قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2021-12-12

 

تتنامى احتمالات تأجيل الانتخابات الليبية عن موعدها المقرر في 24 ديسمبر الجاري (2021). ورغم المخاوف التي قد تترتب على هذا السيناريو، إلا أنالمفاضلة بين تداعيات إجراء الانتخابات في موعدها وبين سيناريو التأجيل قد تدفع ببعض الأطراف الفاعلة في ملف الأزمة الليبية إلى ترجيح السيناريو الأخير كمخرج من مأزق الفوضى المحتملة التي قد تنجم عن السيناريو الأول، مع الوضع في الاعتبار الدروس المستفادة من الخبرة الإقليمية في حالات مناظرة، ولعل أقربها الحالة العراقية، إذ تُصعِّد القوى الرافضة لنتائج الانتخابات التي أعلنت عنها المفوضية العليا قبل نحو شهرين. وبالتالي فإن معالجة الإشكاليات التي ظهرت خلال الممارسة الإجرائية لدور المفوضية العليا للانتخابات الليبية، إضافة إلى ضرورة الحصول على ضمانات للاعتراف بالنتائج وتقويض توجهات بعض الأطراف والجهات السياسية للطعن عليها في المستقبل سياسياً وأمنياً بات، في رؤية اتجاهات عديدة، يكتسب أهمية وزخماً خاصاً.

ولا يشكل هذا السيناريو سابقة، ففي المشهد الليبي القريب، دخلت خريطة الطريق حيز التنفيذ الفعلي بعد إعلان وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020) بعدة أشهر، وكان مخططاً أن تجرى عملية تشكيل السلطة التنفيذية الانتقالية (حكومة الوحدة الوطنية- المجلس الرئاسي) كخطوة أولى وفق جدول أعمال خريطة الطريق الانتقالية في يناير 2021، إلا أن تلك العملية استغرقت نحو 4 أشهر أخرى لهندسة الإجراءات بشكل سليم، في إطار توافقات سياسية وضمانات واضحة.

في المقابل، ستُرحَّل استحقاقات أخرى مدرجة ضمن خريطة الطريق إلى ما بعد الانتخابات، كملف توحيد المؤسسة العسكرية وإجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب، حيث أثبتت الممارسة العملية أن هناك حاجة إلى ظروف وسلطة مختلفة لإنجاز هذه الملفات. ولم يؤد ذلك إلى إفشال المسار الانتقالي، بل على العكس من ذلك حفَّز الأطراف على الالتزام بوقف إطلاق النار، والبناء التدريجي على تلك الخطوة، ولو بشكل متباطىء.

دوافع متعددة

كشفت الممارسة العملية للاستعداد للانتخابات، وفق الاتجاه الداعي للتأجيل، العديد من التحديات والإشكاليات، التي لا يمكن القفز عليها بدعوى الحفاظ على موعد الاستحقاق الانتخابي، على نحو يفرض دواعي التأجيل لحلحلة هذه الأمور، ومنها على سبيل المثال:

1- الارتباك الأممي: لا شك أن استقالة المبعوث الأممي يان كوبيتش في توقيت حرج قبيل شهر من موعد الانتخابات تعد مؤشراً على حجم الإشكاليات والتحديات الداخلية والخارجية التي لم يتمكن معها كوبيتش من المضى قدماً في المسار حتى النهاية. ورغم تجاوز هذه العقبة، بإعادة ستيفاني وليامز المبعوثة السابقة بالإنابة إلى المشهد، كمبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، في محاولة لإنقاذ الموقف، إلا أن ذلك لا يخفي الارتباك الأممي، على نحو بدا جلياً في تعثر عملية تعيين نيكولاس كاى، حيث أن تعيين مبعوث جديد سيستغرق المزيد من الوقت للتوافق عليه كما أنه سيكون في حاجة لوقت إضافي للتعرف على المشهد وأطرافه وأبعاده، في حين تمتلك وليامز خبرة كبيرة، إضافة لكونها الأكثر دراية بتفاصيل الملف بحكم أنها مهندس خريطة طريق عملية الانتقال السياسي، لكن فى الوقت ذاته من الصعوبة بمكان حلحلة الأزمة خلال أسبوعين فقط (الفترة ما بين انتهاء مهمة كوبيتش في 10 ديسمبر وبين موعد الانتخابات في 24 من الشهر ذاته).

