في زيارة هى الأولى من نوعها لمسئول أمريكي رفيع المستوى إلى أفريقيا منذ تولى جو بايدن الرئاسة في يناير 2021، قام وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين، بجولة شملت كلاً من كينيا ونيجيريا والسنغال خلال الفترة (17- 20) نوفمبر 2021، ناقش خلالها عدداً من القضايا محل الاهتمام الأمريكي-الأفريقي المشترك. وربما تكتسب الزيارة أهميتها في ضوء أنها كشفت في مضمونها عن ملامح السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا في عهد الرئيس بايدن.
وقد ركز بلينكن في جولته على العديد من القضايا، التي فرض البعض منها نفسه كالأزمتين الإثيوبية والسودانية نظراً لما تمثله الدولتان من أهمية استراتيجية للسياسة الأمريكية في منطقة شرق أفريقيا من جانب، وما تفرضه الأزمتان من تداعيات سلبية على أمن واستقرار المنطقة بشكل يهدد المصالح الاستراتيجية الأمريكية من جانب آخر. بينما يكشف البعض الآخر من هذه القضايا ما تحتاجه واشنطن من القارة، وما تحتاجه القارة من واشنطن، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- اتساع حدة ونطاق الصراع في إثيوبيا:
تمكنت قوات تيجراي من تحقيق انتصارات ميدانية وسياسية توجت بالتقدم نحو العاصمة الإثيوبية أديس أبابا ووقوفها على بعد 220 كم منها حتى 22 نوفمبر 2021 [1]، إلى جانب تشكيل تحالف عسكري سياسي يُسمى "الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية" يضم 9 فصائل مناهضة للحكومة الإثيوبية، أبرزها جيش تحرير أورومو، وهي تطورات تُنذر بدخول البلاد في حالة من الفوضى تُهدد وحدة وكيان الدولة الإثيوبية، وهو ما دفع واشنطن إلى مطالبة موظفي سفارتها في أديس أبابا ورعاياها بمغادرة البلاد في أقرب وقت ممكن.
وعلى الرغم مما فرضته واشنطن من ضغوط سياسية واقتصاية ودبلوماسية على إثيوبيا لوقف الصراع، شملت التحرك الدبلوماسي الأمريكي عبر الأمم المتحدة (مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان) لإدانة ما تشهده إثيوبيا من انتهاكات، والمطالبة بوقف القتال وبدء حوار وطني إثيوبي شامل لحل الأزمة، إلى جانب فرض قيود على منح تأشيرات دخول إلى مسئولين إثيوبيين وإريتريين متهمين بتأجيج الصراع في إثيوبيا في 24 مايو 2021[2]، ثم اتخاذ واشنطن قرار في 3 نوفمبر 2021 باستبعاد أديس أبابا من القانون التجاري في إفريقيا (أجوا) اعتبارًا من 1 يناير 2022[3]، لم تجنِ واشنطن ثمار تلك الخطوات التصعيدية ولم تحقق مبتغاها.
إلا أنه من اللافت تجنب بلينكن وصف ما ترتكبه أطراف الصراع الإثيوبي من انتهاكات بـ"الإبادة الجماعية" واقتصر على وصفها بـ"الفظائع"[4]، كما أعلن من نيروبي عن انضمامه إلى دعوة وزير الخارجية الكيني لوقف إطلاق النار في إثيوبيا، وهو ما يُمكن إرجاعه لعدة عوامل: أولها؛ أن واشنطن لاتزال تنظر لأديس أبابا كحليف استراتيجي لا يجب خسارته، وأن هناك سقفاً محدداً للتصعيد الأمريكي يدفعها إلى الوقوف على مسافة واحدة من طرفي الصراع، وهو ما يُستدل عليه بتحميل واشنطن كافة أطراف الصراع بما فيها قوات تيجراي، مسئولية ما تشهده إثيوبيا من انتهاكات.
وثانيها، أنه على الرغم من ورود تقارير دولية حقوقية تُشير لارتكاب انتهاكات حقوقية ضد المدنيين في الصراع الإثيوبي أغلبها صادرة عن القوات الإثيوبية وحلفائها في ساحة المعركة، إلا أنه من المرجح أن واشنطن تنتظر تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة قادرة على رصد حقائق الوضع الإنساني والحقوقي في إثيوبيا عن قرب[5]، وما سيسفر عنه التحقيق من نتائج. وثالثها؛ أن إدارة بايدن ترفع شعار "الحلول الأفريقية للأزمات الأفريقية" في سياستها تجاه القارة، بما يمكنها من الحفاظ على مصالحها وحلفائها الاستراتيجيين في آن واحد.
