تشهد تونس حالة من عدم الاستقرار السياسى الممتد، كشف عنها خروج المظاهرات والاحتجاجات الشعبية فى عدد واسع من المدن التونسية، لأسباب مختلفة، على مدار عام 2021، وذلك رغم اعتماد تونس الآليات الديمقراطية فى إدارة المشهد السياسى، خاصة العملية الانتخابية. إلا أن التوتر بين مكونات السلطة التنفيذية (رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة) من ناحية، والسلطة التنفيذية والتشريعية من ناحية أخرى، ظل قائمًا، إضافة إلى استمرار الاحتقان الاجتماعى، والاستقطاب السياسى، والتأزم الاقتصادى، وسوء إدارة الوضع الصحى على خلفية مجابهة أزمة كوفيد- 19، وعدم رضا الشارع عن الأوضاع السياسية الراهنة فى البلاد، الأمر الذى يعكس ما يطلق عليه فى الأدبيات متاهة التحول أو دراما الانتقال على مدى عقد كامل.

فى هذا السياق، جاءت التدابير الاستثنائية، التى أقرها الرئيس قيس سعيد فى 25 يوليو 2021، والتى تضمنت تجميد مجلس نواب الشعب التونسي (البرلمان)، وإقالة حكومة هشام المشيشى، التى مثلت إحدى المحطات المهمة فى مسيرة الجمهورية التونسية منذ عام 2011 عمومًا، وفى مستقبل النظام السياسى بشكل خاص، لاسيما مع تأكيد الرئيس قيس سعيد فى 10 مايو 2021 على أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومعلنًا رفضه توظيف بعض الأطراف -التى لم يُسمِّها- لأجهزة الدولة خدمةً لمصالحها. وقد تنوعت وتعددت محاور الصراع بين الرئيس وخصومه السياسيين بعد التدابير الاستثنائية، وما ترتب عليها من إجراءات مكملة، خاصة مع سعى حركة النهضة والتيارات الداعمة لها إلى توصيفها بــ«الانقلاب».

ولا تنفصل الإجراءات الاستثنائية فى جوهرها عن موجة عدم الاستقرار السياسى والاقتصادى والاجتماعى التى تفاقمت فى الداخل التونسى بسبب فشل الحكومات التونسية المتعاقبة فى تجاوز حدة الأزمة الاقتصادية، إضافة إلى ممارسات حركة النهضة، وتنامى الأنماط المختلفة من العنف السياسى بأشكاله المتعددة، فضلًا عن صراعات النخب، واختلال التوازن بين مؤسسة الرئاسة من جهة، والبرلمان والحكومة من جهة أخرى، إذ أن مخرجات دستور 2014، وتوزيعه مصادر القوة فى السلطة على رئاسيات ثلاث، أقلها صلاحية الرئيس، وفر لتيارات سياسية بعينها بيئة مواتية لتثبيت نفوذها، وبما يتوافق مع مصالحها الضيقة، وهو ما حمل تأثيرات سلبية على الانتقال السياسى فى تونس.

ورغم إطلاق تصريحات ومبادرات رئاسية لتجاوز الأزمة السياسية الحالية، فضلا عن مطالبات دولية، إلا أن فرص حل الأزمة السياسية لا تزال متعثرة لدواعٍ مختلفة، منها تصاعد الملفات الخلافية بين الأطراف المتنازعة على الساحة السياسية، واستمرار تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية، والاحتجاجات المطلبية الفئوية نتيجة حالة عدم الاستقرار، وتفاقم المشكلات الاجتماعية الداخلية، وعلى رأسها تدهور الأحوال المعيشية، وارتفاع معدلات البطالة والتضخم. ورغم تعيين الرئيس قيس سعيد فى نهاية سبتمبر 2021 حكومة جديدة برئاسة «نجلاء بودن» لإدارة الأوضاع السياسية والاقتصادية والصحية المتفاقمة فى البلاد؛ إلا أن القلق الدولى تجاه الانتقال السياسى فى تونس لا يزال قائمًا.

فى هذا السياق، فإن مصير الأزمة السياسية فى تونس، وحالة عدم الاستقرار التى تشهدها البلاد، يظلا مفتوحين على العديد من المسارات، فى الصدارة منها مضى الرئيس قدمًا فى العمل بالإجراءات الاستثنائية لحين ضبط بوصلة النظام السياسى، أو التراجع خطوة للخلف مع تصاعد الضغوط المحلية، وفتح باب الحوار مع القوى السياسية غير حركة النهضة. ويرتبط هذا السيناريو باستقرار كثافة الضغوط الخارجية على النظام، خاصة فى ظل تنامى دعوات دولية إلى ضرورة وضع خطة تشاركية لصياغة الإصلاحات السياسية الواجب تنفيذها، مع وضع خطة زمنية محددة لإنهاء الإجراءات الاستثنائية الحالية.

لكن يظل هذا السيناريو مرهونًا باستمرار الضغوط المحلية، التى تدعو إلى ضرورة تجاوز مرحلة التدابير الاستثنائية، وكذلك بناء حوار جاد بين مختلف القوى السياسية، خاصة أن ثمة قوى تونسية ناهضت دعوة الرئيس «سعيد» لإجراء حوار وطنى عبر استفتاءات شعبية بطريقة إلكترونية، وتعتبرها مجرد استشارة، وليست حوارًا وطنيًا. فى المقابل، فإن البلاد تبدو مرشحة لسيناريو الانفجار السياسى، حال استمرار الاستقطاب والتوترات السياسية والتدهور الاقتصادى، وهو ما قد يفتح الباب لسيناريو مغاير، هو دخول المؤسسة العسكرية على خط الأزمة منعا للوصول إلى هشاشة الدولة.