خلق استيلاء حركة طالبان على السلطة بالقوة فى أيام معدودة، بعد انسحاب القوات الأمريكية فى أفغانستان، صدمة فى العالم، خاصة فى العالم الغربى، أما منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، فقد كانت المخاوف أكبر، نظرًا للقرب الجغرافى من أفغانستان من ناحية، وانتشار أفرع تنظيمى التطرف الدينى العنيف المعولم (القاعدة - داعش) فى دول المنطقة من ناحية أخرى، ومن ثم ظهر عدد من الهواجس حول إمكانية تكرار "النموذج الطالبانى" بطريقة أو بأخرى فى دولة أخرى من المنطقة.
وبالنظر إلى حالة مالى تحديدًا، نرى أنها تواجه تحديات كبيرة ذات صلة بالاستقرار الأمنى منذ الاستقلال، علاوة على انتشار جماعات التطرف الدينى العنيف، خاصة جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، التى تهدد الاستقرار وتسيطر على مناطق فى شمال ووسط البلاد، تلك التهديدات التى انتقلت عبر الحدود لتطال كثيرًا من دول الجوار فى الساحل وغرب أفريقيا، والتى اتحدت بدورها فى إطار مجموعة دول الساحل الخمس (G5 du Sahel) لمكافحة الإرهاب من خلال الجهود المشتركة. ولكن يبدو أنها فشلت فى الحرب على الإرهاب، وهو ما قد يدفع بعضًا من حكومات هذه الدول اضطرارًا للتفاوض مع الجماعات الإرهابية، مثل مالى التى تحاول الانخراط فى عملية تفاوضية مع إياد أغ غالى، وأحمد كوفا قياديى جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" وحركة "ماسينا"، التى تهدد استقرار مناطق شمال ووسط مالى.
والسؤال الذى يطرح نفسه فى هذه المرحلة: هل يمكن أن تضع جماعات التطرف الدينى العنيف فى مالى استراتيجيات للاستيلاء على السلطة على غرار السيناريو الأفغاني؟خاصة أن هذه الجماعة قد حلت محل الحكومة فى جزء كبير من وسط وشمال مالى، فضلًا عن أنها اكتسبت ثقة لدى جزء من السكان فى بعض المناطق فى مالى، والنيجر، وبوركينا فاسو، أكثر من قوات جيوش تلك الدول.
نشأة حركة طالبان والجماعات الإرهابية فى الساحل
نشأت حركة طالبان بالأساس كحركة محلية فى إطار الصراع الأفغانى فى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب مع السوفيت، وتشكلت غالبيتها من قومية البشتون، وهم شباب أفغان تلقوا دراسة دينية متشددة فى المدارس الدينية الباكستانية[1]، ثم سعت الحركة للوصول إلى السلطة، وبعد صراع مع الجماعات الأفغانية المسلحة الأخرى، استولت على السلطة فى الفترة من (1996 -2001)، حتى دخول القوات الأمريكية واحتلال أفغانستان. وعلى مدار20 عامًا، ظلت حركة طالبان حركة مسلحة محلية، تستخدم العنف ضد القوات الأمريكية، والإرهاب ضد المدنيين وقوات الحكومة الأفغانية، ثم تم توقيع اتفاقية الدوحة فى 29 فبراير 2020 بين الولايات المتحدة وطالبان، لتنهى عقدين من الوجود العسكرى الأمريكى فى أفغانستان[2]، وتعود حركة طالبان للاستيلاء على السلطة مرة أخرى وتشكل حكومتها المؤقتة فى عام 2021.
فى المقابل، بدأت ظاهرة التطرف الدينى العنيف فى أفريقيا على يد تنظيم القاعدة. فهذا التنظيم فى بلاد المغرب الاسلامى، على سبيل المثال، كثيرًا ما كان له هدفان رئيسيان: الأول هو مواجهة الحكومات بهدف الإطاحة بها وتطبيق الشريعة الإسلامية، والثانى هو محاربة المصالح الغربية فى الساحل الأفريقى.
