أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يحتدم الجدل في ليبيا حول مصير عملية الانتقال السياسي الحالية، ما بين سيناريوهين متناقضين، أحدهما يرى أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية في حال إجرائها في موعدها المقرر في 24 ديسمبر المقبل ستشكل نقلة نوعية في مسار الأزمة الليبية، في اتجاه الاستقرار. فيما يرجح الثاني أن تؤدي الانتخابات إلى إعادة إنتاج الصراع المسلح مرة أخرى. وفي حقيقة الأمر، فإن الدرس الرئيسي المستفاد من خبرة الحالة الليبية التي تشكلت خلال العشرية السابقة التي تلت سقوط نظام العقيد القذافي (فبراير 2011) يتمثل في صعوبة التنبؤ بالسيناريو التالي لأى تطور في المشهد الليبي، وبالتالي قد يكون أى من السيناريوهين محتملاً، أو سيناريو آخر من خارج الاحتمالات الممكنة أو التقليدية.

ومن المتصور أن قياس أى مؤشر في الحالة الليبية يتطلب الوضع في الاعتبار حالة عدم الاستقرار. فالمشهد المرحلي الذي ستجرى في ظله الانتخابات ليس استثنائياً في مسار الأزمة التي غلب عليها طابع تكرار المراحل الانتقالية، التي تنطلق من نقطة توافق سياسي سرعان ما تتحول إلى صدام مسلح. فلم تشهد المرحلة الانتقالية الحالية متغيراً جوهرياً في مفاعيل الأزمة بشكل إيجابي يمكن أن ينعكس على عملية التحول ما بين حالتى الاستقرار والفوضى. وعلى الأرجح، لا تزال تلك المرحلة في دائرة الصراع بين الهويات والمشروعات المختلفة وربما بشكل حاد أكثر مما كانت عليه في السابق.

كما لم تؤسس المرحلة الانتقالية لمصالحة وطنية تُقوِّض معادلات الصراع ما بين المنتصر والمهزوم، ما بين أنصار ثورة فبراير وأنصار النظام السابق، والمعادلة الجهوية ما بين شرق وغرب في إطار معركة طرابلس، ولم تقلص المسافات بين المكونات الاجتماعية المتعددة. ورغم إطلاق المجلس الرئاسي لعملية مصالحة وطنية، إلا أنها لم تستكمل بحكم ضيق الهامش الزمني، ومحدودية فاعلية الإجراءات التي وضعت لإرساء قواعد العدالة في توزيع السلطة والثروة. والمناظرة التي يتم استدعائها في هذا المشهد تتمثل في الإجابة عن سؤال ما الذي تغير في مشهد انتخابات 2012 عن الانتخابات التي ستجرى بعد عقد منها تقريباً؟.

يمكن القول إن مشهد الانتخابات الليبية المرتقب ليس استثنائياً أيضاً في إطار التجارب الإقليمية المشابهة التي تجرى فيها الانتخابات في الدول الهشة، التي تشهد أزمات أو صراعات، أو الانتخابات التي تجرى في الدول الواقعة تحت "الفصل السابع" من الأمم المتحدة، أى تحت الوصاية الأممية، والتي تعد بدورها انعكاساً لمواقف ورؤى دولية، إضافة إلى إجراءها في حالة من الفوضى السياسية الداخلية، على نحو ما جرى في الانتخابات العراقية، وهناك قواسم عديدة مشتركة في الحالتين العراقية والليبية فيما يتعلق بالانتخابات، من حيث الظروف والمآلات، فالانتخابات العراقية كانت محل إشادة دولية على مستوى سلامة الإجراءات، ورغم ذلك كان هناك تشكيك في نتائجها.

الأمر الآخر، أن الانتخابات في دول الأزمات والصراعات هى عملية إعادة تدوير مراكز القوى التي تشكلت خلال المراحل الانتقالية، وهو ما تؤكده خريطة الانتخابات الليبية، بالنظر إلى أبرز المرشحين في تلك الانتخابات، وهى الشخصيات التي كانت تلعب دوراً رئيسياً في الصراع السياسي والصراع المسلح وعملية الانتقال السياسي بالإضافة إلى مركز القوى الجديد الذي يشكله أنصار النظام السابق.

هناك أيضاً معضلة أخرى، وهى معضلة السلطة الجديدة. فالسلطة، وفق القانون الليبي الحالي، هى الرئيس، بناءً على الصلاحيات المقررة وفق المادة ١٥ من القانون الذي أصدره البرلمان، والتي تنص على أن الرئيس يتولى تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية، واختيار رئيس الوزراء، وتكليفه بتشكيل الحكومة، وإقالته، فضلاً عن اختيار نائب رئيس الدولة ورئيس الوزراء من غير الإقليم الذي ينحدر منه الرئيس، بالإضافة إلى كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، كما أن له الحق في تعيين وإقالة رئيس جهاز المخابرات العامة بعد موافقة البرلمان، إلى جانب تعيين السفراء وممثلي ليبيا لدى المنظمات الدولية بناءً علي اقتراح من وزارة الخارجية، وعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية، على ألا تكون نافذة إلا بعد مصادقة البرلمان عليها.