2- الأزمة السودانية وإشكاليات الانتقال الديمقراطي:
مرت السودان بمنعطف سياسي حرج، وذلك عقب القرارات التي اتخذها قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، والتي وصفها بأنها "تصحيح للمسار الانتقالي". وقد دفع ذلك واشنطن لفرض مزيد من الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية شملت تعليقها مساعدات مالية طارئة تبلغ قيمتها 700 مليون دولار[6]، وقيام السفيرة الأمريكية للشئون الأفريقية ومساعدة وزير الخارجية مولي في بزيارة إلى السودان تُعد هي الأولى من نوعها لمسئول أمريكي رفيع المستوى عقب الأحداث في 14 نوفمبر الجاري[7]، أجرت خلالها مباحثات مع المسئولين السودانيين حول آليات حلحلة الأزمة واستعادة الانتقال الديمقراطي، ثم تجديد بلينكن دعوته لإعادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى منصبه خلال زيارته لكينيا، مُشيراً إلى أن تقديم واشنطن المساعدات المالية للسودان مرهون بالتراجع عن قرارات 25 أكتوبر[8].
وقد تراجعت حدة الأزمة عقب توقيع حمدوك اتفاق سياسي مكون من 14 بند مع البرهان في 21 نوفمبر2021، قضى باستعادة الأول لمنصبه وإطلاق سراح جميع المعتقلين، وإجراء تحقيق حول ما ارتكب من تجاوزات خلال المظاهرات الشعبية المندلعة منذ 25 أكتوبر، وأدت إلى سقوط عدد من القتلى والمصابين[9].
3- ترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان:
لدول القارة تاريخ حافل ملئ بالانقلابات العسكرية كالتي شهدتها دول مالي وتشاد وغينيا، إلى جانب تسجيلها مستويات متدنية في مؤشرات الشفافية واحترام حقوق الإنسان والحريات. وفي ظل تأكيد الرئيس بايدن على أن تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان يُمثلان محور اهتمام السياسة الخارجية الأمريكية، طالب بلينكن خلال زيارته دول القارة بتعزيز الديمقراطية، ومعدل الشفافية ومكافحة الفساد، مشيراً خلال لقاءه بممثلي المجتمع المدني الكيني إلى أنه على مدار العقد الماضي، شهدت جميع أنحاء العالم ما أسماه بـ"الركود الديمقراطي"، بما في ذلك البلدان الديمقراطية نظراً لما تواجهه من ضغوط تتصاعد مع اقتراب موعد الانتخابات، مثلما هو الحال في كينيا التي تتأهب للانتخابات في أغسطس 2022، والولايات المتحدة التي أقر بلينكن بأنها لم تكن نموذجًا مثاليًا للديمقراطية في أعقاب هجوم أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب على مبنى الكابيتول في 6 يناير الماضي[10]، وبالتالي يُعد تراجع الديمقراطية مشكلة عالمية وليست أفريقية، وقد أعلن بلينكين عن عقد بايدن قمة افتراضية للديمقراطيات بمشاركة17 دولة أفريقية من بينها كينيا ونيجيريا والسنغال في ديسمبر 2021[11].
4- تعزيز الجهود الأفريقية لمكافحة كوفيد-19:
اكتسب ملف تعزيز القدرات الأفريقية لإنتاج لقاحات مضادة لكوفيد-19، أهمية خاصة على أجندة بلينكن خلال جولته الأفريقية؛ حيث تسجل دول القارة وضعاً صحياً متردياً عقب انتشار جائحة كورونا، في ظل ضآلة ما يقدم من دعم دولي لتوفير اللقاحات لدولها؛ فمن إجمالي 54 دولة أفريقية، تمكنت 15 دولة أفريقية من الالتزام بتطعيم 10% من سكانها بحلول سبتمبر 2021 وفقاً لتوجيهات منظمة الصحة العالمية، بينما قامت نصف دول القارة بتلقيح أقل من 2٪ من سكانها، بما ذلك البلدان ذات الكثافة السكانية العالية مثل إثيوبيا ونيجيريا، في حين لم تبدأ كل من بوروندي وإريتريا بعد بطرح برامج التلقيح[12].