مع بداية ظهور تنظيمات التطرف الدينى العنيف فى دول الساحل وجنوب الصحراء، كان القوام الأهم لتلك التنظيمات على مستوى القيادات والأيديولوجية مستورد من الخارج، خاصة من دول شمال أفريقيا، حيث انتقلت الأفكار والتنظيمات من خلال (الأفغان العرب) العائدين إلى شمال أفريقيا، ومنها إلى دول غرب وشرق أفريقيا ودول الساحل. لكن، خلال الفترة الأخيرة، تحولت ظاهرة الإرهاب فى أفريقيا إلى ظاهرة محلية، بعد أن تم إدماج السكان المحليين فى الجماعات الإرهابية وقيامهم بالتكوين والتأسيس للتنظيمات الإرهابية. وشهدت الدول الأفريقية نشأة تنظيمات محلية تحمل شعارات وأفكار تنظيمات التطرف العنيف المعولم، سواء أعلنت المبايعة لأحد هذه التنظيمات، أو لم تعلن وظلت مستقلة، ومن ثم أصبح يمكن الحديث عن تنظيمات أفريقية متطرفة تنتهج العنف لأسباب محلية، وهو ما يتشابه -إلى حد ما- مع حالة حركة طالبان.
ومع التحول الذى أشرنا إليه نحو نشأة تنظيمات التطرف الدينى العنيف المحلية، إلا أن أهداف تلك التنظيمات ظلت تحمل ملامح من أيديولوجية التنظيمات الإرهابية، فضلا عن احتوائها على أعداد من المقاتلين الأجانب، وهو الأمر الذى ينطبق على جماعة إياد أغ غالى "نصرة الإسلام والمسلمين"، وجماعة أمادو كوفا "كتيبة ماسينا" فى مالى[3]. وعلى هذا الأساس، يتم تصنيف حركة طالبان ضمن حركات المقاومة / التمرد المحلية، فى حين تصنف جماعتا "نصرة الإسلام والمسلمين" و"ماسينا" باعتبارهما جماعات تطرف دينى، ووكلاء للإرهاب الدولي.
لا يزال مقاتلو "داعش" فى الصحراء الكبرى يقودهم مقاتلون أجانب، كان على رأسهم عبدالحكيم الصحراوى، المغربى (الذى قُتل فى مايو 2020)، وخلفه أجنبى آخر، وهو عدنان أبو وليد الصحراوى. وفى مالى، لا يزال المقاتلون الأجانب يسيطرون على المناصب القيادية فى التنظيمات الإرهابية. ومنذ عام 2017، تحالفت الجماعات الإرهابية فى مالى، وتم إنشاء جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، بالرغم من أن قيادة الجماعة للمالى إياد أغ غالى، فإن الإدارة المركزية ما زالت للجهاديين الأجانب من الشرق الأوسط[4].
مكافحة الإرهاب فى أفغانستان والساحل
حملت فرنسا لواء المواجهة العسكرية للتنظيمات الإرهابية فى الساحل عموما، ومالى على وجه الخصوص. ومنذ 2013، تقوم فرنسا بهجمات عسكرية وتصفيات مباشرة لقيادات تنظيمات التطرف الدينى العنيف فى المنطقة. وعلى مدار ثمانى سنوات من الحرب، يمكن القول إن الهدف من المواجهة العسكرية لم يؤت ثماره، بل امتد الإرهاب من شمال مالى إلى باقى دول المنطقة.
وقد أثارت العملية العسكرية الفرنسية الممتدة (برخان) فى مالى الكثير من الجدل حول قضايا الطاقة والمصالح الاقتصادية لفرنسا فى منطقة الساحل، حيث يرى المراقبون أنها السبب الوحيد لانخراط فرنسا فى الحرب، برغم تصريح الرئيس الفرنسى السابق، فرانسوا هولاند، الذى أكد منذ الأيام الأولى من التدخل الفرنسى، أن "فرنسا ليس لديها مصلحة فى مالى، وأنها لا تدافع عن أى حسابات اقتصادية أو سياسية"[5].
فى المقابل، وطوال عشرين عامًا من الوجود الأمريكى فى أفغانستان، تشكلت حكومات أفغانية متعاقبة، فضلا عن جيش نظامى حصل على دعم مالى وفنى وتسليح من الولايات المتحدة الأمريكية، لكن -فى المقابل- لم تقم تلك الحكومات أو الجيش النظامى الأفغانى بدور فعال فى مواجهة عنف وإرهاب حركة طالبان على مدار عقدين، إضافة إلى انسحاب الحكومة والجيش أمام تقدم طالبان، مما مكَّن الأخيرة من السيطرة على العاصمة كابول خلال أيام، وهو الأمر الذى يتكرر فى حالة مالى، حيث تعانى الحكومة من سوء إدارة ملف مواجهة الإرهاب، فضلا عن اتهامات بالفساد، والفشل فى السيطرة على سائر أقاليم الدولة.
فى ظل التكهنات المرتبطة بمرحلة ما بعد انسحاب القوات الفرنسية من المنطقة، تشير بعض التحليلات إلى أنه من الممكن أن تسير الأوضاع فى مالى مسارًا ممُاثلا لما جرى فى أفغانستان.
