أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن

أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة

 

بعد أكثر من عام من حرب التيغراي الإثيوبية، التي قُتل خلالها الآلاف واعتقل الآلاف بخلاف المشردين والفئات المستضعفة التي تعاني ظروفاً إنسانية مأساوية، قام رئيس الوزراء آبي أحمد، بمناسبة عيد الميلاد لدى الطوائف الأرثوذكسية، بالعفو عن العديد من قادة المعارضة وعلى رأسهم جوهر محمد، عضو المؤتمر الفيدرالي لأورومو وزميله بيكيلي غيربا وسبحات نيغا أحد مؤسسي حزب الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي (وإن كان يتجاوز عمره 94 عاماً، أي إفراج صحي كما يقولون) ، وكيدوسان نيغا وأباي ولدو وأبادي زيمو. لقد أبدت الحكومة الإثيوبية استعدادها للتحدث مع خصومها وذلك في أعقاب سلسلة الانتصارات العسكرية على قوات التيغراي وإجبارهم على التراجع داخل حدود إقليمهم في الشمال الإثيوبي. وتُمثل هذه الخطوة اقتراباً ناعماً لتحقيق اختراق مهم في مسيرة تسوية الحرب الأهلية في البلاد. ومع ذلك لا تزال هناك فئات كثيرة داخل إثيوبيا وخارجها تعارض هذا التوجه الجديد لآبي أحمد وحكومته.

محاولة للفهم

 وعلى الرغم من هذا النهج الحكومي الداعي للحوار الوطني، حيث تم تشكل لجنة وطنية بهذا الخصوص، فإن الاستراتيجية العسكرية لم يطرأ عليها تغيير حقيقي، إذ تستمر الغارات الجوية على إقليم التيغراي ولاسيما من خلال استخدام الطائرات من دون طيار، وهو ما يُخلِّف، بحسب تقديرات المنظمات الدولية، عشرات الخسائر في صفوف المدنيين. وهناك تقارير يومية عن حدوث صدامات عسكرية في منطقة الحدود مع التيغراي وفي أوروميا كذلك. كيف يمكن تفسير ذلك التصرف الذي يبدو متناقضاً من قبل رئيس الوزراء الإثيوبي؟.

 إذا استثنينا بعض قادة التيغراي المتقاعدين أو الذين بلغوا من العمر عتياً مثل سبحات نيغا، فإن الإفراج عن غريمه جوهر محمد يستهدف بالدرجة الأولى العودة إلى المنطقة الدافئة بين قومه في الأورومو بما في ذلك الجماعات التي حملت السلاح ضد الدولة مثل جيش تحرير أورومو. ولعل ذلك يعني بالنسبة لهؤلاء أنه يحتفظ بمسافة آمنة بعيداً عن غلاة الأمهرة من ناحية وطموحات الرئيس الإريتري أسياس أفورقي من ناحية أخرى. ومن المهم الإشارة إلى أن الافراج عن قادة المعارضة من الأورومو قد أعقبه ترقية قائد الجيش برهان جالو الذي ينحدر من عرقية الأورومو إلى رتبة مشير، وهى تمنح لأول مرة في تاريخ إثيوبيا.

 كما أن هذا التحرك السلمي والترويج له يخفف من وطأة الضغوط الدولية ولاسيما الأمريكية على رئيس الوزراء آبي أحمد. وبالفعل هاتفه الرئيس الأمريكي جو بايدن وأخبره بضرورة وقف الحرب، كما عينت إثيوبيا مبعوثاً جديداً للقرن الأفريقي هو السفير ساترفيلد خلفاً لفيلتمان.

العامل الإريتري

ثمة من يرى أن آبي أحمد يرغب من وراء ابتعاده عن مهاجمة عاصمة التيغراي في توفير الدافع والغطاء للقوات الإريترية من أجل القيام بهذا الدور بدلاً عنه. وبالفعل تفيد التقارير بحدوث اعتداءات إريترية في منطقة الحدود مع غرب التيغراي. وفي مقابلة تلفزيونية أوائل يناير 2022 تحدث الرئيس أسياس أفورقي مطولاً عن أزمة التيغراي بشكل لافت للنظر. كرر مراراً وتكراراً أن قيادة الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي ارتكبت أخطاء عسكرية وسياسية تسببت في إزهاق أرواح الآلاف من التيغراي. كما قام بتوجيه التحذير لقيادة جبهة التيغراي من الإقدام على ارتكاب "حسابات خاطئة" أخرى مثل محاولة الدخول في حرب مفتوحة مع قوات الجيش الإريتري .