بناءً عليه، لم يكن من الممكن ألا تُدرج واشنطن مسألة تعزيز تعاونها مع دول القارة في مكافحة كوفيد-19، وهي تُعد من أبرز التحديات الأفريقية، لذا تعهد بلينكن خلال زيارته للسنغال بتقديم دعم مالي لإنشاء مصنع "لقاحات" في العاصمة السنغالية داكار يُسمى "ماديبا" لمكافحة كورونا وتعزيز القدرات الصحية لدول القارة في مجال مكافحة الأوبئة.
مقاربة أمريكية جديدة نحو القارة.. دلالات ورسائل
عسكت جولة بلينكن الأولى لأفريقيا عدة دلالات، حملت العديد من الرسائل السياسية لدول القارة، وكذلك لبعض القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في علاقات متشابكة مع القارة وعلى رأسها الصين، كشفت في مجملها عن الحرص الأمريكي على استعادة أفريقيا مكانتها في السياسة الخارجية الأمريكية كشريك استراتيجي مهم وقوة جيوسياسية رئيسية، وذلك عبر مقاربة أمريكية جديدة نحو القارة، بعدما وصلت العلاقات الأمريكية- الأفريقية لأدنى مستوياتها خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- جدية أمريكية لدعم دول القارة في مواجهة تداعيات ظاهرة التغيرات المناخية: جاءت الجولة الأفريقية عقب أيام من انتهاء قمة غلاسكو للمناخ "المؤتمر السادس والعشرين للأطراف في الاتفاقية الإطارية بشأن التغير المناخي" (كوب 26) المنعقدة على مدار أسبوعين منذ انطلاقها في 31 أكتوبر 2021، والتي تعهدت واشنطن خلالها بالالتزام بوقف تمويل مشاريع مصادر الطاقة الأحفورية بحلول نهاية العام 2022[13]، باعتبارها أحد الأسباب الرئيسية لظاهرة التغيرات المناخية التي تعاني دول القارة من تداعياتها. وفي حقيقة الأمر، لم يكن هذا التعهد الأمريكي هو الأول في تاريخ الولايات المتحدة في هذا المجال، والذي يُستدل من خلاله على جدية الموقف الأمريكي لمجابهة مخاطر التغيرات المناخية ودعم قدرات الدول النامية للحد من تداعياته؛ فسجل واشنطن في هذا المجال لا يبعث على التفاؤل.
لكن يكمن الاختلاف في ملمحين رئيسيين: أولهما؛ أن ملف الحد من ظاهرة التغيرات المناخية يُعد أحد مداخل تعزيز التقارب الأمريكي- الأفريقي من المنظور الأمريكي، وهو ما يُفسر تعهد بلينكن بدعم تعاون واشنطن مع دول القارة لمواجهة التغير المناخي، في ظل عدم وفاء المجتمع الدولي بالتزامه بمنح 100 مليار دولار كل عام للدول النامية لدعم قدراتها على مواجهة تداعيات تلك الظاهرة، وهو ما دفع وزير الخارجية النيجيري جيفري أونياما لمطالبة واشنطن بحث ودفع الدول الصناعية الأخرى على الوفاء بالتزامتها.
وثانيهما،أن إدارة بايدن تولى اهتماماً بمخاطر وتداعيات تلك الظاهرة في سياستها الداخلية والخارجية، على العكس من إدارة ترامب، وهو ما يستدل عليه بإعلان بايدن في نوفمبر 2021 أن واشنطن خسرت 99 مليار دولار في العام 2020 بسبب التغيرات المناخية، وأن مشروع "بناء أمريكا أفضل" الذي أقره الكونجرس بتكلفة بلغت تريليون دولار، يتضمن سياسات تهدف إلى تقليص الانبعاثات الغازية للحد من تلك الظاهرة[14]. كما سبق وأن أعلن بايدن في أبريل 2021 بأن واشنطن ستضاعف تمويلها الدولي العام للبلدان النامية الأكثر تضرراً من أزمة المناخ[15]، وهي جميعها مؤشرات تدفع دول القارة لإعادة تقييم الموقف الأمريكي من دعمها في هذا الملف بشكل إيجابي، مع انتظار ما ستُقدمه واشنطن لدول القارة في هذا الملف؛ إن لم يكن انطلاقاً من إدراك إدارة بايدن لمخاطر تلك الظاهرة، فمن منطلق كونه إحدى آليات تعزيز التقارب الأمريكي- الأفريقي.