الانسحاب الأمريكى من أفغانستان مقابل الانسحاب الفرنسى من مالي
تمثل مالى حالة خاصة جدا، حيث تقع فى قلب منطقة الساحل الأفريقى، مما يجعل مسألة تكرار "النموذج الطالبانى"، بمعنى وصول جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" للمشاركة فى المشهد السياسى، أمرًا غير مقبول من دول الجوار، خاصة فى غرب وشمال أفريقيا، إلى جانب مخاطر وصول مثل هذه الجماعات إلى الحكم فى مالى، ومن ثم سيطرتها على مصادر الطاقة من النفط والغاز. من جهة أخرى، تمثل مشاركة مثل هذه الجماعات فى العمل السياسى فى دول المنطقة تهديدًا لمصالح فرنسا التى تمتلك حقوقًا خاصة فى استغلال المواد الخام ومصادر الطاقة فى المنطقة. وعلى هذا الأساس، كان الهدف الاستراتيجى لتدخل فرنسا فى مالى هو حماية المصالح الفرنسية فى منطقة الساحل وغرب أفريقيا على أساس أن فرنسا مقتنعة بتأثير "الدومينو" للجماعات الإرهابية؛ بمعنى أن نجاح سيطرة إحدى جماعات التطرف الدينى العنيف فى مالى سيعنى إمكانية تكراره فى دول أخرى فى منطقة الساحل. وفى هذا السياق، تبنت فرنسا موقفها الرافض من التفاوض الدائر بين حكومة مالى وجماعة "أنصار السنة والمسلمين".
عقب انعقاد قمة مع قادة مجموعة دول الساحل الخمس، فى يوليو 2021، أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أن بلاده ستبدأ بحلول نهاية العام سحب قواتها المنتشرة فى أقصى شمال مالى وتركيز جهودها جنوبًا بهدف مواجهة التهديدات الإرهابية الصاعدة من الجنوب. وفى ذلك التوقيت، أى قبيل سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول، كانت الخطة الفرنسية المُعلنة هى الانسحاب العسكرى وغلق قواعدها العسكرية فى منطقة الساحل بحلول عام 2022، وأن تستبدل بهذا الوجود أمرين: الأول، استمرار الحفاظ على المصالح الاقتصادية الفرنسية، من خلال مجموعة دول الساحل الخمس (G5 du Sahel)، والذى يعد إطارًا مؤسسيًا لتنسيق التعاون الإقليمى فى سياسات التنمية والشئون الأمنية فى غرب أفريقيا، ويتم من خلال المجموعة تنسيق الجانب العسكرى من قبل رؤساء أركان الدول المعنية (بوركينا فاسو، وتشاد، ومالى، والنيجر، وموريتانيا). والغرض من المجموعة هو تعزيز الروابط بين التنمية الاقتصادية والأمن، ومحاربة تهديد المنظمات الجهادية العاملة فى المنطقة. الأمر الثانى، أن تستبدل بالعمليات العسكرية الفرنسية -مثل عملية "برخان" التى أنهتها فرنسا- عمليات أوروبية على غرار عملية "تاكوبا".
وبالفعل، بدأت فرنسا سحب قواتها من شمال مالى، فى إطار خطط لإعادة تنظيم قواتها المناهضة للجماعات المتطرفة العنيفة فى أفريقيا، تمهيدا لإغلاق قواعد الجيش الفرنسى فى كيدال، وتيساليت، وتمبكتو، وتسليمها إلى الجيش المالى[6].
لكن اليوم يمكن الحديث عن أزمة كبيرة تواجها فرنسا فى المضى قدما فى مخططها بسحب قواتها التدريجى من مالى، وأن تستبدل به دور الجيش المالى والعمليات الأوروبية المشتركة لمواجهة وجود وانتشار تنظيمات التطرف العنيف فى المنطقة كما سبقت الإشارة. وتكمن الأزمة الفرنسية فى ثلاثة عوامل رئيسية:
1- سيطرة حركة طالبان على السلطة فى أفغانستان، منذ منتصف أغسطس 2021، بعد أيام أو ربما ساعات قليلة من انسحاب القوات الأمريكية من العاصمة كابول، وما تبعه من تقديم نموذج جديد فى المشهد الدولى بتولى تنظيم -ظل يُصنف ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية لسنوات طويلة– للسلطة وتشكيل الحكومة، بل وما أثاره ذلك من جدل فى أوساط التنظيمات القاعدية الأخرى التى نادى بعض من شبابها بالسير على خطى حركة طالبان، والتركيز على التعريف المحلى للتنظيم، والدخول فى مفاوضات مع الجهات الحكومية أو الدولية بهدف الحصول على الشرعية والمشاركة فى المشهد السياسى المحلى للدولة.