ويفسر هذا السياق استحواذ الانتخابات الرئاسية على المشهد الانتخابي مقارنة بالانتخابات البرلمانية. يضاف إلى ذلك أن عملية انتخاب الرئيس في ليبيا للمرة الأولى ستشكل سابقة تاريخية، يؤكد على ذلك حجم الإشكاليات على هذا المنصب، بدءاً من إصدار القانون، وصولاً إلى خريطة المرشحين المحتملين لخوض السباق والتي تقترب من ١٠٠ مرشح، والمتصور أن الجدل الدائر حول هذا المنصب لن يحسم بمجرد انتخاب الرئيس، وسيظل هذا المنصب عرضة للجدل القانوني والسياسي في المستقبل.

صراع الإرادات الخارجية والداخلية

في ضوء المؤشرات السالف الإشارة إليها، لا يزال من المبكر الحديث عن إمكانية انتقال ليبيا من مشهد "إدارة الفوضى" إلى حالة الاستقرار، ولا يعتقد أن هناك رهاناً على الانتقال إلى حالة الاستقرار الشامل بقدر الرهان الدولي على إنتاج سلطة موحدة أكثر استقراراً من السلطات السابقة، من منظور أن تجارب الانتقال السياسي الليبي المتكررة لم تشهد حالة استقرار سياسي، حتى حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في إطار أقرب إلى انتخابات "جمعية وطنية" – إن جاز التعبير– يمثلها ملتقى الحوار السياسي الليبي، لم تحظ بفرصة الاستقرار الكامل، وسرعان ما تحولت إلى حكومة تسيير أعمال بقرار من البرلمان. كما أن السلطة التنفيذية المشكلة من المجلس الرئاسي والحكومة شهدت تباينات في وجهات النظر في قضايا مفصلية.

وهناك تعارض واضح ما بين محصلة الإرادة الدولية والإرادة الوطنية في هذا السياق، وعلى الأرجح حال إجراء الانتخابات سيكون هناك اعتراف دولي بالحكومة المنتخبة، في ظل التوافق الدولي والإقليمي – النسبي – على إجراء الانتخابات، حتى في ظل وجود تباينات حول المرشحين، على سبيل المثال، في مؤتمر باريس أصرت روسيا على قبول تمثيل النظام السابق في الانتخابات، وكانت الإشارات واضحة بميل روسي تحديداً إلى سيف الإسلام القذافي، بينما عارضت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا هذا الأمر، لكن تم التوافق على ضرورة القبول بالنتائج التي ستفرزها الانتخابات.

لكن هذه الصيغة لم تتحقق في المشهد الداخلي في ظل غياب مشروع وطني يحسم الصراع حول القضايا الرئيسية ومنها قضية السلطة، التي لا يزال هناك صراع حولها. وتلوح العديد من القوى المحلية بالعودة إلى الاحتكام إلى السلاح للسيطرة على السلطة. فعلى الرغم من أن هناك التزاماً بقرار وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020)، لكن هذا الالتزام لم يشمل الوفاء بالاستحقاقات التي تضمنها قرار وقف إطلاق النار، لاسيما إجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وإنهاء الوجود العسكري الأجنبي، إضافة إلى أن أغلب الأطراف استغلت تلك الفترة لإعادة تعزيز قدراتها العسكرية وشبه العسكرية استعداداً لجولة قادمة من الاحتراب الأهلي، وتُهوِّن من شأن التلويح الدولي بعقوبات على المعرقلين.

العملية السياسية بين مرحلتين انتقاليتين

لا يزال الرهان على أولوية استقرار السلطة كآلية للانتقال السياسي وفق دورة المراحل الانتقالية محل شك. حتى في أفضل السيناريوهات المحتملة لو أجريت الانتخابات وتم القبول بنتائجها، فإن ليبيا ستدخل في مرحلة انتقال سياسي جديدة، لكن وفق معايير مختلفة في مقدمتها أنه سوف تكون هناك سلطة منتخبة وليس سلطة توافقية. كذلك سيتعين على السلطة المقبلة استكمال التعامل مع الملفات التي سيتم ترحيلها من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة ما بعد الانتخابات، وهى ملفات متشابكة ومعقدة، منها الأمني وفي مقدمتها عملية توحيد الجيش، وإجلاء المرتزقة وإنهاء الوجود العسكري الأجنبي، والاقتصادي كاستكمال توحيد المصرف المركزي، بالإضافة إلى الملفات الاجتماعية، لكن هناك أيضاً ملفات أخرى يعتقد أنها ستكون أكثر صعوبة، وأبرزها ملف الدستور، الذي سيعيد تشكيل الإطار القانوني العام، بما فيه العملية السياسية التي ستفرزها الانتخابات، لاسيما صلاحيات السلطات المختلفة.

في الأخير، يصعب الرهان على الانتخابات كآلية للانتقال السياسي من مرحلة الفوضى إلى مرحلة الاستقرار. فهناك افتقار واضح إلى آليات حقيقية وفاعلة وآمنة للانتقال بين المرحلتين، ولا يزال من المبكر القول أن ليبيا على أعتاب الاستقرار في حال إجراء الانتخابات، بل على العكس من ذلك تشير أغلب المؤشرات الراهنة إلى أن الانتخابات ربما تكون سبباً في إعادة إنتاج الصراع المسلح والفوضى أكثر من احتمالات جلب الاستقرار.