والعجيب أن أفورقي بدا متشائماً بصدد أفق التسوية التفاوضية معجبهة التيغراي. بيد أن الأكثر أهمية في هذا السياق يتمثل في أنهكان يتحدث كثيراً عن وقف تحرشات ومضايقات الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي بشكل حاسم. ولم يخف أفورقي إحباطه من إحجام آبي أحمد عن تنفيذ ما يعتقد أنه حاسم لاستقرار القرن الأفريقي - وهو  التخلص من الدستور  القائم  على أساس "عرقي".

 ربما نحن أمام عملية توزيع أدوار جديدة لتخفيف الضغط الأمريكي والغربي على أديس أبابا وإعطاء الدفة لعجوز القرن الأفريقي الذي أصبح يولي وجهه صوب الصين فيما يبدو أنه تحالف جديد. لقد ذهب أفورقي إلى أبعد الحدود للتأكيد على فشل الولايات المتحدة في تعزيز هيمنتها العالمية، وهو ما أدى إلى تمكن الصين من تجاوز الولايات المتحدة. وبما أن إريتريا دولة مارقة ومعزولة في النظام الدولي فإن الإجراءات الأمريكية لن يكون لها أي تأثير عليها.

عامل الأمهرة

من المحتمل أن يكون الهدف من وراء قيام آبي أحمد بتوريط حليفه الإريتري بتكثيف الضغط العسكري على التيغراي هو إرضاء النخبة اليمينية من قومية الأمهرة التي تمثل ثاني مجموعة عرقية في البلاد بعد الأورومو. ومنذ قرار الإفراج عن المعتقلين ظهرت موجات من الغضب داخل صفوف الأمهرة سواء داخل إثيوبيا أو في بلاد المهجر. ومن المعروف أن دافع النخبة السياسية العرقية في أمهرة من دخول الحرب مع التيغراي هو استعادة الأراضي التي خسرتها في عام 1991. وقد قامت مليشيات الأمهرة والقوات الخاصة بدور محوري في الحملات العسكرية ضد قوات التيغراي. وبالتالي، تم إدماج الأجزاء الغربية والجنوبية من التيغراي تحت إدارة وسيطرة أمهرة على الرغم من احتجاجات شعب التيغراي.ويعد الوصول إلى الأرض والتحكم فيها أمراً ضرورياً في أي مجتمع زراعي قائم على الكفاف، وهذا صحيح بشكل خاص في أجزاء من إثيوبيا حيث تمت زراعة الأرض منذ آلاف السنين. تدور الحياة في ريف إثيوبيا حول الأرض؛ وهو ما يعد عاملاً حاسماً في تحديد هوية الشخص وانتمائه ومكانته في المجتمع. وطبقاً للتقاليد الإثيوبية، فإن الأراضي الزراعية الريفية مملوكة للدولة، والحق في حراستها يُمنح تقليدياً بناءً على صلة الدم والتربة. وبعبارة أخرى، فإن الارتباط المؤكد بمجموعة عرقية من المجتمع يمنح حق الوصول إلى الأرض.

مع تحول إثيوبيا من دولة وحدوية إلى دولة فيدرالية في فترة حكم التيغراي، تم تصميم تسع ولايات إقليمية جديدة (أضحت بعد ذلك عشر) وفقاً للمادة 46 من دستور عام 1995 على أساس "أنماط الاستيطان واللغة والهوية وموافقة الشعب". تجاوزت حدود الولايات الإقليمية الجديدة الترسيمات الإدارية السابقة وفُرضت ببساطة دون موافقة شعبية. وبالتالي، فإن مطالبات إقليم أمهرة بالمناطق التي تعتبر حالياً جزءاً من ولاية التيغراي الإقليمية تستند إلى فهم أوضاع ما قبل عام 1991 للمناطق الإدارية ذات الأغلبية الأمهرية. لقد تخلت ولاية التيغراي الإقليمية الجديدة عن مناطق من الشرق إلى ولاية عفار الجديدة بينما اكتسبت أرضاً في الغرب من خلال دمج منطقة ويلكايت وسهول الأراضي المنخفضة الخصبة في سيتيت حميرا، والتي كانت جزءاً من منطقة جوندار الإدارية السابقة. وتعد مناطق الأراضي المنخفضة هى الحزام الرئيسي لمحاصيل السمسم النقدية في إثيوبيا، وفي ذلك الوقت، كان يسكنها مزيج من مزارعي أمهرة والتيغراي- دون أي إحصاء يمكن التحقق منه حول من هم الذين يشكلون الأغلبية. ومنذ عام 1991، تم إعادة توطين عشرات الآلاف من سكان التيغراي من المرتفعات واللاجئين السابقين في المنطقة، مما أدى إلى منح السكان أغلبية واضحة من التيغراي. وعليه، يخشى الأمهرة من التخلي عن منطقة ويلكايت الاستراتيجية في غرب التيغراي. وتقوم تنظيمات الأمهرة داخل الولايات المتحدة بإرسال تحذيرات للنظام الحاكم في أديس أبابا من عواقب التفاوض مع جبهة التيغراي. ولعل متغير الأمهرة يعد أكبر مشكلة تواجه حكم آبي أحمد.

