د. أماني الطويل

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية

تشهد الأزمة السياسية السودانية متغيرات غير مستقرة حتي الآن، مرتبطة بتوازنات أطراف المعادلة، وطبيعة الضغوط الدولية والاتجاهات الإقليمية وموقف الشارع والقوى السياسية من الإفراج عن رئيس الوزراء د.عبد الله حمدوك، وعودته إلى منصبه، وكذلك توقيع إعلان سياسي بين المكون العسكري ممثلاً في الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة رئيس المجلس السيادي الانتقالي وحمدوك باعتباره رئيس الوزراء الشرعي.

هناك ملامح للتصعيد تتصل برفض الإعلان السياسي بين البرهان وحمدوك، واستمرار المظاهرات في الشوارع رفضاً لتوافق حمدوك مع المكون العسكري ومطالبته بمحاسبة المتورطين في عمليات قتل المتظاهرين خلال الشهر الماضي على الأقل.

في هذا السياق، تبدو أطراف المعادلة جميعها تتعايش مع توازنات حرجة، قد تقود إلى استقرار الفترة الانتقالية بالفعل، وقد تنتج تداعيات عكسية. ومن هنا، يكون من المهم التعرف على دوافع الإعلان السياسي بين البرهان وحمدوك من جهة، وكذلك بعض ملامحه الأساسية التي ترسم خريطة التفاعلات الراهنة، وطبيعة مواقف القوى السياسية منها من جهة أخرى.

دوافع الإعلان السياسي

ربما يرتبط الدافع الأساسي لإقدام البرهان على إعادة حمدوك إلى منصبه بأمرين: أولهما، طبيعة الضغوط الدولية على المكون العسكري، وأبرزها الضغوط الاقتصادية، حيث جمّدت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدات للسودان بقيمة٧٠٠ مليون دولار، كما لوّح كل من صندوق النقد والبنك الدولي بإعادة النظر في مسألة الإعفاء من الديون، فضلاً عن استمرار الاهتمام الأمريكي بقانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان والذي صدر عن الكونجرس في ديسمبر ٢٠٢٠ بتوجه أساسي هو تقزيم وتحجيم قدرات المكون العسكري في إدارة اقتصاد البلاد.

وثانيهما، عدم تسمية رئيس وزراء بديل، حيث رفض الجميع تولي هذا المنصب وبالتالي بات الشريك المدني مفقوداً، وهو أمر لم يكن مقبولاً لا من المجتمع المدني ولا من الاتحاد الأفريقي الذي جمد أنشطة السودان نتيجة انفراد المكون العسكري بالسلطة.

أما دوافع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في قبول هذه المخاطرة السياسية، فقد أشار إليها في الحوارات التي أجراها بعد خروجه مباشرة، حيث قال أن قبوله العودة هدفه الأساسي هو "حقن دماء الشباب السوداني الذي خرج أكتر من مرة في تظاهرات حاشدة رفضاً لإجراءات ٢٥ أكتوبر". أما غير المعلن من جانب رئيس الوزراء فهو حقيقة أنه قد عاد على خلفية ضغط دولي على المكون العسكري، تم فيه اشتراط عودته بالاسم دون غيره كممثل للمدنيين، وبطبيعة الحال مثل هذا الضغط وقوته يجعل حمدوك بنفسه قادراً على الضغط على المكون العسكري في المستقبل، وكذلك تعديل حالة التفاعل بين الأطراف حتى يتم عبور المرحلة الانتقالية بنجاح.

وعلى مستوى موازٍ، فإن هذا الاتفاق قد أتاح لحمدوك التخلص من تحالف الحرية والتغيير كحاضنة سياسية له، وهى الحاضنة التي لم ترق في أدائها السياسي لمستويات التحدي المطروحة على الدولة، ولم ترق في إدراكاتها السياسية لشروط بلورة انتقال سياسي ناجح، من حيث طريقة إدارة الخلافات وصناعة التحالفات بدلاً من إنتاج الانقسامات الداخلية، فضلاً عن ارتكابها خطأ استراتيجياً كبيراً وهو التراجع عن مراقبة أداء الحكومة لضمان الانتقال الديمقراطي إلى المشاركة في الحكومة بمنهج المحاصصات السياسية، وهو الفخ الذي أسفر عن متوالية من الأخطاء السياسية المؤثرة على وزن وتأثير تحالف الحرية والتغيير وخصوصاً نواته الصلبة التي قادت الثورة السودانية، وهى تجمع المهنيين.

