أولا: مدخل... المكان والمدينة الحديثة والمقهى ووظائفه
لعبت المقاهى فى الحياة الحديثة والمعاصرة دوراً هاماً فى المدن الكبرى فى باريس، وروما، ولندن، وفيينا، وبرلين، ونيويورك، فى الحياة الثقافية، لاسيما المقهى على النمط الفرنسى، الذى شهد أدواراً سياسية وثقافية بارزة فى التاريخ الفرنسى، من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وذلك كحامل للحداثة ومابعدها، وبعض مدارسها، مثل السريالية والوجودية...الخ، ووظائفها الاتصالية والحوارية، والإبداعية من خلالها، فى الفلسفة والفنون التشكيلية، والروائية والشعرية والموسيقية مثل موسيقى الجاز في مشارب ومقاهي نيو اورليانز وباريسالخ.
هناك جدل تاريخى بين الأمكنة والمدينة، وفضاءاتها السياسية والثقافية. ويذهب داريوش شايغان، فى الهوية والوجود، إلى أن الفضاء والمدينة التى تجسده لا ينبثقان من هكذا مصادفة. ثمة خلف هذه التحولات عقل يتصورها، وروح تشترعها، ورؤية تضعها حيز التنفيذ. يقول شايغان "لقد عرفت أمراً: توجد بين المسكن، أى الحيز المكاني المشيدة، ومن ثم المدنية، وبين الفضاء الذهنى، توافقات كثيرة، وأنه لا يمكننا أن نُدخل أى تعديل فى طرف دون التأثير فى الآخر، وأن الفضاء الذهنى فى نهاية المطاف الذى ينمذج ويهيكل المسكن وروح المدينة".ويذهب شايغان إلى "أن العمارة منوطة بحلم جماعى، وبيوتوبيا أو باستيهام. يستحيل فهم باريس الهوسمانية دون الأيديولوجيا الملكية للإمبراطورية الثانية. كما لا يمكن فهم هذه العاصمة/ الدنيا فى العصر الحديث والمعاصر دون فهم الإيديولوجيات التى سادت القرن العشرين، وفلسفاته الكبرى، وحركاته الفكرية والفنية".[1] من ثم، ذهب شايغان إلى أن باريس "ما من مدينة تشبهها فى خاصيتها النادرة لكونها كتاب العالم".[2]
المدينة الأوروبية العريقة فى التاريخ والثقافة والفنون والسياسة، تختلف عن المدينة الأمريكية، ونيويورك مثالاً، لأنها وفق الفيلسوف الفرنسى ميشال دو سارتو، هى مدينة "على الخلاف من روما، لم تتعلم نيويورك فن التقدم فى السن باستثمارها الماضى. حاضرها يبتكر ساعة بعد ساعة فى فعل التخلي عن المكتسب وتحدي المستقبل. فهى مدينة مركبة من أمكنة حادة ذات تضاريس بارزة. يمكن للمشاهد أن يقرأ فيها عالما نشوياً. يُكتب فيها الأشكال المعمارية ذات التناقض المتواطئ الذى رسمت معالمه المنمنمات والرويات العرفانية".[3]
وفى منطوق الخطوات العابرة يتناص ميشيل دو سارتو مع فيرجيل بقوله فى الإلياذة -1 (ص 405 الطبعة الفرنسية) "تُعرف الآلهة بخطواتها، ويبدأ التاريخ من عتبة الأرض، أى بالخطوات، هذه الخطوات هى العدد الذى لا يشكل السلسلة. لا يمكن عدها لأن وحداتها هى ذات طبيعة نوعية: أسلوب فى الإدراك الملمسي والتملك الحركى".[4] وأن لُعب الخطوات هى تشكيلات مكانية تحبك المواضع. تشكل الحركات السيرية أحد هذه "الأنساق الواقعية، حيث يضع تواجدها المدينة فعليا".[5]
الخطوات كأنساق على الأمكنة، هى نظرة إلى المدينة من منظور الفعل الإنسانى عليها، بينما تبدو الأمكنة فاعلة، أى كفعل مكاني وحامل للتفاعلات السياسية والثقافية والتاريخية، ومن ثم يبدو حاملاً لذاكرة تاريخية، ومرموزات، وعلامات على أحداث سياسية، أو أمكنة للتفاعلات الثقافية على النسق الفرنسى (الميادين والمقاهى والمشارب والمطاعم والمتاحف، والتماثيل، والمتاحف، والقصور التاريخية...الخ). من هنا، تبدو الأمكنة حاملة ذاكرات، تؤثر فى تفاعلات العابرين، والمقيمين فيها. ويشكل الحيز المكانى، لاسيما المقهى والمشرب دوراً بارزاً فى ذاكرات المدن، وتاريخها، خاصة بعضها الذى شهد أحداثا تاريخية بارزة سياسية، وثقافية، على النسق الفرنسى، ووظائفه المتعددة، على نحو ما يذكر بعض المؤرخين للمقاهى الفرنسية. ويمكن استخلاص بعض هذه الأدوار مما كتبه بعضهم فيما يلى:
1- الدور السياسى، من خلال دور بعض روادها فى التاريخ السياسى الفرنسى، وأبرزها مقهى "لوبروكوب" فى القرن الثامن عشر. ومن خلال فضاء المقهى، برزت بعض ملامح فلسفة عصر التنوير، مع فولثير وجان جاك روسو ومونتسكيو. وكان المقهى يُعد مركزاً لبعض الاجتماعات التى مهدت للثورة الفرنسية من خلال لقاءات وحوارات بين بعض قادتها البارزين، مثل روبسبيير ودانتون.
2- الدور الثقافى فى مجال الفن التشكيلى، وتشكلات الملامح الفنية لبعض رواده وسماتهم، ومراحل تطورهم الفنى، ومنها مقهى "أثينا" فى ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، حيث كان يجلس على مقاعدها وطولاتها فنانين كبار مثل ديـﭬا ورينوار وبيكاسو. وفى دائرة الشعر والشعراء، يرصد بعض الباحثين الفرنسيين والعرب أن غيوم أبولينير، وأصدقاء الشاعر العظيم، كانوا يجلسون معه فى مقهى "الفلور". وفى مقهى "لوفلور" الشهير كتبت سيمون دوبوفوار كتابها الشهير والمؤثر عالميا على الحركات النسوية "الجنس الآخر"، ومعها أيضا جان بول سارتر، والحركة الفلسفية الوجودية ومريديهم، ومعهم الشاعر الكبير جاك بريفيير.
