جاءت الخطوة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد بالإعلان عن خارطة طريق للمرحلة المقبلة، في ظل سياق سياسي مضطرب تمر به البلاد، وحالة استقطاب كبيرة تشهدها الساحة السياسية التونسية، وضغوط دولية متزايدة على تونس لتجاوز هذه المرحلة الاستثنائية. لكن ما أكسب هذه الخريطة أهمية متزايدة هو ما حملته من قرارات في طياتها، وردود الفعل التي تبلورت تجاهها، وهي المخرجات التي يمكن من خلالها فهم أبرز التحديات التي تواجه الدولة التونسية في هذه المرحلة.
فقد أعلن الرئيس سعيَد، في خطاب للشعب التونسي يوم 14 ديسمبر الجاري (2021) بمناسبة الذكرى الـ11 للثورة التونسية، عن حزمة من القرارات التي تمثل خارطة طريق للعملية السياسية في تونس لمدة عام، وشملت قرارات سعيَد تنظيم انتخابات تشريعية وفق قانون انتخابي جديد يوم 17 ديسمبر 2022، وعرض مشاريع التعديلات الدستورية على الاستفتاء يوم 25 يوليو 2022، كما أعلن عن مواصلة تعليق اختصاصات مجلس النواب التونسي لحين تنظيم انتخابات جديدة، وعن تنظيم ما أسماه بـ"الاستشارات الشعبية" بدايةً من يناير 2022، مشيراً إلى أن السلطات التونسية "اتخذت كافة الإجراءات المتعلقة بتأمين وتجهيز المنصات الإلكترونية التي تحتاجها هذه الاستحقاقات".
وفي السياق ذاته، أشار سعيّد إلى التوجه نحو تشكيل لجنة وطنية ستكون مسئولة عن "الاستشارات الشعبية" التي ستُعقد إلكترونياً، على أن تتولى هذه اللجنة بعد ذلك صياغة مخرجات هذه الاستشارات، بما يضمن الاستفادة منها في عملية صنع القرار وتحويلها إلى سياسات تُلبي تطلعات ومطالب التونسيين على أن تنتهي أعمال اللجنة قبل يونيو 2022.
كما نوه سعيّد إلى أنه سيضع مرسوماً خاصاً يتعلق بالصلح الجزائي مع رجال الأعمال (الفئة المُطالبة بإعادة أموال للدولة التونسية منذ ثورة 2010)، ولفت في خطابه إلى أن السلطات التونسية "مستمرة في ملاحقة من أجرموا في حق الشعب التونسي وتاجروا بآلامه" على حد تعبيره، لافتاً إلى استمرار تعقب المتورطين في قضايا "الإرهاب، والفساد، وغلاء الأسعار"[1].
جدير بالذكر أن هذه القرارات التي اتخذها سعيّد، والتي مثلت استكمالاً لمسار 25 يوليو، جاءت في ظل سياق مضطرب تعيشه البلاد. فمن جانب تتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، ومن جانب آخر تتزايد الضغوط الدولية على تونس، والتحركات الداخلية الرافضة لمسار 25 يوليو، والتي تقودها حركة "النهضة"، وبعض الاتجاهات السياسية الأخرى، وهو السياق الذي أعطى أهمية متزايدة لهذه القرارات، خصوصاً على صعيد التداعيات المحتملة لها داخلياً وخارجياً، والتحديات التي تواجهها.
ملاحظات عديدة
يمكن طرح ملاحظات عديدة حول القرارات الجديدة التي اتخذها الرئيس التونسي يتمثل أبرزها في:
1- لم يعلن الرئيس سعيّد عن إلغاء الدستور، وإنما اكتفى بالإعلان عن التوجه نحو إجراء بعض التعديلات الدستورية، على عكس ما أشار إليه من قبل في أكثر من مناسبة من أن "الدستور التونسي بشكله الحالي لم يعد صالحاً"[2]، وهو متغير ربما يرتبط بموجة الغضب التي أعربت عنها العديد من الاتجاهات السياسية والقضائية التونسية إزاء مسألة تغيير الدستور، أو حتى تعديله.
2- اتجه الرئيس التونسي إلى "تجميد" عمل البرلمان لعام آخر وليس "حل" البرلمان، على نحو يمكن تفسيره في ضوء أن قرار الحل يقتضي إجراء انتخابات تشريعية جديدة خلال 90 يوماً، وفقاً للدستور التونسي، وهو أمر لا تتوافر القدرات اللوجستية والمناخ السياسي الملائم لتحقيقه.