وهكذا، فإن بنود الاتفاق السياسي قد عكست نسبياً توازنات القوى بين الطرفين، وكذلك الموقف الدولي من المعادلة السياسية، حيث أنه من الملاحظ أن لا الإدارة الأمريكية ولا باقي العواصم العالمية كانت على استعداد للتخلي عن المكون العسكري في المعادلة السياسية الداخلية لصالح المكون المدني منفرداً والذي طالب بذلك مراراً وتكراراً خصوصاً من جانب تجمع المهنيين، وذلك نظراًً لهشاشة مؤسسات الدولة وحالة السيولة السياسية أياً كانت أسبابها، وضرورة إنجاز متطلبات اتفاق جوبا للسلام بل واستكماله مع كل من عبد العزيز الحلو الذي من المطلوب احتواءه بعد انخراطه الخَطِر في تحالف عسكري مع أثيوبيا ضد مناوئيها، وذلك فضلاً عن عبدالواحد نور الذي يؤثر فصيله على نحو ما في مجريات كل من تشاد وليبيا، وذلك كله في وقت لم يملك تحالف الحرية والتغيير (المركزي) لا البرنامج المناسب ولا مفردات الخطاب السياسي اللازم للتعامل على المستويين الإقليمي والدولي، وذلك لكسب دعم هذين النطاقين بدلاً من استقطاب عدائهما.

في هذا السياق، تم القبول دولياً، بناءً على طلب المكون العسكري في الغالب، بعدم النص في الاتفاق على تسلم المكون المدني لقيادة المجلس السيادي الانتقالي في نوفمبر الحالي طبقاً للوثيقة الدستورية في نسختها الأولى، كما تم النص في الفقرة الثانية من الاتفاق على ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية عبر آليات التشاور والتوافق، وهذا النص يحقق هدفاً اتفقت عليه كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمكون العسكري، وربما حمدوك أيضاً، حيث كان من المطلوب دولياً التخلص من الحرية والتغيير بسبب تقدير سلبي لها قائم على طبيعة أدائه السياسي من ناحية وحجم المكون اليساري والحداثي من ناحية أخرى، وهو مكون كان له انتقادات واضحة ضد سياسات حمدوك الاقتصادية من تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم عن المحروقات، وتم اعتبارها استجابة لتوجهات رأسمالية، واتجاهات المنظمات الدولية، أكثر منه سياسات مستقلة تراعي العدالة الاجتماعية، وقد تمت الإطاحة بإبراهيم البدوي وزير المالية في حكومة الثورة الأولى لهذا السبب.

تداعيات محتملة

بطبيعة الحال، فإن الخط الناظم لهذا النوع من الخطابات قد يهدد بانحيازات في مرحلة ما لكلٍ من الصين وروسيا غريمى الولايات المتحدة الأمريكية في أفريقيا، كما يهدد بلورة السياسات الاقتصادية كما تراها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الإقليميون للاستفادة من الموارد، خصوصاً المعادن والذهب.

وفيما يخص المكون العسكري، فإن التخلص من تحالف الحرية والتغيير كان مطلباً أساسياً أيضاً، ذلك أنه على الرغم من سياسات الاحتواء التي مارسها المكون العسكري لبعض عناصر وأحزاب الحرية والتغيير، إلا أنه فشل في احتواء كافة عناصره التي بقيت قائدة لفكرة تسليم رئاسة السلطة للمدنيين، وهى المعركة التي نشبت في مايو ٢٠١٩، ومازالت الملمح الرئيسي للتفاعلات السياسية بشكل عام.