3- كانت مقهى "الدوماجو" العريقة يجلس عليها أيضا بعض الوجوديين، وبعض الكتاب الأنجلو ساكسون العظام، من أمثال أرنست همنجواي، وتورمان كابوت، ولورانس داريل صاحب رباعية الإسكندرية الشهيرة، وأيضا بيكاسو، وجورج باتاى، وجاكوميتى، وأرتو أدانوا، وسلفادور دالي أحد رواد السريالية في الفن التشكيلي الذي أثر على تجارب تشكيلية عديدة في العالم والمنطقة العربية، خاصة على دور السرياليين المصريين ومشاركاتهم في هذه الحركة في وقتها اللذين كانوا على اتصال بروادها الكبار وكان من أبرزهم جورج حنين ورمسيس يونان وآخرين.
وكان الفنانين السرياليين يرتادون مقهي "الدوماجو" بقيادة أندرية برايتون. وكانت أيضا مركزا لالتقاء الشعراء الألمان فى المنفى.
4- هناك مقاهي أخرى لعبت أدوارا مثل "الروتوند"، و"السلكت" فى "المونبارناس"، و"كليني" فى "السان جيرمان".([6])
هذه المقاهى، كانت ضاجة بالحياة وانفجار الأفكار والرؤى فى الثمانينيات من القرن الماضى، حيث كان يمكنك أن ترى "صمويل بيكيت" فى مقهى "الـكليني"، فى الطابق الثانى، يجلس وحيدا، ينظر على العابرين فى تقاطع الطريق بين "السان جيرمان" و"السان ميشيل"، ثم يعود لارتشاف القهوة وينظر فى جريدة "الأحد" أمام عيون النادل حتى لا يضايقه بعض المرتادين من الصحف العربية للحديث معه. كما كان يمكنك أن تشاهد فى مقهى "السلكت" فى "المونبارناس" المسرحى الروماني الأصل، والعظيم، يوجين يونسكو جانسا مع ابنته الفنانة التشكيلية، أو هو يعبر الطريق متكأ على زراعيها.
المقهى، وفق النسق الفرنسى، كان حاملاً لحركة ثقافية طليعية عالمية لإعادة صياغة رؤى العالم وفنانيه وشعراءه وفلاسفته ومثقفيه آنذاك. لا شك أن المرحلة الكلونيالية الفرنسية والبريطانية حملت هذا النمط من استعارات المقهى الفرنسي ونسقه ووظائفه، فى لبنان، وسوريا، ومصر، والجزائر والمغرب.
ثانيا: المقهى كفضاء للفعل الثقافى والسياسى: المثال اللبنانى
الكتابة عن المقاهي اللبنانية هام، لأنها لعبت دورا مهما في لقاءات بعض الطليعيين في لبنان والمشرق العربي، وأثر بعضها على حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر وجيلي الستينيات والسبعينيات في القرن الماضي، وفق مفهوم الجيل السائد عربيا.
الدور السياسي والثقافي للمقاهي فى المشرق العربى، يمثل أحد أبرز مواقع الحداثة، ورموزها وعلاماتها الفكرية، والشعرية، والفنية، بالنظر إلى مرتاديها من المثقفين والشعراء، والروائيين، والرسامين والمسرحيين. كانت بيروت حاضنة لبعض هذه الاتجاهات الطليعية والجديدة فى الثقافة العربية، وذلك بالنظر إلى هوامش الحريات فى ظل النظام السياسى الطائفى، وما أتاحه اقتصاد الخدمات فى عقد الستينيات وحتى منتصف عقد السبعينيات، وقبل الحرب الأهلية، على نحو جعل بيروت أحد مراكز هجرة بعض السياسيين العرب، كمنفى اختيارى أو طوعى أو إجباري، وأيضا حضور بعض المثقفين العرب، حيث حرية التعبير والنشر متاحة فى هذا الفضاء السياسى- الثقافى المفتوح، الذى حفل بالسياسيين المنفيين والمثقفين اليساريين، ومعهم عيون النظم والطبقات السياسية الحاكمة فى بلادهم تتابعهم عيونها فى الفضاء البيروتى، وأماكن تجمعهم فى المقاهى والمشارب وأماكن السكنى.
فى ظل هذه المرحلة الذهبية فى الحياة اللبنانية، شكلت بعض المقاهي علامة على هذه المرحلة، التى بات غالبها جزءاً من ذاكرة المدينة المأزومة وشوارعها، لاسيما شارع الحمرا، بل، ولبنان فى مرحلته الذاهية التى غادرته بعد الحرب الأهلية، وما بعدها، ووصل إلى مرحلة التراجيديا الطائفية، وأزمته الممتدة سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا في هذه اللحظة المضطربة داخليا وفي الإقليم العربي.
إذا حاولنا إبراز أهم الأمكنة والمقاهي التى لعبت دوراً بارزاً فى الحياة اللبنانية فى هذه المرحلة، يمكننا أن نرصد بعض المقاهي، من منظور الدور الثقافى أساسا، خاصة مع تمركز بعضها فى منطقة رأس بيروت، وشارع الحمرا، وما ساعد على ذلك وجود الجامعة الأمريكية، وجريدتى السفير والنهار، ودورهما البارز في هذه المرحلة التاريخية على الصعيد العربي، وبعض الشركات الأجنبية وفق بعض الكتاب.