2- التنافس الأمريكي- الصيني في أفريقيا وسياسة "السباق إلى القمة": لم يكن توقيت زيارة بلينكن لأفريقيا عموماً، واختيار السنغال وكينيا ونيجيريا كمحطات في جولته الأفريقية بمحض الصدفة؛ حيث تأتي الزيارة قبل أيام قليلة من انعقاد قمة صينية- أفريقية "فوكاك" في العاصمة السنغالية داكار في نهاية نوفمبر 2021، من أجل تعزيز الشراكة الاستراتيجية والتعاونية الشاملة بين الصين وأفريقيا. كما أن الفندق الذي أقام فيه بلينكين خلال زيارته لكينيا كان يستضيف حينئذٍ اجتماعاً لمجموعة الأعمال الصينية-الكينية، فضلاً عن أن الصين تُعد أحد أكبر المقرضين الثنائيين لنيجيريا عبر الاستثمار في تطوير بنيتها التحتية،وهو ما يُشير إلى امتداد التنافس الصيني- الأمريكي إلى الساحة الأفريقية، في ظل رؤية بايدن لبكين بأنها التحدي الأكبر لواشنطن في القرن الحادي والعشرين، يقابلها رؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ لواشنطن كأكبر مهدد للتنمية والأمن في الصين[16].
فلقد حرص بلينكن خلال جولته الأفريقية على توجيه انتقادات غير مباشرة للاستثمارات الصينية في البنبة التحتية الأفريقية، ودورها في إثقال كاهل الدول الأفريقية بالديون في إطار ما يُسمى بـ"فخ الديون"، دون تسميتها صراحةً، وهي تلميحات رد عليها وزير خارجية نيجيريا جيفري أونياما بأن الدين الصيني بلغ نحو 3.121 مليار دولار بنسبة 3.94٪ من إجمالي رصيد الدين العام لنيجيريا اعتبارًا من مارس 2020[17]، وهي نسبة يُمكن تحملها. فلا تزال تدين دول القارة بالكثير لبكين لحرصها على تعزيز التعاون مع دول القارة عبر بوابة تعزيز الاستثمار في ملفات رأسمالية ضخمة وثقيلة، عزفت الكثير من الدول عن الاستثمار فيها نظراً لتكلفتها العالية بما في ذلك واشنطن، وهو ما أكسب بكين مع الوقت ظهيراً سياسياً أفريقياً.
واتجه بلينكن عند سؤاله عن أبعاد التنافس الأمريكي- الصيني على الاستثمار في البنية التحتية الأفريقية، للتأكيد على أن الأمر لا يتعلق بالانخراط الصيني أو غيره في القارة، وأن المسألة مسألة "سباق إلى القمة"، أي التنافس والتسابق على تعزيز النفوذ في القارة عبر بوابة التنمية والاستثمارات في البنية التحتية الأفريقية، وهو ما يُفسر سبب توقيع بلينكن مع نظيره النيجيرى أونياما على برنامج مساعدات تنموية بقيمة 2.17 مليار دولار[18]، بما يشير إلى بداية الانخراط الأمريكي التنموي في القارة، في محاولة لوضع الأفارقة أمام القبول بأحد الخيارين، أحدهما يتمثل في النموذج التنموي الصيني المُثقل بالديون، وآخر يتمثل في النموذج التنموي الأمريكي المشروط بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان.
3- نقاط ارتكاز أمريكي جديدة للانطلاق نحو القارة: بخلاف الانخراط الصيني في القارة كدافع لواشنطن لإعادة النظر في علاقاتها مع دول القارة، والعمل على بناء سياسة أمريكية موازية للسياسة الصينية في القارة، تحرص واشنطن على تحديد نقاط تمركز جديدة في شرق وغرب القارة ممثلة في البلدان الثلاث (كينيا، نيجيريا، السنغال)، تمثل كل منها أهمية استراتيجية في سياسة واشنطن نحو القارة.
