد استراحة محارب لإعادة بناء اصطفافاته وتعزيز قدراته وإطلاق المعركة من جديد.

هناك أيضاً تغير في المزاج الدولي والإقليمي لدعم عمليات التحالف العربي ضد الحوثيين. ربما هناك إسناد لوجستي في استهداف مخازن السلاح في العاصمة، وقدرات اعتراض الصواريخ والطائرات من دون طيار على الجبهة السعودية. لكن الفيصل الرئيسي في أى دعم دولي يتوقف على الأولويات الاستراتيجية. فالتهديد الحوثي بإغلاق الملاحة في البحر الأحمر بدعم إيراني يتطلب منظوراً مختلفاً لطبيعة الإسناد الحالي في البحر الأحمر، فلا يمكن التهوين من شأن هذا الخطر، لاسيما مع عملية قرصنة السفينة "روابي". ومن اللافت للنظر في هذا السياق، أن الخطاب الأممي والتحركات الدولية ذات الصلة لم تواكب حتى الآن التطورات الميدانية، وهو ما يتضح من تفاصيل الإفادة الأخيرة للمبعوث الأممي إلى اليمن أمام مجلس الأمن، والتي بدت تقريرية إلى حد كبير، ولم تعكس متغيراً فارقاً في رؤية البعثة لمحددات التعامل والحركة تجاه الأزمة اليمنية. يضاف إلى ذلك أن هناك انكشافاً لدور الأمم المتحدة في الحديدة. فالمليشيا الحوثية زعمت أن "روابي" كانت تحمل أسلحة، وهى مسألة من السهولة بمكان تزييفها طالما أن السفينة تحت يد المليشيا، لكنها في الوقت ذاته زعمت أيضاً أن الأمم المتحدة تمارس عملية التفتيش وهو أمر غير صحيح في حالة "روابي".

الأمر الآخر في السياق ذاته، أنه من الجائز القول أن المليشيا الحوثية قرصنت "روابي" التابعة لإحدى دول التحالف. لكن في الوقت نفسه هناك مسئولية تضامنية دولية تتعلق بتأمين حركة الملاحة بشكل عام في تلك المنطقة، وهناك ضعف في آليات المراقبة والتفتيش. صحيح أن هناك تسريبات متزامنة لتقرير خبراء الأمم المتحدة عن حجم الدور الإيراني في الدعم العسكري للحوثيين، لكن تقديرات الخبراء حول خطوط الحركة وطبيعة الإمدادات تمثل دلالة في الوقت ذاته على محدودية السيطرة على عمليات تهريب الأسلحة، الأمر الذي يتطلب إعادة تقييم هذا الوضع بشكل إجمالي، حيث لا يمكن الارتكان فقط على دور القيادة المركزية في تقويض هذه العمليات، ويتعين أن تكون هناك قيادة عمليات مشتركة من القوى صاحبة المصلحة في إنهاء الانفلات البحري في تلك المنطقة. يمكن على سبيل المثال النظر إلى العملية "ايريني" في البحر المتوسط للسيطرة على التهديدات الناجمة عن الأزمة الليبية. فرغم الدور الأمريكي، إلا أن القوى الأوروبية صاحبة المصلحة في إرساء ترتيبات أمنية في المتوسط شكلت هذه العملية بالإضافة إلى الدور الأمريكي، وربما دور "الناتو" حتى على المستوى اللوجستي وإن لم يكن معلناً.

الانعكاسات على الدور الإيراني

مرحلياً، يمكن الاستفادة من استثمار المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني في فيينا، والتي تهدف إلى استئناف العمل بالاتفاق النووي. فجهود التحالف العسكرية الحالية في اليمن حالياً تعكس اتجاه التأكيد على ضرورة إعادة ايران إلى حدودها الطبيعية، ووقف عملية التمدد الإقليمي والحد من آثار تدخلاتها في الدول العربية. وفى حال نجاح هذه التجربة في اليمن يمكن أن تشكل مدخلاً للتعامل مع باقي الحالات كالعراق وسوريا. فمن اللافت للانتباه التصعيد العسكري على تلك الجبهات، ويربط العديد من المراقبين التصعيد في العراق بالترتيبات السياسية في مرحلة ما بعد الانتخابات، لكن لا يمكن استبعاد فرضية أن إيران لا تزال مُصِرَّة على عدم الربط بين ملف التمدد الإقليمي والملف النووي، وهو ما يؤكده أكثر التحركات الايرانية على الساحة السورية واتجاهها للتمدد شرق الفرات، وبدرجة أخرى تأزيم الوضع السياسي في لبنان. ففي الأخير، هناك تحركات ميدانية تكشف عن رسائل سياسية من جانب إيران مفادها أنها لن تغير سياساتها الإقليمية، بينما يمكن استثمار فائض التحركات العسكرية المضادة في اليمن لتوجيه رسائل في الاتجاه المعاكس وبالتتابع من خلال تنشيط التحركات المضادة في العراق وسوريا.    

في النهاية، يمكن القول إن هناك رهاناً على تغير معادلة الصراع في اليمن. فلا يزال من المبكر القول أن هذه المعادلة حسمت، لكن هناك مؤشرات دالة على أنها على الطريق الصحيح، ومن الأهمية بمكان ترجمة الانتصارات العسكرية إلى معطيات استراتيجية تساهم في تسوية الأزمة اليمنية، وتقويض التهديدات التي تشكلت في ضوء السيطرة الحوثية على مساحة كبيرة من البلاد، وبالتبعية تقويض استفادة إيران من هذا الوضع، ونقل التهديدات من الخليج إلى البحر الأحمر. على الجانب الآخر، فإن العمليات العسكرية التي تقوم فيها قوات "العمالقة الجنوبية" بدور رئيسي كاشفة عن حجم التحديات السياسية والهيكلية في منظومة الشرعية، وتتطلب وقفة لتصحيح هذا المسار ومعالجة الاختلالات التي تسببت في إطالة أمد الأزمة وكادت تطيح بالشرعية بشكل نهائي.