2- غياب التوافقات السياسية: هناك إشكاليات واضحة من جانب المفوضية في عملية تطبيق القوانين التي أقرها البرلمان، بغض النظر عن موقف قوى الإسلام السياسي، التي تسعي إلى نسف تلك القوانين، واستبدالها بقوانينها. لكن هناك 72 عضواً عقدوا جلسة برلمانية تمخضت عن تشكيل لجنة تواصل مع المفوضية لحلحلة هذه الإشكاليات ستقدم تقريرها بحلول الأسبوع الجاري، وبالتالي قد توصي بتغيير ما في القانون، لاسيما وأن الهدف من هذه الخطوة هو تفادي الطعن القانوني في المستقبل. ويعكس ذلك تراجع رئيس البرلمان عقيلة صالح خطوة إلى الوراء وإبداء مرونة بشأن هذه العملية بعد أن كان مُصِرَّاً على إغلاق الباب أمامها تماماً.

المؤشر الآخر، هو تقدم 17 عضواً من أعضاء ملتقى الحوار السياسي بطلب للأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش لعقد جلسة جديدة للملتقى لمناقشة تلك الأمور ومحاولة التوصل لحل بشأنها، وهى أيضاً محاولة جديدة من جانب هذه المجموعة بعد أن كان كوبيتش قد أغلق الباب أمام ملتقى الحوار للانعقاد بعد الفشل في التوصل إلى "القاعدة الدستورية" للانتخابات. وتعكس محصلة هذه المحاولات أن هناك قوى محلية لديها تحفظات على أسس وإجراءات العملية الانتخابية، ولا يمكن تجاهل مواقفها.

3- التوتر الأمني: واكب الاستعداد لعملية الانتخابات توتر أمني واضح، حيث أقدمت بعض المليشيات المسلحة على إغلاق مقرات المفوضية في الزاوية ثم طرابلس غرب البلاد، كما صاحبت عملية الطعن على ترشح سيف الإسلام القذافي في محكمة سبها جنوب البلاد ثم استئنافه مظاهر مماثلة، وبالتالي لا يمكن استبعاد تنامي مستوى التوتر الأمني، على نحو لا يتوافق مع إجراء الانتخابات في أجواء آمنة، والتي تتطلب ترتيبات أمنية واضحة وصارمة، ولن يحدث ذلك بدون اتفاق مع الأطراف التي تقف خلفها هذه المليشيات والفصائل المسلحة، المحلية والأجنبية. وربما هناك مؤشر أخطر من ذلك، ظهر مع الفتوى التي أصدرها الصادق الغرياني "المفتي المعزول" الذي دعا إلى "منع الانتخابات بقوة السلاح"، حيث أن له قاعدة متطرفة مؤيدة له وتتحرك على دربه.

على الجانب الآخر، بدأت بعض الأطراف الدولية، ومنها فرنسا، تتعاطى مع سيناريو التأجيل، حيث أعلن مصدر رئاسي، في 10 ديسمبر الجاري، أن هناك حاجة للحفاظ على زخم العملية السياسية، ما يقتضي أن تكون هناك فترة تأجيل قصيرة. وربما أشارت تركيا هى الأخرى على لسان وزير خارجيتها مولود تشاويش أوغلو إلى الحاجة إلى وجود خريطة طريق واضحة لعملية التأجيل حال الوصول إلى هذا السيناريو، بينما لا تزال مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا والمجموعة العربية ودول الجوار، وفى المقدمة منها مصر، تعبر عن الخشية من إهدار الفرصة، لكن ربما تبلور البعثة الأممية خطة ضمان وإنقاذ مقنعة لهذه الأطراف، لأنه دون خطة واضحة ومتماسكة قد ينطوي سيناريو التأجيل على مخاطر الدخول في دوامة الجدل القانوني والفوضي.

إجمالاً، من المتصور، وفق هذه الرؤى، أن هناك تطورات طرأت على المشهد الليبي تدفع إلى تأجيل عملية الانتخابات، ومن الواضح أن السقف الزمني لموعد الانتخابات المقرر في 24 ديسمبر الجاري غير كافٍ لحلحلتها، ما سيتطلب تمديد المدة لما بعد التاريخ المشار إليه، وبالتالي يمكن القول إن عملية التأجيل لا تحمل بالضرورة التراجع عن الاستحقاق، بقدر ما تعني منحه فرصة أخرى لإجراءه بالشكل المطلوب، وقد تكون هذه الفرصة مدخلاً لتجاوز عقبة كبرى وهى تغير نظرة أطراف السباق الرئاسي للعملية الانتخابية من كونها ساحة صراع إلى الوضع الطبيعي باعتبارها ساحة تنافس، إلى جانب استغلال هذه الفرصة في توفير ضمانات كافية لإجراء الانتخابات في أجواء مستقرة، والاعتراف بنتائجها، حتى لا تتحول هذه الفرصة إلى أزمة تالية.