سعت إيران عبر إجراء مناورات "الرسول الأعظم 17"، في الفترة من 20 إلى 24 ديسمبر الفائت (2021)، بالإضافة إلى إطلاق صاروخ "سيمرغ" إلى الفضاء في 30 من الشهر نفسه، إلى توجيه رسائل عديدة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بالملفات الخلافية العالقة معها، حيث جاءت هذه الخطوات التصعيدية بالتوازي مع التهديدات المتواصلة التي توجهها إسرائيل بأن كل الخيارات مطروحة لمواجهة التهديد النووي الإيراني. كما جاءت أيضًا بالتزامن مع انطلاق الجولة الثامنة من المفاوضات النووية، في 27 ديسمبر الفائت، بين إيران ودول مجموعة (4+1)، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تشارك فيها بشكل غير مباشر.
دوافع التصعيد المتبادل
تبادلت كل من إيران وإسرائيل خلال الفترة الأخيرة رسائل عسكرية تحذيرية متبادلة. ففي الوقت الذي أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية أن اللجنة المالية في الكنيست صادقت على ميزانية دفاع إضافية بقيمة 9 مليار شيكل (نحو 2.9 مليار دولار) لدعم جهود أجهزة الأمن في تحييد "مخاطر" البرنامج النووي الإيراني، قامت إيران بإجراء مناورات عسكرية استهدفت تحذير تل أبيب "حال ارتكابها أى حماقة" حسب تصريحات المسئولين الإيرانيين.
وتهدد إسرائيل، التي تعارض جهود القوى الدولية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، منذ فترة طويلة بشن عمل عسكري إذا فشلت الدبلوماسية في منع طهران من امتلاك قنبلة نووية، وذلك في وقت تتمسك إيران بأن أهداف برنامجها النووي سلمية.
وترى إسرائيل أن استراتيجية إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما تجاه برنامج إيران النووي، التي فصلت بين الملفين النووي والصاروخي، ساهمت في منح طهران فرصة للتوسع في تجاربها الصاروخية. لذا مارست تل أبيب ضغوطاً على إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب للتصعيد ضد طهران. وقد تبنت الإدارة السابقة بالفعل استراتيجية لتعطيل الاتفاق النووي، أدت إلى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منه في النهاية وفرض العقوبات الاقتصادية على إيران، مع مقايضتها بالتخلى عن برنامجيها النووي والصاروخي، وإعادة التفاوض حول الاتفاق النووي بشروط جديدة، تشمل قيودًا أوسع عما هو وارد في اتفاق العام 2015.[1]
ومنذ قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2021، أبدى الطرفان الإيراني والأمريكي رغبة في التفاوض وإحياء الاتفاق النووي، بالرغم من صعوبة الشروط المسبقة التي وضعها كل طرف أمام الآخر، وحتى بعد تجاوز الطرفين تلك العقبة والبدء في إجراء المفاوضات، ظلت هناك عقبة أخرى وهى الصواريخ الباليستية، التي اتفقت جميع القوى المعنية على أهمية تضمينها في إطار أوسع من المفاوضات. ومن هنا، يمكن فهم مغزى إطلاق الصواريخ في هذا التوقيت، على نحو يوحي بأن إيران تريد تأكيد رفضها إجراء مفاوضات جديدة أو توسيع نطاق المفاوضات الحالية لتشمل البرنامج الصاروخي.
دلالات مختلفة
يطرح التصعيد العسكري والصاروخي الإيراني في هذا التوقيت دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- التأثير على مسار المفاوضات النووية: تزامن توقيت المناورات الإيرانية وإطلاق الصاروخ "سيمرغ" مع انطلاق الجولة الثامنة من محادثات فيينا التي بدأت في 27 ديسمبر الفائت، بعد فشل الجولات السابقة في التوصل إلى اتفاق على القضايا الرئيسية العالقة، ووسط تصاعد التحذيرات الأمريكية من أن "الوقت بات ينفد"، مقابل تمسك طهران بشروطها لرفع كامل للعقوبات الأمريكية قبل أن تعود إلى التزاماتها النووية، التي تخلت عنها خلال السنوات الماضية، بعدما انسحبت واشنطن من الاتفاق الذي تم التوصل إليه عام 2015، وفي ظل رؤية إيران بأن المشاركة الأوروبية في المفاوضات "غير بناءة"، وأن المفاوضين الأوروبيين لم يقدموا "مبادرات عملية جديدة" فيها.
لذا يمكن القول إن المناورات التي أجرتها إيران أخيرًا كانت بمثابة رسالة مفادها أن "أى محاولات خارجية للحد من أنشطتها الصاروخية تخاطر بتجاوز خط أحمر أساسي"، حيث تبرر دائمًا حقها بامتلاك منظومة صواريخ باليستية متطورة وذلك من منظور ردعي فحسب، وترى أن المواصفات التي حددها قرار مجلس الأمن رقم 2231 لم تنطبق على صواريخها الباليستية التي تزعم أنها غير مصممة لحمل أسلحة نووية.