2- انطلاق مفاوضات بين الحكومة المالية وقيادات تنظيمات التطرف الدينى العنيف القاعدية فى مالى (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين – حركة ماسينا). وعلى الرغم من أن تلك المفاوضات بدأت فى السر، إلا أنه، وفى إطار إيقاف فرنسا لعملية "برخان" العسكرية، أعلنت الحكومة الانتقالية فى مالى عن سير عملية تفاوض مع الجماعات القاعدية فى مالى، الأمر الذى أكده وزير الشئون الدينية والعبادة فى مالى، مامادو كونى، فى أكتوبر 2021 لـوسائل الإعلام، واصفًا المفاوضات بأنها مطلب شعبى، فضلا عن أن قائدى "نصرة الإسلام والمسلمين" و"ماسينا" على التوالى، إياد أغ غالى، وأمادو كوفا، هما المسيطران الحقيقيان على الأرض. ومن ثم فالهدف الأساسى للمفاوضات هو وقف إراقة الدماء فى البلاد.
لذلك، عهد وزير الشئون الدينية بهذه المهمة المسماة "المساعى الحميدة" إلى المجلس الإسلامى الأعلى برئاسة الإمام شريف عثمان مدنى حيدرة. وبدوره، أعلن الأخير أن هدف المفاوضات هو "إيجاد حل وسط بين الماليين، بحيث تتوقف الحرب" فى جميع أنحاء البلاد.
3- الدور المثير للجدل الذى يمكن أن تقوم به قوات شركة فاجنر Wagner، وهى شركة أمن روسية خاصة، وهو الأمر الذى أثار استياء فرنسا ومخاوف أوروبا، وردت عليه موسكو بأن الحكومة الانتقالية هى التى طلبت من المجموعة المساعدة فى القتال ضد المتمردين، وأن الحكومة الروسية لا علاقة لها بهذا التعاون. ومن المنتظر أن ينتقل نحو 1000 عنصر من الشركة للقيام بمهام عسكرية وأمنية إلى جانب القوات العسكرية المالية.
وهكذا، يبدو أن تنفيذ ما أعلنته باريس من سحب قواتها أو تخفيضها بات أمرًا مشكوكًا فى تنفيذه. ونظرًا لأن الإعلان الفرنسى بسحب القوات لم يرافقه تحرك على الأرض، وأن فرنسا ليست مستعدة بعد للانسحاب العسكرى، وما قد يخلفه ذلك –فى ظل العوامل الثلاثة السابق ذكرها– من تأثير على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية فى منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
خاتمة
على الرغم من منطقية المخاوف من تكرار "النموذج الطالبانى" فى مالى، إلا أن ثمة اختلافات كثيرة فى الحالة المالية تجعل من تكرار النموذج أمرًا صعبًا. فمع الاتفاق على قدرة الجماعتين القاعديتين (نصرة الإسلام والمسلمين وماسينا) على السيطرة على بعض المناطق فى مالى، بل والحصول على ثقة بعض سكانها، إلا أنه مقارنة بقدرة حركة طالبان على السيطرة على الأرض، والتواصل مع المواطنين لا يمكن القول إن الحالتين متساويتين على أى حال.
هذا إلى جانب الأخذ فى الاعتبار أن فرنسا لن تتنازل بسهولة عن مصالحها الاقتصادية فى مالى وباقى دول غرب أفريقيا مقارنة بانعدام وجود مصالح اقتصادية أمريكية فى حالة أفغانستان، فضلا عن الوجود الرسمى وغير الرسمى لبعض الدول الأخرى فى غرب أفريقيا، مثل حالة شركة فاجنر الروسية، وهو الأمر المختلف فى الحالة الأفغانية.
لكن يظل انتصار حركة طالبان على الجيش النظامى الأفغانى المدعوم من الولايات المتحدة، بعد 20 عامًا من الحرب بين الحركة والقوات الأمريكية فى أفغانستان، دافعًا روحيًا لكثير من جماعات التطرف الدينى العنيف بأنها تسير على الطريق السليم، وأن الوقت سيكون فى مصلحتها كما كان فى حالة طالبان، كما أنه سيكون دافعًا لتغليب الرأى القائل بالدخول فى مفاوضات مع الحكومات من داخل تلك الجماعات العنيفة على غرار النموذج الطالبانى أيضًا.
[1] Hubac & Anquez 2010، p.p. 23-24