من أبرز هذه المقاهي وأكثرها شهرة وذيوعاً مقهى "الهورس شو" الذى كان محلاً مختاراً للشعراء عبد الوهاب البياتى، وبلند الحيدري، وشوقى بغدادى، ومظفر النواب، ومحلا أيضا لعدد من السياسيين السوريين مثل أكرم الحوارنى وصلاح الدين البيطار. هناك أيضا مقهى "المودكا"، وكان سابقا مقهى النيغرسكو، وتم افتتاحه عام 1970. هناك كذلك مقاه الدولتشي ﭬيتا، وكافيه دوبارى، والويميى الذى كان مقراً للفنانين والأدباء والصحفيين مثل جميل ملاعب، وجنين روبيز وفيصل سلمان وجورج ناصيف ونصير الأسد وموفق مدنى وفارس خشان من الصحفيين.
فى "الهورس شو" -قبل إغلاقها- كان يوُمها الشعراء من حركة شعر، مثبل يوسف الخال، وأدونيس، ومحمد الماغوط، ونذير العظمة، وفؤاد رفقه. وكانت تعُد فيه مجلة "شعر"، وتم إغلاقه فى فترة الحرب. وبعدها افتتح صاحب الهورس شو "السيتى كافيه" الأنيقة الفاتنة فى التسعينيات، وكان يؤمها سعد الحريرى، ومنح الصلح، وبعض رجال السياسة اللبنانية، والصحفيين. وثمة أيضا كافية "دوباري"، والجندول على كورنيش المزرعة، وكان يرتاده صديقنا أدونيس أيضا.[7]
لقد اكتسبت هذه المقاهي الشهيرة، وغيرها، أهميتها من الحضور الثقافى لها، وإشعاعاتها على مستوى المشرق العربى والمنطقة العربية فى هذه المرحلة التاريخية، إلى أن قامت الحرب الأهلية اللبنانية، والتحولات الإقليمية العاصفة، طيلة عديد العقود، وتطورات إقليم النفط، وتحول وظيفة الخدمات إلى جزء من اقتصادات هذه الدول، سعيا وراء إحداث حالة من الاسترخاء الاجتماعي والمادى "للمواطنين" فى هذه الدول، خاصة بعد ثورة عوائد النفط، ويسر سفرهم إلى أوروبا وأمريكا وآسيا فى رحلات سياحية.
من هنا تراجعت أدوار المقاهي البيروتية، وأُغلق غالبها، إن لم يكن كلها، خلال العقدين الماضيين من الألفية الجديدة. غير أن بعض المقاهي على النمط الأمريكى مثل "ستاربكس" وغيرها، شاعت مع التغيرات الجيلية اللبنانية وهجرة الأجيال الشابة إلى المهاجر المختلفة، واستقرار بعض المثقفين والشعراء الكبار فى المهاجر الأوروبية والأمريكية. فى العقدين الأخيرين من الألفية الجديدة، حيث تغير وجه بيروت وشارع الحمرا، ولم تعد تميزه مقاهي المثقفين التاريخية، وتحول إلى شارع لمحلات بيع الملابس والسلعالصينية وغيرها، والخدمات والشركات والمصارف، فى ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الممتدة والمتفاقمة، وتدخل دول إقليمية وأجنبية فى الشأن الداخلى اللبنانى، ومعها شركاء لها بالوكالة فى التركيبة الطائفية المأزومة هيكليا.
لم يعد الاستقرار اللبنانى ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية قائماً، وتحولت لبنان، ومعها بيروت، إلى حالة من عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى المستمرة، ومن ثم غاب عن الطبقة السياسية وبيوتاتها الطائفية أن اقتصاد الخدمات اللبنانى وحرياته قد انتهى، وانتهى معه للأسف دور بيروت ومقاهيها، وفقدت لبنان، وبيروت، دورها كساحة لحرية النشر مع الثورة الرقمية، وأيضا كمنفى للسياسيين العرب، وكمركز للنشر الحر ولقاءات المثقفين العرب، وذلك نظراً لسيطرة حزب الله، ومعه إيران، على الأوضاع الداخلية، وتراجعت مع كل ذلك الأدوار التاريخية للطائفة السنية، وتراجعت معها أدوار الطائفة المارونية. من هنا، أصبحت مقاهي بيروت، ودورها الثقافى، وآخرها "السيتى كافيه" الأنيقة والمترفة، جزءاً من الذاكرة التاريخية لمدينة بيروت الجميلة، وتركت وراءها ذكريات وأطلال ورماد.
السؤال الذى نطرحه هنا، هل كانت المقاهي جزءاً من المقاربات التاريخية والسوسيو- ثقافية للأمكنة عربيا، ومصريا، وذلك على الرغم من أهمية دور بعضها فى الحياة الثقافية والسياسية فى بعض بلدان المشرق العربى ومصر؟!
ثالثا: مقاربة الأمكنة والمقاهى: مدخل
الكتابة عن الأمكنة كجزء من المقاربات التاريخية والثقافية فى بلد ما هى جزء من التأريخ الثقافى والسياسى، فى التقاليد الأوروبية والغربية عموماً، وذلك نظراً لأهمية الأمكنة– الميادين، والشوارع، والمتاحف، والمقاهى، والمشارب- فى الحياة اليومية للجمهور والسائحين، ولأنها تشكل جزءاً أساسيا من الحياة الحديثة، وتخطيط المدن، والطرز المعمارية، والحركة السياسية والاجتماعية فى المجال العام المفتوح فى النظم الديمقراطية الليبرالية، والتمثيلية، لأنها مركز الفعل السياسى والتفاعل الاجتماعى.
المكان فى الحياة اليومية والسياسية للمدن والمقاهي والشوارع العربية يبدو هامشياً، مع بعض الاستثناءات النسبية فى المراحل الكولونيالية، التى كانت المظاهرات المنددة بالاحتلال البريطانى فى مصر، والفرنسى فى سوريا ولبنان، وفى المنطقة المغاربية، لعب المكان دورا في اشعالها وتحفيز الجمهور عليها –الشوارع والميادين والمقاهى– وكانت مركزاً للاحتجاجات والمطالبة بالاستقلال. فى المقاربات التاريخية، كان المكان ولا يزال يُذكر عرضاً وهامشياً، لأن التركيز ظل على الفعل التظاهرى ضد المستعمر الأجنبى سعيا وراء التحرير الوطنى. بعد الاستقلال تم تضييق المجال العام، وقمع أية أفعال للاحتجاج السياسى، وغالبا ما كان يتم اعتقال المحرضين وبعض المتظاهرين لردع أية محاولات للاحتجاج على الحاكم والطبقة السياسية المسيطرة على نحو ظهر مع غالب أباء الاستقلال.