معضلة آبي أحمد

على الرغم من أن تحقيق حلم الملك السابع من خلال استعادة دولة منليك الموحدة التي تمتلك فيها العاصمة سلطة اتخاذ القرار وتفرضه على الأقاليم بات محفوفاً بالمخاطر، فإن آبي أحمد يواجه معضلة حقيقية تحول دون استقرار نظامه الحاكم. إنه يحاول إرضاء دوائر وتنظيمات قد تبدو مطالبها متناقضة. إذ بينما يضغط الأورومو من أجل الحسم العسكري وتحقيق مشروع إثيوبيا الموحدة، نجد أن الأورومو يدفعون باتجاه التسوية السلمية وإعلاء لغة الحوار الوطني. لقد أصدر مؤتمر أورومو الفيدرالي بياناً سياسياً مهماً في أعقاب إسقاط التهم وإطلاق سراح قادة المعارضة بمن فيهم بيكيلي جيربا وجوهر محمد بالإضافة إلى شخصيات معارضة أخرى في 7 يناير 2022. أكد البيان أن اعتقال قادته كان لدوافع سياسية وقال: "لم يغب عن السجانين أننا لم نرتكب أي جريمة وأننا احتجزنا بشكل غير قانوني بتهم وهمية تهدف إلى زيادة الحظوظ الانتخابية للحزب الحاكم". كما ناقش حزب المؤتمر الأزمة التي واجهتها البلاد بعد ما أسماه "طردنا القسري من الفضاء السياسي" وأعرب عن حزنه على الفظائع التي ارتكبت بحق المدنيين في مناطق أوروميا والتيغراي وبنيشنقول جوموز وعفر وأمهرة. علاوة على ذلك، قال الحزب: "إن التحقيق في اغتيال فنان الأورومو البارز هاتشالو هونديسا، الذي سبق الاعتقال الجماعي لقادة أحزاب المعارضة،  شابه تدخل سياسي وتستر. لقد فشل نظام العدالة في تقديم رواية موثوقة لما حدث ليلة اغتيال هاتشالو - ناهيك عن محاكمة الجناة. لذلك فإننا ندعو إلى إنشاء هيئة تحقيق مستقلة لكشف الحقيقة".

من جهة أخرى، يبدو أن أسياس أفورقي بدا يساوره الشك تجاه حليفه آبي أحمد وأنه لم يؤيد قرار أديس أبابا بالتوقف عن التوغل العسكري داخل إقليم التيغراي. وعليه، تشير كثير من الدلائل إلى أن أفورقي يقوم بتعزيز علاقاته مع النخبة اليمينية المتطرفة من الأمهرة متجاوزاً بذلك آبي أحمد وذلك من أجل القضاء المبرم على خصومه السياسيين المتمثلين في الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي.

آفاق المستقبل

يبدو المستقبل غير واعد، حيث أن أزمة التيغراي تظل قاتمة على الرغم من وعود كل من بايدن وآبي. من المحتمل أن يتم تهميش آبي نفسه عند صياغة سيناريوهات المستقبل في المنطقة. أولاً: من غير المحتمل أن يكون الإفراج عن جوهر محمد وصحبه من قادة الأورومو لصالح تعزيز موقف آبي السياسي، بل على العكس سوف يعمل على تعبئة صفوف الأورومو من أجل المطالبة بمزيد من الإصلاحات والإفراج عن آلاف المعتقلين. وربما نشهد تحالفاً بين جوهر وبيكيلي من أجل توحيد صفوف أتباعهما وممارسة مزيد من الضغوط على حكومة آبي أحمد.

ثانياً: من المرجح أن يتم تعزيز التحالف الأمهري الإريتري من أجل استمرار الضغط العسكري على التيغراي. وربما يعمل الطرفان على إزاحة رئيس الوزراء آبي أحمد من السلطة عن طريق انقلاب قصر. ثالثاً: ربما يدفع تدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب الحرب أو العقوبات الأمريكية باتجاه مزيد من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. لقد تم إغلاق كثير من الشركات في المناطق الصناعية التي كانت تعتمد على تصدير المنسوجات للولايات المتحدة نتيجة تجميد عضوية إثيوبيا في قانون النمو والفرص (أغوا). وعليه، فإن آفاق المستقبل القريب في ظل تنازع الإرادات في الداخل الإثيوبي مع وجود دور فاعل لإريتريا تبدو غير واعدة أو أنها تفصح عن أوقات صعبة سوف يشهدها الإقليم ككل ولاسيما في ظل تصادم مصالح القوى الكبرى في المنطقة.