تظل منطقة الساحل والصحراء ذات أهمية كبيرة بالنسبة للسياسة الفرنسية تجاه قارة أفريقيا، فهى إحدى المناطق الاستراتيجية التى تمتلك العديد من المقومات الجاذبة لاهتمامات القوى الدولية الطامحة للمزيد من النفوذ والهيمنة، والاستفادة من الثروات التى تتمتع بها دول الساحل. وفى ضوء اهتمام فرنسا بالمنطقة والنابع من أهميتها الجيوستراتيجية واعتبارات أخرى عديدة، والمساعى الفرنسية نحو تعظيم مصالحها الحيوية هناك، اندفعت باريس نحو الانخراط بقوة فى قضايا الإقليم خلال السنوات الأخيرة، فى سبيل تعزيز نفوذها خاصة مع تصاعد التنافس الدولى والإقليمى على الساحل وأفريقيا بشكل عام.
وقد ارتبطت باريس ارتباطًا وثيقًا بمنطقة الساحل، لاسيما أنها تمتلك شبكة من المصالح الحيوية فى المنطقة على المستويات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، والتى حددتها انطلاقًا من تبنيها لثلاث استراتيجيات مركبة من أجل تعزيز نفوذها فى الساحل والقارة، والتى تتمثل فى تقوية العلاقات السياسية والدبلوماسية مع الأنظمة الحاكمة والنخب السياسية والاقتصادية فى بلدان المنطقة، أضف إلى ذلك تعزيز العلاقات الاقتصادية وضخ المزيد من الاستثمارات الفرنسية، فضلًا عن الاستراتيجية الأمنية والعسكرية التى تتبناها باريس هناك، وذلك فى الوقت الذي تتمتع فيه دول الساحل بالعديد من الموارد والثروات الطبيعية التى جعلتها محط أنظار العديد من القوى الدولية والإقليمية.
ويمثل التدخل الفرنسى فى مالى، الذى بدأ فى يناير 2013، نقطة تحول محورية بالنسبة للسياسة الفرنسية فى الساحل، حيث عززت باريس نفوذها من خلال قيادة بعض العمليات العسكرية ضد الإرهاب مثل عملية “سيرفال” (يناير 2013- يوليو 2014) التى تحولت بعد ذلك إلى عملية “برخان” (أغسطس 2014)، بالإضافة إلى مشاركتها ودعمها لعدد من المبادرات الدولية والإقليمية؛ بهدف مواجهة التنظيمات الإرهابية فى الإقليم مثل: دعم التحالف الإقليمى لمحاربة الإرهاب فى الساحل (مجموعة دول الساحل الخمس) والدفع نحو تشكيل قوة “تاكوبا” من القوات الأوروبية لمساندة عملية “برخان” فى الإقليم.
وقد تزامن مع التوجه الفرنسى نحو منطقة الساحل وجود سياق إقليمى على درجة كبيرة من التعقيد بفعل تنامى التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التى تواجه معظم دول الساحل، خاصة فى ضوء تراجع الوضع الاقتصادى، وتدنى مؤشرات التنمية الاقتصادية لعدد من البلدان مثل: النيجر وتشاد ومالى. ويعزز ذلك تراجع دور الدولة فى الساحل الذي اتسم بالضعف خلال العقد الأخير، وما ترتب عليه من زعزعة الاستقرار السياسى والأمنى فى الإقليم.
كما يعد إقليم الساحل منطقة رخوة أمنيًّا فى ضوء ضعف القوات الحكومية وضعف التنسيق والتعاون الأمنى والاستخباراتى بين دول الساحل، علاوة على تصاعد التنافس بين عدد من التنظيمات الإرهابية النشطة فى معظم المناطق هناك، والتى يمتد نشاطها إلى مناطق الجوار الاستراتيجى، وهو ما جعل الساحل والصحراء واحدة من أكثر المناطق اضطرابًا فى أفريقيا خلال السنوات الأخيرة.
لذلك، تبنت باريس المقاربة الأمنية كسمة أساسية للتدخل فى منطقة الساحل خلال العقد الأخير، خاصة مع تعاظم أهميتها الاستراتيجية، وتنامى التحديات الأمنية فى عدد من دول الساحل، إلى جانب الاعتماد -ولو بشكل أقل نسبيًّا- على مقاربات أخرى تلعب دورًا فى زيادة التأثير الفرنسى فى النطاق الأفريقى مثل: المقاربة السياسية والاقتصادية والإنسانية والتنموية، لاسيما فى ظل تصاعد الأصوات التى تطالب بعدم الاعتماد على المقاربة الأمنية فحسب من أجل معالجة أزمات المنطقة، بل البحث عن أدوات أخرى اقتصادية وتنموية بهدف مساعدة دول الإقليم فى مواجهة التحديات التى تواجهها للحيلولة دون المزيد من التدهور للأوضاع فى المنطقة.
