تزامن مع استشراء جائحة كورونا المعروفة علميا بـ “كوفيد- 19” شعور بعدم اليقين والضعف يفوق وطأة أوقات الحروب. ومع سرعة تفشى الجائحة، خشى القادة والسياسيون فى دول العالم من التأثير الاقتصادى السلبى الناتج عن انتشار الجائحة، فقد واجه هؤلاء تحديًا رئيسًا تمثل فى سرعة التصرف فى ظل ضبابية المشهد؛ مما دفعهم إلى فرض تدابير لتأمين حياة المواطنين سرعان ما حدّت من الحرية الشخصية والمشاركة الديمقراطية. وشملت آثار هذه التدابير جميع النظم السياسية ومثلت تحديًا بشكل كبير وخاصةً للنموذج الديمقراطى الغربى ولمقولاته المؤسسة، وذلك مع صعود الحركات الشعبية والقومية المحلية، والتهديدات الجيوسياسية الخارجية، كما أضافت “الجائحة” نوعًا جديدًا من اختبار مدى قدرة هذا النموذج على التأقلم والمواجهة، فأثار الشكوك حول العولمة، واتخاذ القرار الديمقراطى، وموثوقية العلم والمعلومات، وفى نهاية المطاف قدرة النموذج الديمقراطى على التعامل مع الأزمات واستشراف المستقبل. فى هذا الإطار، تركز هذه الكراسة على الأنظمة الديمقراطية الغربية فى تفاعلها مع الجائحة انطلاقًا من الافتراض الشائع بأن مثل تلك الأنظمة تعد بالضرورة هى الأكثر “كفاءة” فى مواجهة الأزمة بشكل فاعل.
فالديمقراطية تحتاج لتكامل ممارستها وصحة تطبيقها إلى رعاية واهتمام مستمرين، ولكن برزت خلال الأزمة مجموعة من المظاهر التى عكست ممارسات لحكومات الدول الديمقراطية التى تعكس توسيع مدى سلطاتها والحد من المجالين السياسى والمدنى، الأمر الذى يضع المنظومة الديمقراطية برمتها موضع التساؤل ويعرضها إلى انتكاسة ديمقراطية قد تنال من المبادئ الديمقراطية وتؤدى إلى استغلال السلطة والحد من الحريات العامة. فقد أجبرت الجائحة دول العالم على إغلاق حدودها واتباع سياسة انعزالية فى محاولة للحد من تأثير الفيروس على الصحة العامة، إذ أوقف تهديد الجائحة الحركة التجارية والاقتصادية حول العالم بعد تشديد الحكومات إجراءاتها، وإقفال الشركات أبوابها، فى محاولة لاحتواء انتشار المرض، كما زادت القيود على السفر والتسوق والانتخابات والطقوس الدينية.
ومن ثم، أصبح الشغل الشاغل للدول هو كيفية السيطرة على الأزمة، فقد أدى الانتشار السريع للجائحة إلى وجود تباين فى أساليب وآليات المواجهة بين الدول على مستوى العالم، كون سرعة انتشار الجائحة قد فرضت على كل نظم الدول على اختلاف أنواعها -سواء ديمقراطية أو شمولية- تحديات كبيرة تتمثل فى كيفية التوازن بين الحفاظ على الصحة العامة والحد من تأثر الاقتصاد، فتباينت الإجراءات بين الإغلاق الكامل والجزئى، وبين إستراتيجيات التخبط فى التعاطى مع الأزمة، مثل سياسات “مناعة القطيع” وعدم الاكتراث، أو الإغلاق الكامل، إلا أن تباين طرق التعامل مع الأزمة قد أصاب قطاعى الصحة والاقتصاد فى العديد من دول العالم بالشلل التام دون تفرقة بين أنماط النظم السياسية داخل تلك الدول.
لقد وضعت الجائحة مليارات المواطنين حول العالم قيد الحجر الصحى، الذى قد يتسبب فى أسوأ ركود اقتصادى فى العصر الحديث. كما أضحت أزمة كورونا أحدث جبهة للصراع المتزايد بين الأيديولوجيات التى أصبحت سمة أساسية للجغرافيا الجيوسياسية فى السنوات الأخيرة، فى الوقت الذى يواصل فيه عدد من الأنظمة الشمولية الترويج لإنجازات إستراتيجية الإغلاق الصارمة فى كبح انتشار الفيروس، فإن مستوى استجابة بعض أنظمة الدول الديمقراطية اختلف كثيرًا عن تلك الأنظمة الشمولية؛ليبقى السؤال المطروح حول مدى كفاءة النظم الديمقراطية فى إدارة الأزمات؟
ففى إطار الأزمة، تبدو النظم غير الديمقراطية أكثر سرعة فى فرض وإنفاذ قواعد مختلفة لخدمة المصلحة العامة مع امتثال المواطنين لأوامر السلطة واحترامها. بينما فى بعض الديمقراطيات، أساء المواطنون فهم حرياتهم وامتنعوا عن اتباع تدابير الحماية مثل ارتداء أقنعة الوجه، توافقا مع القيم الديمقراطية التى تعزز الاستقلال الذاتى الفردى والحريات العامة. ورغم أن المواطنين فى كثير من الحالات صادقوا -أو على الأقل وافقوا- على قواعد التباعد الاجتماعى الصارمة التى تهدف إلى الحد من الوفيات الناتجة عن الإصابة بالفيروس، إلا أن السياسات غير المتماسكة وطريقة التنفيذ قد قوّضت الثقة فى الحكومات والمعايير الديمقراطية، خاصة مع تراجع الحريات المدنية والاعتداء على حرية التعبير وإخفاقات المساءلة الديمقراطية التى حدثت نتيجة أزمة الجائحة.
ولعل مظاهر مثل تأجيل الاستحقاقات الانتخابية وإيقاف المناقشات البرلمانية فى عدد من الأنظمة الديمقراطية، والتعامل مع صعود النزعات الشعبوية والقومية، والتصدى للمعلومات المضللة محليا ودوليا، والتطبيق واسع النطاق لإجراءات الطوارئ والأحكام العرفية، التى تكسر عماد تلك الأنظمة القائمة على فصل السلطات. كلها مظاهر تعطى ملامح لدور جديد محتمل للدولة قد ينتج شكوكا حول إمكان تنازل تلك الدول عن سلطاتها المكتسبة مستقبلا بعد انتهاء الأزمة، ويصيب أنظمتها الديمقراطية بشروخ مجتمعية وقيمية تضع المبادئ التى تؤسس عليها القيم الديمقراطية موضع التساؤل والمراجعة.