من هنا لا تظهر الأمكنة فى المجال العام السياسى المحاصر والمغلق فى النظم السياسية الشمولية والتسلطية فى الكتابات التاريخية الرسمية، التى تصوغ التاريخ الوطني لكل بلد وفق تصورات الطبقة السياسية الحاكمة. فى هذه السياقات المعادية للحريات العامة والشخصية، ظهرت الأمكنة -الميادين والشوارع والمقاهي- كفضاءات سياسية وثقافية، ولعبت أدوارها كحاملة للحركات السياسية والمحجوب عنها الشرعية، وفى لعب أدوار وظيفية سياسية كأمكنة بعيدة عن عيون البصاصين والوشاة والمخبرين فى بعض المقاهي فى الأحياء الشعبية التى يرتادها الجمهور العادي، والتى كانت تمثل أمكنة للقاءات التنظيمية وتبادل الآراء والمهام داخل الخلايا السرية. بعض المشارب فى الفنادق وبعض الغرف الفقيرة في الأحياء الشعبية، وغيرها، كانت ساحات للجلسات التنظيمية بين بعض القادة والكوادر التنظيمية. يمكنك أن تستعيد بعض المقاهي الشعبية المجهولة، أو المشارب الشعبية، كأقنعة وكساحة للتخفي عن أعين المخبرين فى عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وتاريخ الأحزاب اليسارية وجماعة الإخوان المسلمين –فى المساجد والمقاهي وبعض المنازل الشعبية في الحواري والأحياء الفقيرة، دال على ذلك.
بعض المقاهي والمشارب لعبت أدوراً ثقافية هامة فى تاريخ الأفكار، والمدارس الفكرية والأدبية والفنية شبه الحداثية فى مصر، ولبنان، وسوريا، والعراق كما سبق أن أشرنا سابقا الخ.
رابعًا: أنماط المقاهى المصرية
المقاهي فى مصر، والعالم العربي أيضا، متعددة فى أشكالها ووظائفه. بعض هذه المقاهي يمكن تصنيفها إلى ثلاث أنماط، على النحو التالي:
النمط الأول، المقاهى الشعبية التى يؤمها الجمهور العادي، نظراً لرخص أسعارها، ووجودها فى الأحياء الشعبية والحارات، وغالب وظائفها الراحة وتبادل الشئون والشجون الخاصة، أو بعض المعلومات والأخبار الشخصية والعامة، وتناول المشروبات الناعمة. يشكل هذا النمط من المقاهي الغالبية العظمى من المقاهي فى عالمنا العربى. ومن الملاحظ تاريخيا أن بعض مقاهي القاهرة كانت مقهى ومشرب في ذات الوقت، ومع نظام الانفتاح الاقتصادي ونمو النزعة الإسلامية السياسية والسلفية تم إغلاقها وتحولت إلى مقار لمحال بيع الأحذية والملابس والمعدات الكهربائية والمصارف، وبعضها كان لإخفاء مصادر الثروة غير المشروعة وتبريرها!.
النمط الثانى، المقاهي على النسق الفرنسى، وهى التى يرتادها فى العموم أبناء الطبقات الوسطى –الوسطى وبعض الصغيرة، والعليا، من النخب قبل الاستقلال، وبعده، عن الكولونيالية الغربية، ومنها مقهى ريش فى القاهرة، والهورس شو قبل الحرب الأهلية فى لبنان، وبعدها سيتى كافيه City Cafe التى كان يؤمها السياسيون والمثقفون فى بيروت قبل إغلاقها، ومعها المودكاوCafé de Paris.. إلخ.
النمط الثالث، المقاهي الأمريكية النسق التى انتشرت على نحو كبير فى المدن العربية منذ عقد الثمانينيات والتسعينيات ثم الألفية الجديدة، وذلك فى الأحياء الجديدة حديثة النشأة حول المدن والمجمعات السكنية Compound المغلقة والمسورة وذات الحراسات على بواباتها. مرتادى هذه المقاهي والمشارب غالبا من الفئات الوسطى العليا والأثرياء، وهؤلاء يغلبُ عليهم الولع بالنمط الأمريكى للحياة والمقاهي والمشارب. غالبا وظيفتها تذكية أوقات الفراغ، أو تبادل الثرثرة حول الهموم الشخصية، أو تبادل العشق القولي بين بعض الفتيات والفتيان، أو استعراضات الزى، أو تبادل المعلومات حول الحياة العامة وهمومها من منظورهم كأثرياء، أو عن مغامراتهم الحسية أو مغامراتهم فى السفر إلى المنتجعات السياحية أو خارج البلاد.. الخ.
النمط الأول من المقاهي الشعبية بات الأهم فى الحياة اليومية فى ظل التضخم والركود الاقتصادى وعسر الحياة اليومية، بالنظر إلى الدخول المنخفضة، ومن ثم يرتادها الفئات الشعبية من العمال والبرولتياريا الرثة والفئات الوسطى الصغيرة أو البورجوازية الرثة، وبعض ممن تساقطوا لأسفل من الطبقة الوسطى- الوسطى، وذلك لرخص أسعارها. ومن هؤلاء كثرة كاثرة من المثقفين فى مصر الذين يرتادون مقاهي مثل "البستان"، و"المقهى الثقافي"، و"التكعيبة"، و"الحرية"، وبعض المشارب الشعبية مثل "استلا" و"الكاب دور"، و"هاليجيان" في وسط المدينة.
النمط الثاني من المقاهى على النسق الفرنسى ترتادها الطبقة الوسطى- الوسطى، وبعض من الوسطى العليا، بالنظر إلى ارتفاع أسعارها، وبعض الأجانب من المقيمين، أو العابرين، وغالبا شحبُ دورها السياسى والثقافى، الذى كان سابقا.