في المقابل، ترى الدول الغربية أن تلك الأنشطة الإيرانية تعد "انتهاكًا صريحًا لقرار مجلس الأمن رقم 2231"، الذي ينص على عدم ممارسة إيران أى أنشطة على صلة بصواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية، بما في ذلك الاختبارات التي تستخدم فيها تكنولوجيا الصواريخ الباليستية. وفي هذا السياق، قالت وزارة الخارجية البريطانية في بيان لها في 24 ديسمبر الفائت: "تمثل هذه التصرفات تهديدًا للأمن الإقليمي والدولي، وندعو إيران لوقف أنشطتها على الفور".
وبالرغم من معارضة الدول الأوروبية لتلك المناورات، أعلنت إيران في 30 ديسمبر الفائت، إطلاق صاروخ إلى الفضاء يحمل معدات لأغراض بحثية، وفق التلفزيون الرسمي، وقد نشرت وكالة "نور نيوز" التابعة للمجلس الأعلى للأمن القومي، عقب انطلاق الصاروخ، تقريرًا جاء فيه أن الخطوة "التي جاءت في الوقت المناسب، تمكنت من تغيير الكثير من المعادلات السياسية والأمنية". وتابعت: "في خضم مفاوضات فيينا، حملت مناورات الرسول الأعظم 17، رسالة استراتيجية بأن إيران تستخدم طاقاتها الإنتاجية في الميدان والدبلوماسية في آن واحد للتقدم بأهدافها". ومن اللافت، أن تعليق وكالة الأمن القومي يأتي بعد أيام من المناورات الصاروخية، لكنه تزامن مع إعلان إطلاق الصاروخ إلى الفضاء.[2]
2- الرد على التهديدات الإسرائيلية: تزامنت المناورات الإيرانية مع التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة بشن هجوم عسكري على إيران. ومن هنا، تعمدت إيران إطلاق 16 صاروخًا من طرارزت مختلفة في وقت واحد، لتشير إلى أن صواريخها قادرة على الوصول إلى إسرائيل، والقواعد الأمريكية في المنطقة.
وقد أعلنت إيران صراحةً على لسان رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة محمد باقري، أن "مناورات الرسول الأعظم تأتي ردًا على تهديدات إسرائيل"، حيث استهدفت من خلالها قصف مجسمات تحاكي مواقع حساسة للجيش الإسرائيلي، ففي اليوم الرابع من المناورات، ذكرت وكالة تسنيم الإيرانية أن "المناورات شملت محاكاة استهداف منشـأة ديمونا النووية"، وأشارت إيران إلى أن "المسافة بين القصف الحقيقي والتدريبات الميدانية هى تغيير زوايا إطلاق الصواريخ".[3]
3- رفض توسيع نطاق المفاوضات: سعت إيران عبر تلك الخطوات إلى تأكيد أن المفاوضات الحالية التي تجري في فيينا مع القوى الدولية سوف تكون الأخيرة، وستكون حصرًا حول الاتفاق النووي ولن تمتد إلى القضايا الخلافية الأخرى، لاسيما التدخلات الإقليمية وبرنامج الصواريخ الباليستية. وهنا، فإن هذا الموقف لا يعبر عن توجه جديد لدى إيران التي ترى أن هذه الملفات غير قابلة للتفاوض، على نحو ما عبر عنه الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، حيث كان أول رسالة حرص على توجيهها إلى القوى الدولية هى أن "الملفين الصاروخي والإقليمي غير قابلين للتفاوض". بل إن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي سبق أن وجه انتقادات للسياسة الأمريكية القائمة على الربط بين الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي، وطالب حكومة إبراهيم رئيسي، في 29 يوليو الماضي، بـ"عدم الثقة في نوايا الغرب".
في النهاية، يمكن القول إن التصعيد الإيراني سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، في ظل تمسك طهران بمواصلة التطوير في برنامجها النووي فضلاً عن عدم التفاوض حول الدور الإقليمي أو البرنامج الصاروخي، وهو ما ترى تل أبيب أنه يشكل خطرًا كبيرًا عليها، خاصةً في ظل رؤية واشنطن القائمة على أنه ما زال هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية للملف النووي الإيراني بالوسائل الدبلوماسية، وعدم وضعها خيار الهجوم العسكري الذي ترجحه إسرائيل كحل أوَّلي لكبح "الخطر" الإيراني.
[1] ترامب يخير إيران بين تغيير سياساتها أو "الكارثة" بسبب العقوبات الاقتصادية، فرانس 24، 3 نوفمبر 2018، متاح على:
https://bit.ly/3eq1mAL
[3] الحرس الثوري الإيراني يجري محاكاة الهجوم على مفاعل "ديمونا" النووي الإسرائيلي، سبوتنيك عربي، 27 ديسمبر 2021، متاح على:
https://bit.ly/32sWlFf