لا تبدو الجولة السابعة من مفاوضات فيينا بين إيران ومجموعة "4+1" بمشاركة أمريكية غير مباشرة، التي تعقد يوم الإثنين ٢٩ نوفمبر، كسابقاتها من الجولات الست؛ فالخلافات تراكمت والشروط تضاعفت، وغياب الثقة ما زال قائماً، نتيجة التصعيد المستمر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية منذ انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 وفرضها عقوبات أمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.
ففي مقابل إصرار إيران على توسيع نطاق أنشطتها النووية، لدرجة وصلت إلى رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60% وإنتاج 17.7 كيلو جرام منها حسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 17 نوفمبر الجاري (تصل هذه الكمية حسب التقديرات الإيرانية إلى 25 كيلو جرام)، وهو ما يعني أنها، وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أصبحت على مقربة من خطوة تصنيع سلاح نووي، حيث سيتعين عليها الانتقال إلى الجانب الفني لصناعة المُفجِّر والرؤوس النووية التي سيتم تحميلها على الصواريخ التي تمتلك قدرات هائلة منها. في مقابل ذلك رفضت الولايات المتحدة الأمريكية تخفيف العقوبات المفروضة على إيران بشكل كبير، أو تقديم ضمانات مبدئية قبل التفاوض بشأن عدم انسحابها مجدداً من أى اتفاق محتمل، بل وهددت، قبل التفاوض بيومين، بعقد اجتماع استثنائي لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية للنظر في الملف النووي الإيراني، بما يهدد بإصدار قرار إدانة لإيران، بسبب المشكلات العالقة مع الوكالة حول القيود المفروضة على حركة المفتشين التابعين لها وعدم السماح لهم بزيارة بعض المواقع النووية على غرار منشأة كرج المخصصة لإنتاج وصيانة أجهزة الطرد المركزي.
هذه الخلافات المتراكمة والضغوط المتبادلة تضفي نوعاً من الغموض على ما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات- التي قد تجري على أكثر من جولة- من نتائج في النهاية، وهو ما يطرح مسارات رئيسية ثلاثة محتملة لهذه المفاوضات.
اتفاق مؤقت
قد لا يكون هذا الاتفاق هو الأول من نوعه، فقد سبق أن توصلت إيران ومجموعة "5+1" إلى اتفاق جنيف المؤقت في 24 نوفمبر 2013، والذي مهّد المجال أمام الإعلان عن الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، وهو عبارة عن بديل تكتيكي ناقشه كل من مستشار الأمن القومي جاك سوليفان والمبعوث الأمريكي إلى إيران روبرت مالي في زيارتين منفصلتين لهما إلى إسرائيل.
ويهدف هذا الاتفاق الجديد -حال الوصول إليه- إلى وقف "التصعيد النووي" من جانب إيران على مستوى وقف عمليات التخصيب بنسبة 60%، مقابل تخفيف حدة العقوبات الأمريكية المفروضة عليها وربما السماح بحصولها على قسم من أموالها المجمدة في الخارج، فضلاً عن عدم إصدار قرار إدانة من الوكالة ضد أنشطتها النووية، ومن ثم كسب مزيد من الوقت الذي قد يكون مفيداً لتقليص حدة الخلافات والوصول إلى تفاهمات يمكن أن تساعد في النهاية في تحقيق الهدف الأهم وهو إبرام صفقة جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي.
لكن إلى الآن، لم تتضح بعد مواقف القوى المعنية بهذا الاتفاق، لاسيما إيران، التي أبدت مواقف متشددة منذ وصول الرئيس إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة في 5 أغسطس الماضي وحرصت على تشكيل وفد جديد للتفاوض يختلف في توجهاته عن الوفد السابق. كما أن مسئولي الإدارة الأمريكية لم يتحدثوا عنها بشكل واضح في الفترة الماضية. فضلاً عن أن هذا الاتفاق المؤقت سوف يبقى مرحلياً، وبالتالي لن يحول دون تفجر الأزمة مرة أخرى، في ظل غياب الثقة بين الطرفين، إلى جانب ضغوط القوى الأخرى التي تترقب نتائج المفاوضات وخاصة إسرائيل، التي لا يمكن استبعاد أن تكون تهديداتها المستمرة بالتصرف حيال البرنامج النووي الإيراني أياً كانت نتائج المفاوضات، من ضمن الضغوط التي تستند إليها واشنطن في إدارة خلافاتها مع طهران.