لقد تحول دور المقاهي والمشارب إلى العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي، التي يتبادل فيها الجمهور خطابات المنشورات المكتوبة، والمرئية، والتغريدات والفيديوهات الخاصة والعامة لمرتادي هذه المواقع الافتراضية. يمكنك أن تلاحظ انشغال مرتادي المقاهي من الأنماط الثلاث، عن بعضهم بعضاً، ويقطعون الاتصال فيما بينهم بين لحظة وأخرى لإنشغالهم بما يجرى على مواقع الاتصال الاجتماعى، ويعلقون ويبدون آراءهم، أو فى اللجوء إلى بعض المواقع المرئية لمشاهدة الفيديوهات، أو صور بعض نجوم السينما، أو نجوم الانستجرام، أو المواقع الإباحية، أو لممارسة الثرثرة الرقمية، أو للمهاتفات مع الأصدقاء، والأبناء وزمر العمل الوظيفي أيا كانوا.. الخ!
ظاهرة الإدمان الرقمى أثرت على بعض أدوار ووظائف المقهى والمقاهي من الأنماط الثلاث، وتحولت من المقهى والمشرب الفعلي إلى العوالم الافتراضية، والتى شكلت بديلاً عن الواقع الفعلى الاجتماعي والسياسى والثقافى، وباتت تؤثر على القرار السياسي، والعمل الثقافى الرسمي، كجزء من وظائف الحياة الرقمية وقفزاتها الفائقة السرعة، وأثرها على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وعلى العمل واللهو، والصداقة، والقيم، والنقد السياسي والاجتماعي والثقافي، والعشق، والألم، والعنف، والكراهية، والأذى، والجنس الفعلي والقولي والمرئي. كلها تجليات جديدة للرقمنة وعالم السرعات الفائقة. من هنا، يتراجع دور المقهى فى السياسة وفى الثقافة فى العالم العربي، خاصة فى ظل إغلاق مقاهي شهيرة فى بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد لصالح رجال الأعمال والمصارف والشركات، وتحويلها إلى بنوك وشركات ومحال لبيع الأزياء، أو لتقديم الخدمات. عالم وفضاءات تتراجع لصالح عالم جديد يتشكل.
خامسا: الأمكنة والسرد والمقاربات التاريخية
الأمكنة التى تُعد جزءاً من التراث المادى، وغيرها من البنيات والمقاهي والمشارب والميادين، ليست محضُ كتل أسمنتية، أو حجارة رصت فوق حجارة، أو أبنية من الطين، فقط. الأمكنة ليست كيانات معمارية صامتة، وإنما ثمة ما أطلقنا عليه الفعل المكانى، أي دور بعضها فى الذاكرة والمخيلة الجماعية، لمن يرتادونها – المقاهى والمشارب والمتاحف والحدائق العامة التاريخية.. الخ- ومن ثم فإن المكان، والميدان، والمقهى هى فى ذاتها سرديات قد تبدو صامته ولكنها حاملة للفعل الإنسانى الفردي والجماعي السياسىي، والاتصالي، والثقافي، فى تاريخ المكان، وتحديداً في المدينة الحديثة، وتحولات ما بعدها، وما بعد بعدها من أنساق معمارية، واتصالية -حركة المواصلات، والهواتف الثابتة والنقالة، وثورة الاتصالات والرقمنة فى عصرنا- وأيضا حركة اقتصادية، وفعل سياسى، وفعل ثقافى –من المقاهى وأدوارها، ودور السينما، والمسرح، والمعارض، والمكتبات العامة، والخاصة لبيع الكتب في باريس، ولندن وبرلين وروما ومدريد وفيينا والقاهرة وبيروت ..الخ- نحن إزاء سردية تاريخية، وثقافية، وسوسيولوجية وسياسية. من هنا يمكننا مقاربة الأمكنة تاريخياً وسوسيولوجيا، ومنها مدينة القاهرة، ووسطها التاريخي الحديث، ومقاهيه، ومشاربه، ومعماره ومحلاته الكبرى لبيع السلع والخدمات..الخ.
من هنا، نستطيع أيضا أن نلاحظ أن سرد الأمكنة يتمثل في تاريخها ورموزها وشخصياتها التاريخية والسياسية والثقافية على نحو ما حملته ذاكرة مقهى ريش التاريخية كفضاء مكاني فاعل في وسط المدينة، وهو ما سنتناوله في ضوء كتاب ميسون صقر مقهي المعنون "ريش عين على مصر".
سادسا: سرد الأمكنة والمقاهى: حالة مقهى ريش وأدوارها الوظيفية
الأمكنة والمقاهي تمثل حكايات وحياة وتفاعلات وتاريخ، ومقاربتها تدخل فى المناهج التاريخية التى تعتمد على الوثائق والكتب والتاريخ الشفوي للمؤرخين المتميزين ذوي المقاربات الجديدة، والأدباء، ومن عاصروا هذه الأمكنة بالحياة داخلها، أو شهدوا وقائع سياسية وثقافية ورمزية حولها، أو شاركوا فيها، وما جرى فيها أو حولها من وقائع تاريخية سياسية.
الأمكنة هى أيضا جزء من السرديات الروائية والقصصية والمسرحية التى تخايل الكتاب والشعراء، فى قصائدهم وأبنيتهم السردية والماعتهم التخييلية. جوهر هذه المقاربات يدور حول الحياة فى المكان، وأهمية دوره، والفاعلين فى قلبه وحواليه وأثرهم الثقافي والسياسي. الأمكنة ليست كلها سواء، بقطع النظر عن جمالياتها وطرزها المعمارية، وإنما الأهمية فى حضورها فى التاريخ، ومن ثم إذا كانت تدخل ضمن التراث المادي مثل المعابد القديمة الأثرية، ودور العبادة، والتماثيل، وشواهد القبور التى يثوي تحتها شخصيات تاريخية وثقافية بارزة، أو سياسيين، أو أماكن ليست ضمن التراث المادي لكن محمولاتها التاريخية والرمزية، والتفاعلات داخلها، وخارجها، مهمة في تاريخ البلاد السياسي والثقافي والاجتماعي.