وتنظر واشنطن إلى كينيا كحليف استراتيجي جديد في شرق أفريقيا له ثقل سياسي واقتصادي، في ظل ما تشهده إثيوبيا من أزمة سياسية وأمنية حادة أدت إلى توتر العلاقات الثنائية، وهو ما يُفسر سبب اختيار واشنطن لكينيا لتلقي مساعدات أمريكية من أجل تطوير توليد الطاقة النووية والانتقال إلى الطاقة النظيفة في نوفمبر 2021 [19]، وإعلان بلينكن اختيارها كذلك لتكون أول المستفيدين من الجهود الأمريكية الجديدة لتسريع التطعيمات ضد كوفيد في إفريقيا. وتكمن أهمية نيروبي الاستراتيجية لواشنطن في عدة نقاط: أولها؛ أن نيروبي واحدة من ثلاثة دول أفريقية في مجلس الأمن الدولي، وبالتالي اكتساب واشنطن صوت أفريقي داعم لمواقفها في المنبر الأممي، ومنه إلى ساحة شرق أفريقيا. وثانيها؛ ما يُبذله الرئيس الكيني من جهود لوقف القتال في إثيوبيا، كان آخرها زيارته لأديس أبابا في 14 نوفمبر- أي قبل أيام من زيارة بلينكن- حيث أن واشنطن في حاجة لقراءة مواقف أطراف الأزمة الإثيوبية عن قرب، وتقييم الوضع الميداني للصراع وتداعياته الإقليمية في ظل توتر العلاقات الأمريكية- الإثيوبية، لذا كان من المهم لواشنطن التشاور والتنسيق مع كينيا التي تمتلك حدوداً مشتركة مع إثيوبيا. وثالثها؛ الدور الكيني في مكافحة الإرهاب وطبيعة الوضع الأمني في الصومال؛ حيث أن واشنطن في حاجة لتقييم الوضع الأمني في الصومال لكي تتمكن الإدارة الأمريكية من حسم موقفها من إعادة إرسال القوات الأمريكية البالغ عددها 700 جندي إلى الصومال بعد انسحابها في يناير 2021 [20]، وهو ما لا يُمكن إتمامه بدون التنسيق والتشاور مع جارتها كينيا. بالإضافة إلى الدور الكيني في مكافحة الإرهاب وضرورة تعزيز التعاون والتنسيق الأمني والعسكري الكيني الأمريكي لمكافحة الإرهاب؛ فلا تزال حادثة مقتل ثلاثة أمريكيين بينهم جندي في هجوم على قاعدة ماندا باي العسكرية في شمال شرق كينيا بالقرب من الحدود مع الصومال في العام 2020، عالقة في الذهن الأمريكي. لذا تحرص واشنطن ونيروبي على الاستعداد جيداً لأي هجوم ارهابي مماثل في ظل تصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في الصومال.
أما بالنسبة لنيجيريا، فتكمن أهميتها الاستراتيجية لواشنطن في عدة نقاط: أولها؛ أن الاقتصاد النيجيري يُمثل ثانى أكبر اقتصاد بعد جنوب أفريقيا[21]، ويمتلك ثامن أكبر احتياطي للنفط الخام في العالم بحوالي 37 مليار برميل، وتاسع أكبر احتياطي للغاز الطبيعي بحوالي 5.2 تريليون متر مكعب[22]، وبالتالي تُعد شريكاً اقتصادياً وتجارياً مهم لواشنطن. وثانيها؛ أن نيجيريا تعد أكبر دول أفريقيا من حيث التعداد السكاني بواقع 214 مليون نسمة، ومن المتوقع أن تصبح ثالث أكبر دولة من حيث عدد السكان بحلول عام 2050، ومخاطبتها يعني مخاطبة ما يعادل 20% من سكان أفريقيا جنوب الصحراء[23]، فضلاً عن كونها تُعد سوقاً استهلاكية ضخمة. وثالثها؛ الوقوف على مستجدات الأزمة الإثيوبية في إطار ما يبذله الرئيس النيجيري السابق والمبعوث الخاص للاتحاد الأفريقي أولوسيغون أوباسانجو من جهود دبلوماسية لحلحلة الأزمة ووقف القتال[24]. ورابعها؛ في ضوء ما تشهده الساحة الأمنية النيجيرية، ومنطقة الساحل من تحديات أمنية أدت إلى تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية، فهناك ضرورة ملحة لتعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي الأمريكي- النيجيري لمجابهة الإرهاب، لاسيما عقب تقليص القوات الفرنسية في منطقة الساحل وفقاً لاستراتيجية إعادة التمركز المعلنة في يونيو 2021، وما يترتب عليها من فراغ أمني.