3- كشف الرئيس سعيّد عن تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة في 22 ديسمبر 2022، لـ"تعويض البرلمان المُجمد" حسب تعبيره، ولم يتطرق إلى مسألة عقد انتخابات رئاسية مبكرة، وهو الأمر الذي قد يزيد من تعقيد المشهد، خصوصاً وأن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة كان أحد مطالب العديد من الاتجاهات السياسية بما في ذلك المؤيدة لمسار 25 يوليو.
4- هاجم سعيَد في خطابه ضمنياً الاتحاد التونسي العام للشغل، عندما قال: "صار الحديث متواتراً عن صف ثالث، إذا أرادوا فليزيدوا صفاً رابعاً أو خامساً"، مضيفاً: "الصف الوحيد الذي أنتمي إليه هو صف الشعب وليس الاصطفاف مع من يريدون صناعة الصفوف ثم بعد ذلك الاصطفاف"[3]. ويبدو أن هذه التصريحات حملت رداً على تصريحات أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي والتي قال فيها أن الاتحاد "اختار المضى قدماً في طريق ثالث مغاير لما قبل 25 يوليو وما بعده"[4]، وهي التصريحات التي حملت إشارة إلى عدم رضا الاتحاد عن توجهات الرئيس قيس سعيَد وسياساته في مرحلة ما بعد 25 يوليو.
تحديات محتملة
يمكن القول إن الفترة الحالية في تونس هي الأصعب في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع حجم التحديات الكبيرة التي تواجه البلاد، ومن أبرز هذه التحديات:
1- اتساع نطاق التباينات مع بعض القوى المؤيدة لـ25 يوليو، التي أبدت تحفظات على عدد من الإجراءات التي اتخذت في المرحلة التالية، وهو ما يمكن أن يؤثر حتى على فرص إقامة حوار وطني تونسي، فضلاً عن تأثيره بطبيعة الحال على تجاوز المرحلة الحالية. إذ عبرتأحزاب "التيار الديمقراطي"، و"الجمهوري"، و"التكتل الديمقراطي"[5]، عن رفضها لبعض ما جاء في خارطة الطريق التي طرحها الرئيس سعيَد، وأشارت هذه الأحزاب في بيان لها إلى أنها "ترفض المساس بالدستور خارج إطار الشرعية، وقبل إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية"، ووصف بيان الأحزاب الثلاثة خطاب الرئيس بأنه "مشحون بالاتهامات، ويحمل تصورات فردية، ولا يستجيب بشكل فعّال للأزمات التي تواجهها تونس".
بالإضافة لما سبق، انتقد الحزب الدستوري الحر خريطة الطريق لاسيما وأن الحزب أعلن مراراً أنه يرفض أي إجراءات من شأنها إطالة أمد الفترة الاستثنائية التي تعيشها البلاد، لكن الحزب ركز في معارضته لخريطة الطريق على كونها بمثابة "هدية" لرئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، إذ "سيبقى لعام آخر كرئيس للبرلمان، في الوقت الذي لا يزال فيه الإخوان يرتعون في البلاد دون محاسبة" على حد تعبير رئيس الحزب عبير موسى[6].
وفي المقابل، لا تزال بعض الأحزاب تراهن على رؤية ومقاربة الرئيس سعيّد في الحكم، وترى فيها المخرج الوحيد بالنسبة لتونس في المرحلة القادمة، ومن هذه الحركات "حركة الشعب" بقيادة زهير المغزاوي، وحزب "التيار الشعبي" برئاسة زهير حمدي، وحزب "الائتلاف الوطني التونسي" بقيادة ناجي جلول، وهي الأحزاب التي أكدت على أن سعيّد أنقذ تونس من الانهيار، مع الإشارة إلى رفض أي سياسات من شأنها الحد من الحريات، وإطالة أمد الإجراءات الاستثنائية.
2- تواجه خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس سعيَد بعض العقبات، على المستوى اللوجستي والإجرائي، والتي قد تعرقل تنفيذها، ومن هذه التحديات ما نوه إليه عادل البرينصي عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التونسية[7]، من أن الظروف في تونس غير مهيأة لإجراء الانتخابات في الموعد الذي حدده الرئيس سعيَد، مشيراً إلى أن "ما راكمته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من تجارب خلال المواعيد الانتخابية السابقة يؤكد أن أي موعد انتخابي كبير يتطلب مدة زمنية، تتراوح ما بين ستة وثمانية أشهر من التحضيرات الميدانية واللوجستية والقانونية، وقرارات ترتيبية متعددة، وحوالي ثلاثة أشهر بالنسبة للحالات الاستثنائية، وذلك بهدف ضبط قائمات المترشحين، وسجلات الناخبين، وتهيئة مراكز الاقتراع، وانتداب عدد كبير من المتعاقدين لضمان حسن سير أي موعد انتخابي"، لافتاً إلى أن الرئيس قيس سعيَد "أعلن عن تلك المواعيد الانتخابية دون الرجوع إلى هيئة الانتخابات، وترك هذه الهيئة الدستورية في وضع غامض بين التجميد والإقصاء" على حد تعبيره.