الكتابة التاريخية عن الأمكنة –سواء عبر الوثائق والمذكرات أو الكتابات عنها من معاصريها، أو عبر التاريخ الشفوى- تبدو ثانوية فى الكتابة التاريخية المصرية، وأحيانا جزءاً من التاريخ المعمارى للمدن؛ من ذلك الكتابة عن عمارة وسط المدنية -القاهرة والإسكندرية في وسطها والمناطق الشاطئية- وخاصة العمارة الخديوية للقرن التاسع عشر فى نهايته، أو أن يأتى المكان- ميدان، شوارع، منطقة -من خلال رصد الحدث التاريخى، كالمظاهرات والانتفاضات، أو مواجهة الاحتلال الأجنبى، أو الانقلابات العسكرية، أو جنازات تاريخية لزعامات سياسية بارزة فى تاريخ البلاد مثل جنازتي الزعيمين الوطنيين الكبيرين مصطفي النحاس باشا وجمال عبد الناصر. هذا التناول العرضى، أو الثانوى يسمُ الكتابة التاريخية عن الأمكنة عموما، مقارنة بالكتابة عن المدن العربية الكبري، كالقاهرة والإسكندرية وبيروت ودمشق وبغداد وفاس..الخ.
فى أوروبا، الكتابة عن الأمكنة والإحياء والمدن والمتاحف والأسواق والمقاهي والمشارب والمطاعم، تتسم بالثراء والعمق، والوعى التاريخي فى جميع التخصصات من العمارة، إلى الأدب والحياة الثقافية والآثار وحركة الحياة داخل الأمكنة وشخصياتها ورمزياتها.
الكتابة عن المقاهي التاريخية، ودورها فى الحياة السياسية والثقافية، تبدو قليلة وشحيحة كما أسلفنا، ولا يعدو بعضها أن يكون محضُ التقاط بعض الوقائع فى تاريخ الحركة الوطنية مثل مقهى "متاتيا"، حيث كان يجلس جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام محمد عبده، وحوارييه، حيث وصفه أحمد بهاء الدين بأنه "كان يوزع السعوط بيمينه، والثورة بيساره"، وغيرها من المقاهي.
من بين هذه المقاهي مقهى ريش، وهو واحد من أقدم المقاهي منذ أوائل العشرية الأولى من القرن العشرين، والذى حمل تاريخها أحداث ووقائع هامة سياسية وثقافية فى تاريخ مصر. من هنا، تبدو أهمية كتاب الشاعرة والروائية ميسون صقر، التى خصصت كتابها "مقهى ريش عين على مصر" لمقاربة تاريخية ووثائقية عن المقهى وتاريخه، من خلال الجمع بين الوثائق، وبعض المكتوب عن المقهى من مقالات وكتابات، وبين التاريخ الشفاهي لبعض المثقفين الذين كانوا جزءاً حياة المقهى فى بعض مراحلها، ولحظات تاريخية هامة فى السياسة والثقافة المصرية، وهى مقاربة جادة، لإعادة بناء تاريخ وذاكرة المكان/ المقهى.
يشكل هذا الكتاب أهمية فيمجال الكتابة عن ثقافة وسوسيولوجية المكان، من خلال وضع المقهى، فى إطار تشكلات البنية المعمارية للقاهرة ووسط المدينة، والتى تشتمل على طُرز معمارية مستعارة من التقاليد المعمارية والهندسية الأوروبية، منذ نهاية القرن التاسع عشر وأوئل القرن العشرين، والتى أريد لها أن تكون قطعة من أوروبا، وفق تعبير الخديو إسماعيل باشا ذائع الصيت. وضع المقهى فى فضاءه المعمارى، والتاريخى، يشكل مقاربة موفقة وجيدة، نظراً لأن نشأة هذا النمط من المقاهى وفق النسق الفرنسى للمقاهي كان جزءاً من التحديث السلطوى للقيم. ومن ناحية أخرى، كان أحد محركات أفكار الحداثة وأشباهها وظلالها من خلال دوره الثقافي والسياسي.
مقهى ريش كان تعبيرا عن الثقافة الكوزموبوليتانية التى سادت مصر حول القاهرة والإسكندرية.. إلخ، من خلال التعددية الثقافية وتفاعلاتها بين النخبة المصرية شبه الحداثية، التى تخلقت من خلال جهاز الدولة الحديثة، والتعليم، والبعثات، والجامعة الحديثة، والسوق الثقافي المفتوح على المركز الأوروبي آنذاك. الأهم هو التعايش بين المصريين فى المدن، وبين المتمصرين، والأجانب من أمشاج مختلفة حاملين التعدد فى القيم الحداثية والخصوصيات، والثقافات، والأديان والمذاهب، يعيشون معاً حول مراكز التحديث، وشبه الحداثة فى الفكر والسلوك الاجتماعي المديني.
مقهى ريش، مثله فى ذلك مثل المحال الكبرى على النمط الغربى والفرنسى فى بيع الملابس والموضات، والأثاث مثل بنتريمولي وبنزيون وجروبي، والفنادق فى وسط المدنية، كلها تعبيرات معمارية ووظيفية على الحالة التحديثية والكوزموبوليتانية للقاهرة. من أبرز ملامح الكتاب، وكتابة ميسون صقر هو الدور الوظيفى الحداثي للمقهى/ ريش، فى التفاعلات الاجتماعية بين مكونات المدينة ككتل وأنسجة معمارية، وثقافة المدينة.
هنا يثور سؤال لماذا تخصيص الكاتبة ميسون صقر كتاب عن مقهى ريش؟ هذا التخصيص هام، وذلك لدور المقهى، وتركيبته، ورواده من الناحيتين الاجتماعية والتعليمية. كان رواد المقهى الدائمين والعابرين، يعبرون عن الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة والوسطى- الوسطى أساسا من الباشوات والبكوات، وبعض الأفندية من المتعلمين، والسياسيين، والمثقفين من المصريين والمتمصرين والأجانب، وذلك منذ أوائل القرن الماضى، والمرحلة شبه الليبرالية (1923-1952).