نجاح الصفقة
لا يمكن استبعاد انتهاء المفاوضات بالوصول إلى اتفاق بين إيران والقوى الدولية، وذلك لاعتبارات عديدة. إذ أن إيران في حاجة شديدة إلى مثل هذا الاتفاق، خاصة لجهة احتواء أزمتها الاقتصادية المتفاقمة والتي انعكست بشكل قوي على مجمل المستويات الأخرى، لاسيما المستوى الاجتماعي. ويبدو تجدد الاحتجاجات المعيشية في الوقت الحالي مؤشراً على ذلك، لاسيما لجهة نقص المياه في بعض المدن الرئيسية مثل أصفهان. فضلاً عن أن تنفيذ البرنامج الاقتصادي لحكومة إبراهيم رئيسي يتطلب موارد مالية لا يمكن توفيرها إلا من خلال رفع مستوى الصادرات النفطية الإيرانية والحصول على قسم من الأموال المجمدة في الخارج.
كما أن هذا الاتفاق المحتمل يكتسب ميزة إضافة أخرى، على غرار الاتفاق الحالي، تتمثل في أنه لن يتضمن، في الغالب، قيوداً في الملفات الأخرى، لاسيما برنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية، بعد أن ألمحت الدول الغربية ذاتها إلى أنها تمنح الأولوية في الوقت الحالي لوقف عجلة التقدم النووي الإيراني قبل أى ملف آخر.
في مقابل ذلك، فإن هذه الصفقة تعني بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية إطالة الأمد الزمني الذي تحتاجه إيران للوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية، بعد أن ساهم ارتفاع مستوى أنشطتها النووية في الفترة الماضية في اقترابها إلى حد كبير من تلك المرحلة. وبالطبع، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى أن هذه الصفقة المحتملة سوف تعيد- على الأرجح- مستوى التخصيب إلى 3.67% (بدلاً من 20، و60% حالياً)، وسوف تُقصِّر استخدام أجهزة الطرد المركزي على الطراز الأول فقط "IR 1" (بدلاً من IR4وIR6حالياً)، وسوف تحصر عمليات التخصيب في منشأة ناتانز فقط (بدلاً من منشأتى ناتانز وفوردو حالياً)، وفوق ذلك سوف توسع نطاق عمليات التفتيش والمراقبة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية (بدلاً من القيود المفروضة على أنشطة الوكالة حالياً).
فشل المفاوضات
ربما تؤدي الخلافات المتراكمة بين القوى المعنية فضلاً عن غياب الثقة، إلى فشل المفاوضات في النهاية، على نحو سوف يدفع كل طرف إلى التفكير في خيارات أخرى. فمن ناحية إيران، قد لا تنحصر هذه الخيارات في البرنامج النووي، وإنما ستمتد، في الغالب، إلى الملفات الأخرى، على غرار إجراء مزيد من التطوير في برنامجها الصاروخي الذي يثير قلق الولايات المتحدة الأمريكية ودول المنطقة، فضلاً عن الإمعان في التدخل في الأزمات الإقليمية وتقديم الدعم العسكري والاقتصادي للحلفاء من الأنظمة والمليشيات المسلحة الموجودة فيها، وربما الاتجاه إلى استهداف المصالح الأمريكية بشكل أكبر.
أما من ناحية الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا كان الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية انتوني بلينكين قد تحدثا فعلاً عن اللجوء لـ"أدوات أخرى" في حالة تحقق هذا السيناريو، إلا أنهما لم يفصحا عنها، في حين كان الجنرال كينيث ماكينزي قائد القيادة المركزية الأمريكية أكثر وضوحاً في تناوله للتقديرات والبدائل المطروحة في هذا الصدد. ففي حديثه مع مجلة "التايم"، في 24 نوفمبر الجاري، كشف أن إيران قد أصبحت قريبة للغاية من إنتاج السلاح النووي خلال عام، إلا أنها لم تتخذ بعد هذا القرار -وفقاً لتقديره– حيث لم تصمم بعد رؤوساً نووية حربية يمكنها تحمل الحرارة الشديدة والضغط والاهتزاز عند دخول الغلاف الجوي مرة أخرى، أو مركبات فضائية قادرة على العودة لدخول الغلاف الجوي بعد إطلاق الصاروخ، ما سيتطلب منها تصميم برنامج تدريبي قوي للنجاح في تلك المهمة، كما كشف أن إيران صممت منصة "فعّالة جداً" لإطلاق الصواريخ الباليستية.
وعلى مستوى الخيارات، تحدث ماكينزي وبشكل حاسم عن جاهزية "الخيار العسكري" في حال فشل المفاوضات النووية، وهو ما يتماهى مع الموقف الإسرائيلي الذي يجنح باتجاه الخيار العسكري، وليس فقط خيار الإبطاء الذي اعتمدته إسرائيل خلال السنوات الماضية للمشروع النووي الإيراني، حيث أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالى بينيت على أن إسرائيل قد تلجأ لهذا الخيار حتى ولو بشكل منفرد.