كما أن ما حدث كشف عن فشل تحالف الحرية والتغيير في التفاعل مع مبادرات حمدوك الأخيرة، اعتباراً من أغسطس الماضي، وذلك في أكثر من محطة بدأت بمحاولة إصلاح الحرية والتغيير الذي انقسم على نفسه سياسياً، ثم معالجة آثار وتداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة المعلن عنها في ٢١ سبتمبر الماضي، وتكوين اللجنة السباعية بشأن رأب الصدع بين الأطراف قبيل أحداث ٢٥ أكتوبر الفائت، حيث اتسمت مواقف الحرية والتغيير بالتعالي السياسي على رئيس الوزراء، وكذلك عدم إدراك كافٍ بحرج اللحظة السياسية التي يعيشها السودان.

تحديات استكمال المرحلة الانتقالية 

على الرغم من كل المعطيات السابقة بشأن دوافع ومواقف كل من المكون العسكري ورئيس الوزراء في إنتاج الإعلان السياسي بينهما الخاص باستكمال الفترة الانتقالية وكذلك طبيعة الدعم الدولي المساند لهذا الاتفاق الذي رحبت به الولايات المتحدة الأمريكية وكل من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، إلى جانب مصر والسعودية، فإن تحالف الحرية والتغيير مازال يبدو رقماً صعباً على الإقصاء من مجمل المشهد السياسي، ذلك أن القوى السياسية مازالت قادرة على تحريك الشارع لرفض هذا الاتفاق، وذلك في مظاهرات عارمة عمت السودان مؤخراً، ومازالت قواعد الأحزاب السياسية رافضة له، بل إن المعتقلين السياسيين قد خرجوا من محبسهم ليتظاهروا ضد الاتفاق رغم قربهم من شخص رئيس الوزراء على المستوى الإنساني، وكذلك أقدم وزراء حكومة حمدوك على تقديم استقالاتهم جميعاً بما يعني رفضهم التعاون معه في المرحلة القادمة وكان بعضهم من التكنوقراط المطلوبين بخبراتهم.

في هذا السياق، يبدو أن تشكيل الحكومة سيكون تحدياً كبيراً أمام حمدوك في الفترة القادمة، وكذلك باقي هياكل الفترة الانتقالية التي تخضع لولايته طبقاً للوثيقة الدستورية.أما على مستوى المكون العسكري، فإن أهم تحدياته على الإطلاق يتمثل في وحدة مؤسساته، أى إدماج قوات الدعم السريع فعلياً في مؤسسة القوات المسلحة، وذلك في ضوء مقاومة الفريق أول محمد حمدان دقلو لهذه الخطوة، وهى المقاومة التي تبدو واضحة في تصاعد التوتر في دارفور خلال الأيام القليلة الماضية.

وعلى صعيد موازٍ، تبدو مواجهة أزمة شرق السودان تحدياً آخر للمكون العسكري، إذ أعلنت قبائل البجا أنها سوف تغلق ميناء بورتسودان مجدداً الأسبوع القادم، إذا لم يتم إلغاء مسار الشرق من اتفاق جوبا وتدشين منبر سياسي للتفاوض بشأن مستوى تمثيل شرق السودان في هياكل الدولة الانتقالية. وفضلاً عما تمثله هذه الخطوة من تهديد للاقتصاد الذي يعتمد في٧٠٪ من وارداته على ميناء بورتسودان، فإن الخطوة تمثل تهديداً لهيبة الدولة ومعطيات أمنها القومي وتحدياً للمؤسسة العسكرية التي سبق لها توظيف موقف شرق السودان ضد المكون المدني في الأزمة الأخيرة.

إجمالاً، يبدو المشهد السياسي السوداني مفتوحاً على تفاعلات حرجة بين جميع أطراف المعادلة السياسية وكذلك القوى الشبابية المُحرِّكة للتظاهرات الشعبية، وهى تفاعلات تبدو متعددة الاتجاهات، متنوعة التحديات، ولكنها ليست محسومة النتائج.