استمر بعض من هذا التشكيل السوسيو-ثقافى والتعليمي لرواد المقهى، ثم حدثت بعض التحولات، لتغدو مقهى الطبقة الوسطى- الوسطى، والصغيرة مع نظام يوليو 1952، وبروز دور المثقفين والأدباء والشعراء، من جيل الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وتزايد حضورهم، ودورهم، خاصة فى ظل تزايد الوزن الاجتماعي للفئات الوسطى الصغيرة، من المدينة والأرياف. لا شك أن الحضور الفعال لهذه الفئات، ومعهم بعض كبار الشعراء والكتاب العرب، فى عقدي الستينيات والسبعينيات، أثر على التركيبة الاجتماعية للرواد، وتزايد الوزن الاجتماعى للمصريين، من رواد المقهى الدائمين، على نحو أثر على وظيفة المقهى سياسيا وثقافياً، وذلك على النحو التالى:
1- المقهى كنسق، وخدمات –على النمط الفرنسى ومنها ريش- دورها ليس تقديم المأكل والمشرب فقط، لكنها تمزج بين وظيفتي الراحة والهدوء، وربما التأمل لروادها، أو مكان للقاء بين الأصدقاء، وزملاء العمل، والأهم فضاء للحوار بين روادها، بل والجدل بين بعضهم بعضا فى سلام، على نحو ما شاهدنا تاريخيا ومعاصرا فى مقاهى باريس الشهيرة مثل الفلور، والدوماجو، وسلكت وكلينى، والروتوند، ومقاهي جامعة السوربون..الخ.
2- المقهى فضاء لنقل المعلومات والأخبار فى المجتمع، خاصة قبل ثورة المعلومات، والتلفاز، بين رواد المقهى، لاسيما فى ظل النظم الشمولية والتسلطية في العالم العربي.
3- ظهرت فى بعض المقاهى الباريسية حركات أدبية كالسريالية والوجودية، والتى ساهمت فى تغيير وجهات الفكر والفن والأدب فى العالم على نحو ما أشرنا سلفا عن دور المقاهي الباريسية الشهيرة عالميا.
من الكتب الهامة التى قاربت المقهى كتاب ميسون القاسمي "ريش عين على مصر"، حيث المقهى هي عين على مصر المجتمع والسياسة والثقافة، عبر رواده وجدالاتهم، وحواراتهم، ومواقفهم من مدارس الفكر والعمل السياسى، منذ ثورة 1919، ودوره فى هذا الحدث السياسى الوطنى الكبير. فى تصميم الغلاف بدت صورة قديمة للمقهى مفتوحا على الفضاء الخارجى دلالة انفتاحه على وسط المدنية. وفى الغلاف الأمامي والخلفي توقيعات بالفرنسية والإنجليزية، وبعض هذه التوقيعات على الغلاف الأمامي أهمها توقيع راسل باشا حكمدار القاهرة آنذاك على مراسلة بينه وبين بوليدس صاحب المقهي وقتذاك، وكان توقيعه على طلب إقامة عزف موسيقى، ورغم رفض السلطات، إلا أنه لم يجد مانعا لذلك على الرغم من الوضع السياسي في تلك الفترة التاريخي. يبدو من تصميم الكاتبة للغلاف، وكأنك أمام كارت بوستال لموقع أثرى وتاريخى دلالة على عراقة المقهى/ المكان، وظله وأهميته.
تصميم الغلاف، ولونه دال، ويمثل مع العنوان عتبة على خطابه التاريخي والثقافي، ومقاربته، وهو أحد تعبيرات تمثل الكاتبة لموضوعها، فى إجادة تُحمد لها.
وضعت الكاتبة المقهى فى تاريخه، وأدواره، وذلك فى وسطه المعماري وطرزه فى إطار وسط المدينة، والعمارة الخديوية التى كانت تعكس النزعة التحديثية السلطوية للدولة الحديثة فى عهد إسماعيل باشا وبدء الإستعارات الحداثية أو أشباهها وابتساراتها في وسط القاهرة، التى كانت تبدو وكأنها الدنيا فى الشرق العربى.
النسق والوظيفة لمقهى ريش، تماثلُ بعض المقاهى الباريسية الشهيرة التى أشرنا إليها من المنظور السياسى، والثقافى، وخاصة لأجيال وراء أخرى، وخاصة جيلى الستينيات والسبعينيات. وفى هذا الإطار الوظيفى يمكن ملاحظة ما يلى، وهو ما أشارت إليه ميسون صقر فى متن الكتاب:
1- الدور السياسى فى الجدل بين رواده من هذين الجيلين حول القضايا السياسية، أو إبداء الاعتراض على السياسة الرسمية قبل وبعد هزيمة يونيو 1967 لجيل الستينيات من الأدباء والمثقفين، أو اعترض بعضهم على اتفاقية كمب ديفيد، وسياسة السادات، وخروج بعضهم للتظاهر، والقبض عليهم. أو اعتقال السلطات بعض أدباء الجيل الستيني من الشباب، على نحو ما تنامى إلى سمع عميد الرواية المصرية والعربية الأستاذ نجيب محفوظ وكتب رواية الكرنك.
2- الدور الثقافى الحداثى واليساروي لجيلى الستينيات والسبعينيات، واعتبار الأدباء والمثقفين مقهي ريش مركزاً للحوار، وتبادل الخبرات والقراءات، والاكتشافات، وهو ما أدى إلى تشكل ملامح الجيل الستيني فى السرديات الروائية والقصصية، والشعر، الذى ساده شعر التفعيلة، وتأثر هؤلاء بالسياب، ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازى.
أما جيل السبعينيات، فقد اختلف مساره عن الجيل السابق، فى الشعر. كانت هناك تأثيرات مدرسة شعر، لاسيما الصديقين العزيزين على أحمد سعيد أدونيس، ومحمد عفيفي مطر، وبدايات التحول البارز لقصيدة النثر، وفى الرواية والقصة القصيرة، ومحاولة للقطيعة النسبية مع محفوظ ويوسف أدريس، وجيل الستينيات، على الرغم من التوترات والصراعات بين الجيلين، واختلاف تجارب كليهما.