وتعتبر المقاربة الأمنية لفرنسا فى الساحل إحدى الركائز الأساسية لقوتها فى هذه المنطقة، وترتكز هذه المقاربة على عدد من الآليات الواضحة مثل: توقيع اتفاقيات التعاون الدفاعى، وتقديم المساعدات العسكرية لجيوش المنطقة، وإقامة عدد من القواعد العسكرية فى بعض دول المنطقة، وتمركز عدد من القوات الفرنسية هناك. وتحقق هذه المقاربة بعض المكاسب الاستراتيجية لباريس فى الساحل، من أهمها المكسب الجيوسياسى الذي يتمثل فى الاستحواذ على الثروات والموارد الاستراتيجية مثل (اليورانيوم والنفط)، والمكسب الجيو-أمنى الذي يضمن حضورًا فرنسيًّا متناميًّا وحماية المصالح الفرنسية الحيوية فى المنطقة.
وثمة تطورات لافتة فى المشهد الإقليمى بمنطقة الساحل خلال الفترة الأخيرة قد ألقت بظلالها على التحول فى السياسة الفرنسية إزاء دول الساحل، فقد برزت حالة من التخبط والتردد فى الموقف الفرنسى بشأن استمرار القوات الفرنسية فى المنطقة، والتى كشفت بدورها بوادر تراجع نسبى للوجود الفرنسى هناك، قد تستغله بعض الأطراف الدولية بهدف تعزيز نفوذها على حساب فرنسا، وما يترتب عليه من تهديد لمصالحها الاستراتيجية.
هذا التحول الذي يعكس بوادر التراجع الفرنسى فى الساحل العديد من التداعيات على عدة مستويات مختلفة؛ إذ تظل منطقة الساحل هى الخاسر الأكبر فى حالة استمرار التراجع الفرنسى أو الانسحاب الكامل من دول المنطقة فى ضوء التخوف من تفاقم حالة الفراغ الأمنى، وما يرتبط بها من، تزايد نشاط وتمدد التنظيمات الإرهابية وسيطرتها على نطاق جغرافى واسع، خاصةً تنظيمى “القاعدة” و“الدولة الإسلامية” (داعش)؛ من أجل تعزيز النفوذ فى منطقة الساحل وأفريقيا. بالإضافة إلى تهديد بعض مناطق الجوار الجغرافى مثل: شمال أفريقيا ومنطقة حوض المتوسط وجنوب أوروبا، وتصاعد التنافس الدولى على المنطقة. فضلًا عن تصاعد بعض النزعات الانفصالية لدى بعض الحركات المسلحة التى تنشط فى عدد من الدول مثل مالى.
كما تتعاظم تكلفة التراجع الفرنسى أو الانسحاب المحتمل من منطقة الساحل، لاسيما أن باريس تخشى تهديد مصالحها الاستراتيجية هناك؛ فقد تهتز سمعة فرنسا على الصعيد الدولى، فضلًا عن احتمال فك الارتباط بين فرنسا والساحل على الصعيدين السياسى والأمنى؛ مما قد يؤدى إلى خسارة نفوذها فى المنطقة. كما أن التراجع الفرنسى يفتح المجال أمام انقضاض بعض القوى الدولية الطامحة لإيجاد موطئ قدم لها وتعزيز النفوذ على حساب فرنسا، وهو ما قد يترتب عليه خسائر اقتصادية فادحة بالنسبة لباريس.
ورغم ذلك، يُرجح تصاعد النفوذ الفرنسى فى الساحل والصحراء خلال الفترة المقبلة كون أن تكلفة انسحاب باريس من المنطقة سوف تكون باهظة على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، فى الوقت الذي تحرص باريس على توطيد نفوذها وحماية مصالحها الحيوية فى الساحل، وعدم ترك فراغ تملأه أطراف دولية أو إقليمية مناوئة لها قد تنافسها. فضلًا عن تخوف باريس من عواقب تنامى نشاط الإرهاب فى المنطقة واحتمالات تمدده إلى مشارف الدول الأوروبية، وما يمكن أن يصاحبها من تحديات جمة مثل: تنامى التهديدات الأمنية والجريمة المنظمة وارتفاع معدلات الهجرة غير النظامية. لا تزال باريس هى الفاعل المهيمن فى منطقة الساحل، والفاعل المحورى فى مجال مكافحة الإرهاب الذي تعوّل عليه معظم دول الإقليم ضمن مساعيها لمحاربة الإرهاب فى الإقليم.