مأزق البدائل المطروحة
من هنا، يمكن القول إن كافة الأطراف في مأزق؛ فالولايات المتحدة الأمريكية فشلت في إقناع حلفائها في الشرق الأوسط، لاسيما إسرائيل، بخيار "الحلول الوسط". كما أن إيران هى الأخرى لم تناقش هذا البديل، وتصر على أولوية رفع العقوبات والعودة إلى الاتفاق الأصلي مع ضمانات بعدم انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق مرة أخرى، وهو ما أكده وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان في حديثه مع جوزيب بوريل منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. وفى واقع الأمر، فإن الحلول الوسط لن تمنع ايران من الحصول على السلاح النووي في نهاية المطاف. ومن زاوية أخرى، يبدو من حديث ماكينزي أن واشنطن لا تقبل بمزايدة إسرائيل على اللجوء للخيار العسكري. كما لا توجد ضمانات لعدم مغامرة إسرائيل بعمل عسكري ضد إيران حتى في ظل انضوائها تحت مظلة القيادة الأمريكية، خاصة أنها قد لا تقتنع في الوقت ذاته بأن ايران تتفهم رسائل الردع المباشرة التي تحملها المناورات المتوالية في منطقة الخليج.
لكن رغم أن إسرائيل سبق ودمرت مشروعين نووين؛ العراقي "اوزيراك" والسوري في منطقة البوكمال، إلا أن وضع المشروع النووي الإيراني، بالإضافة إلى القدرات العسكرية الإيرانية، تعني أن الأمر مختلف، وبالتالي فإسرائيل هى الأخرى في مأزق، فالاتفاق ليس خيارها المُفضَّل كما أن مغامرتها بعمل عسكري ضد ايران لن يكون الخيار المُفضَّل لحلفائها.
ويمكن القول أيضاً إن إيران هى الأخرى في مأزق خيارات، فمن المؤكد أن المراهنة على سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي اتبعتها الأطراف المقابلة في السابق لن تستمر في ضوء التطورات التي طرأت على مشروعها النووي بشكل عام وليس فقط مجرد عملية التخصيب.
قواعد جديدة للعبة
تكشف الأنشطة العسكرية في الشرق الأوسط أن هناك قواعد جديدة للعبة في الشرق الأوسط في التعامل مع إيران، بغض النظر عن مآلات الجولة السابعة، عبر رسم خطة جديدة للردع وقواعد الاشتباك مع ايران. فخلال سنوات الفوضى السابقة في الشرق الأوسط، عملت إيران على نقل خطوطها الهجومية إلى خارج حدودها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بينما تنطوي الخطة الأمريكية على عكس هذا المسار بالضغط العسكري على ايران على خط التماس في الخليج، بالإضافة إلى تعزيز قدرات مواجهة التهديدات غير النمطية مثل الطائرات من دون طيار "الدرونز" مع إضافة القوة (TF59)، إلى جانب خطة تشمل بناء مظلة دفاعية في الخليج للتعامل مع التهديد الصاروخي الإيراني المحتمل.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن هناك إشارات متناقضة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك اهتزاز في الثقة فيها كحليف موثوق من جانب حلفائها في المنطقة. إذ أنها تقلص أصولها العسكرية في الخليج في الوقت الذي تضاعف فيه من الأنشطة العسكرية، وهو ما انعكس في حوار المنامة الذي شارك فيه كل من وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين والدفاع لويد أوستن، واللذين لم يتمكنا من إقناع حلفائهم باستمرار التزام الولايات المتحدة الأمريكية الدفاعي في المنطقة.
إجمالاً، يبدو أن الخيار العسكري ليس هو الخيار المُفضَّل لدى الولايات المتحدة الأمريكية كبديل لفشل الاتفاق رغم زيادة أنشطتها العسكرية في الشرق الأوسط، وستكون المواجهة مع إيران بمثابة تورط جديد لها في المنطقة، ولا تعني الجاهزية لهذا الخيار رغبتها فيه، فحديث ماكينزي لا يؤكد أنه يتبنى خيار اللجوء إلى الحرب، بقدر ما يكشف عن محاولة تبني استراتيجية جديدة للردع. كذلك لا يجب استبعاد لاعبين آخرين وهما الصين وروسيا، فالحرب لن تكون الخيار المُفضَّل لديهما أيضاً، خاصة وأن روسيا عرضت المساعدة وبذل الجهود للتوصل إلى اتفاق في فيينا.