3- يظل التحدي الاقتصادي هو المعضلة الأكبر بالنسبة لتونس في المرحلة الحالية، خصوصاً مع احتمالية تفاقم الأوضاع في ضوء عدم الوصول لحلول مع البنك الدولي تضمن دعم تونس في المرحلة المقبلة، وتصاعد حركة الإضرابات في تونس، وتداعيات جائحة كورونا.
وحسب تقارير عديدة[8]، فقد خفَّضت تونس توقعاتها للنمو الاقتصادي لعام 2021 إلى 2.6% بالمقارنة بـ 4% استند إليها قانون الموازنة العامة، فيما أشار المعهد الوطني التونسي للإحصاء[9] إلى أن نسبة البطالة ارتفعت في السوق المحلية إلى 18.4% خلال الربع الثالث من 2021، مقارنةً بـ 17.9% في الربع الثاني من العام نفسه، وهي معطيات تعكس معاناة الاقتصاد التونسي من حالة ركود، أرجعتها بعض التقديرات الاقتصادية إلى عدم استعادة النشاط الاقتصادي لنسقه المعهود بعد أزمة كورونا[10].
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الصعيد الاجتماعي، تشهد تونس أزمات اجتماعية متفاقمة، تجسدت في أزمة النفايات في محافظة صفاقس، وهي الأزمة التي أدت إلى اندلاع احتجاجات كبيرة في المدينة مما أسفر عن وقوع اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة. كذلك يتجلى أحد مظاهر الأزمة الاجتماعية في استفحال أزمة العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات خصوصاً أولئك الذين حصلوا على شهاداتهم الجامعية منذ 10 سنوات، وقد تفاقمت أزمة هذه الفئة بعد التراجع عن قانون يقضي بتشغيلهم في الوظائف الحكومية، كان البرلمان قد صادق عليه قبل سنة، مما أدى إلى تنظيم هذه الفئة لاحتجاجات كبيرة في كافة المحافظات التونسية[11].
وفي سياق متصل، تتصاعد حدة الأزمة بسبب الإجراءات التقشفية، والتي تشمل خطة لرفع الدعم تدريجياً على مواد الطاقة عبر الزيادة في أسعار المحروقات والكهرباء والغاز، والتوجه نحو حوكمة كتلة الأجور من خلال تجميد الانتدابات في الوظائف الحكومية، وتجميد الزيادات في أجور الموظفين، إلى جانب تسريح آلاف الموظفين وإحالتهم إلى التقاعد المبكر، وخفض الأجور بنسبة 10%، وتجميدها لمدة 5 سنوات، ومراجعة الدعم الحكومي لبعض المواد، بجانب حزمة أخرى من الإصلاحات[12].
ختاماً، يمكن القول إن مسار الانتقال الديمقراطي في تونس حالياً يمر بمرحلة من أخطر مراحله، ويتوقف نجاح هذه المرحلة على بعض المحددات التي يأتي في القلب منها وجود رغبة سياسية في بناء مسارات توافقية وتشاركية لتجاوز هذه المرحلة، بما يضمن توفير مزيد من الدعم الجماهيري لهذا المسار، فضلاً عن مدى القدرة على إيجاد حلول اقتصادية ناجزة للأزمات التي تواجهها البلاد وهو هدف لا يمكن تحقيقه بمعزل عن التنسيق مع الكيانات النقابية الاجتماعية - الاقتصادية وفي مقدمتها اتحاد الشغل.
[3] سعيّد : "صار الحديث متواترا عن صف ثالث وان أرادوا فليزيدوا صفا رابعا أو خامسا، موقع ديوان التونسي، 13 ديسمبر 2021، متاح على:
https://bit.ly/3yX0VHv
[5] أحزاب التيار والجمهوري والتكتل ترفض خارطة طريق سعيّد، صحيفة جمهورية التونسية، 16 ديسمبر 2021، متاح على:
https://bit.ly/32hLJJq
[6] عبير موسي: سعيد أهدى الغنوشي عاماً إضافياً على رأس البرلمان، صحيفة جمهورية التونسية، 19 ديسمبر 2021، متاح على:
https://bit.ly/3mwAlQD
[7] هيئة الانتخابات في تونس: التحضير للاقتراع يحتاج شهوراً، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، 19 ديسمبر 2021، متاح على:
https://bit.ly/3sxL15f
[10] انتصار منتصر، هذه أسباب غياب انتعاش اقتصاد تونس رغم الارتفاع النسبي للنمو، اندبندنت عربية، 23 نوفمبر 2021، متاح على:
https://bit.ly/3Ha7Obu