لذا، قام بلينكن -في خطوة لكسب الود النيجيري- بإزالة نيجيريا من القائمة السوداء للولايات المتحدة للدول التي تنتهك الحرية الدينية قبيل جولته لأفريقيا، وهو القرار الذي سبق وأن اتخذه سلفه مايك بومبيو في عهد الرئيس السابق ترامب.
فيما يتعلق بما تمثله السنغال من أهمية استراتيجية، فتحرص واشنطن على تقديم نموذج ناجح للدولة الديمقراطية في أفريقيا التي ترسخ من قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتمكنت من الحفاظ على استقرارها في ظل إقليم مضطرب، هذا إلى جانب ما يمتلكه الاقتصاد السنغالي من مقومات مكنتها من تسجيل نمو إيجابي في الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2020 بنسبة 0.87% في ظل جائحة كورونا، كان الأعلى في تاريخ البلاد على الإطلاق[25]، وهو ما يجعل منها شريكاً اقتصادياً مهماً لواشنطن.
إجمالاً لما سبق، هناك سعي حثيث من جانب الولايات المتحدة للانخراط الحذر في أفريقيا من أجل تعزيز نفوذها واستعادة مكانتها في أفريقيا عبر بوابة التنمية ودعم القدرات الأفريقية لمكافحة كورونا، بما يدعم موقفها التنافسي في مواجهة الصين، ولا يدفعها في الوقت نفسه للتخلي عن شعار"الحلول الأفريقية للأزمات الأفريقية".
[1]- صحيفة الشرق الأوسط، رئيس الوزراء الإثيوبي يقود قواته على الجبهة مع اقتراب المعارك من العاصمة، 23/11/2021. متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/vz71P
[2]- واشنطن تفرض قيوداً على منح تأشيرات للمسؤولين عن إذكاء النزاع بإقليم تيغراي الأثيوبي، فرانس 24، 24 مايو 2021.
https://cutt.us/Ed1oS
[3]- بايدن يلغي تفضيلات تجارية لإثيوبيا وأديس ابابا تعلن حالة طوارئ على مستوى البلاد، فرانس 24، 3/11/2021. متاح على الرابط التالي:https://cutt.us/pZpty
[5]- أحمد عرفة، أمريكا تطالب بإجراء تحقيقات دولية بشأن انتهاكات إثيوبيا لحقوق الإنسان فى تيجراى، اليوم السابع، 2 مارس 2021.
https://cutt.us/FNKti
[9]-السودان.. حمدوك يعود لرئاسة الحكومة بموجب اتفاق سياسي مع البرهان، روسيا اليوم، 21 نوفمبر 2021.
https://cutt.us/4Qdem
[14]- حميد الكفائي، قمة المناخ تطلق النار على الفحم إنقاذا للأجيال المقبلة، سكاي نيوز عربية، 17نوفمبر 2021 .
https://cutt.us/KHBmQ
[15]- كلمة الوزير أنتوني بلينكن الكلمة التي ألقاها في اجتماع مجلس الأمن حول المناخ والأمن، وزارة الخارجية الأمريكية.
https://cutt.us/wZ1ky
[16]- مركز الإمارات للسياسات، أبعاد تنافُس الولايات المتحدة والصين وتأثيره على الشرق الأوسط، 16 مارس 2021.
https://epc.ae/details/featured/sino-american-competition-and-its-impact-on-the-middle-east
[19]- أمريكا تخصص 25 مليون دولار لتوسيع نطاق الوصول إلى الطاقة النووية النظيفة، أخبار اليوم، 4 نوفمبر 2021 .
https://cutt.us/hsfxh
[20] -Crises in Sudan and Ethiopia Worsen as Blinken Begins Africa Visit, OP.CIT.
[22]- حسن بركية، نيجيريا بلد النفط والفقر .. تنوع تهدده الصراعات، العين الإخبارية، 28 فبراير 2019.
https://al-ain.com/article/africa-nigeria-conflicts
[23] - Blinken discusses US-Africa policy during his visit in Nigeria, Africa news, 19 Novamer 2021.
https://www.africanews.com/2021/11/19/blinken-discusses-us-africa-policy-during-his-visit-in-nigeria/
[24] - Conor Finnegan, OP.CIT.