3- غالبُ الكبار مروا من هذا المقهى. أدباء وروائيين، وقصاصيين، وشعراء ومثقفين كبار، وبعض من عملوا بالسياسة، أو موسيقيين، ورسامين، وممثلين وبعض الممثلات، ونقاد سينما، ومخرجين، ورجال أعمال كبار ومتوسطين. تداخلات وتفاعلات بين هذه المجموعات مع بعضهم بعضا خلقت وشيجة من الأفكار والعلاقات الإنسانية والتعارف، وبعض من الشجارات العابرة فى فضاء ريش الثقافى المترع بالأفكار والرؤى، والتفاعلات مع بعض المثقفين العرب المقيمين في مصر، أو القادمين إليها فى زيارات عابرة، لأنها كانت عنوان على لقاء مصر الثقافية، فى هامشها، وفى قلب سلطتها الثقافية والنقدية خارج جهاز الدولة الثقافي.
استطاعت ميسون صقر أن تعبر عن هذا الفضاء الثقافى- الاجتماعى بكفاءة واضحة. ثمة أيضا دور آخر لمقهى ريش وفضاءه الاجتماعى، ألا وهو التأثير المباشر واللا مباشر على صعيد التعامل مع مقهى حديث من حيث نظام الطعام والشراب، ذو الطابع البورجوازى، ونظام الزى من حيث التأنق، والموضة، والتناسق اللونى وفقا لها.
هذا التلازم بين نظام الأكل ونظام الزى، هو جزء من التأثيرات المتبادلة بين روادها من البورجوازيين وبعض الأجانب، وأيضا أثر ذلك على بعض من أبناء الشرائح الوسطى/ الصغيرة من أبناء القاهرة، وبعض من الريفيين، خاصة من جيلي الستينيات والسبعينات. قد تبدو هذه الملاحظة لا محل لها، لكنها جزء من ثقافة المقهى، والثقافة بالمعنى العام السوسيو- أنثربولوجى، وأيضا من سوسيولوجية المقهى/ المكان.
4- المقهى يحملُ على جدرانه صورا لبعض المشاهير فى الحياة الثقافية المصرية، ووضع الصور هو علامات بصرية لتاريخ المكان، وحضور هؤلاء الكبار فى روحه، وينسابون ومعهم ذاكراتهم وأعمالهم من حوائط المقهى، ويحفزون ذاكرة الرواد، والعابرين لعوالمهم وإبداعاتهم، وذاكرة المكان/ المقهى.
5- هناك أيضا داخل المقهى لقاءات الأحبة، وخطابُ الحب، بين العشاق من الفئات الوسطى المدينية، لاسيما بعضُ من شبابهم، فى التعبير عن الأشواق، أو العتاب، كأحد تفضيلات الحياة، بين بعض من شباب الرواد.
6- كان بعض الكتاب يجلسون فى المقاهي للكتابة، والقراءة على النمط الباريسى والمقاهي الفرنسية، فى زمن كانت الخصوصية، والهدوء سمت المدنية فى القاهرة والإسكندرية قبل غزو عمليات الترييف، والانفجارات الديموغرافية، والبحث عن الرزق. وكانت ريش مكاناً هادئاً للقراءة والكتابة لدى بعض المثقفين أو القراء من روادها.
7- فى لحظات صمت المثقف واغترابه، كان المقهى فضاء للتفاعل الاجتماعى مع الحياة، ومع الأصدقاء المقربين، كتمرينات للخروج من العزلة السياسية والاغتراب الاجتماعي، أو وسيلة للهمس أو الحوار الهامس مع المقربين منه! مقهى ريش واحدة من المقاهي التي كان يسودها الهمس –فى ظل وجود العيون الشاخصة حولهم من الوشاة- فى بعض الأحيان، وكانت مركزاً صاخبا للجدل السياسي بين روادها –كمجموعات من الأصدقاء المثقفين- أو مكانا لخروج مظاهرة فردية أو مجموعة محددة من المثقفين لا يتعدى أفرادها الأيدي الواحدة، تخرج رافعة يافطة صغيرة من الورق مكتوب عليها "لا لكامب ديفيد"، كما فعل الكاتب المثقف المرحوم الأستاذ إبراهيم منصور على سبيل المثال. الأهم هو خروج بعض الاتجاهات الجديدة للكتابة من خلال المناقشات بين المبدعين والنقاد والمثقفين من ذات الجيل أو أجيال سابقة أو لاحقة.
المقاهي، ومنها ريش، كانت أمكنة لتلقى وتبادل الثقافة السماعية، أو المثقف بالسماع، وفق تعبير الأستاذ المرحوم على فهمى عالم الاجتماع، من خلال رصده وملاحظاته على الحوارات والنقاشات بين بعض الأدباء والمثقفين عن كتب وشخصيات لم يقرأوها قط، وإنما جلُ معلوماتهم سماعية، وتنطوي على العنعنات، وهى جزء من تكوين المثقف بالسماع، التى تعود إلى محدودية التكوين الثقافي والنقدى لبعض الأدباء والمثقفين، أو لتعليمهم البسيط، رغم موهبة بعضهم الأدبية، ومن ثم غياب التكوين المنهجى لغالبهم من ذوى الأصول الاجتماعية الريفية والبسيطة..الخ.
من ثقافة الهمس المحمولة على رهابُ الخوف فى عقد الستينيات، إلى بعض من الصخب الصادر عن الكبت، والكبح السياسى إلى الصرخة العابرة، ثم الهجرة إلى النفط، أو بيروت، أو قبرص، ثم الي الكويت والإمارات العربية والبحرين وعمان وقطر والسعودية، سعيا وراء العمل وإلى سفر بعضهم إلى بيروت من أجل مناصرة القضية الفلسطينية –قبل ضرب إسرائيل بيروت وخروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس- والتعبير الحر، والنشر، ثم إلى تمدد ظاهرة المثقف بالسماع والثقافة الشفاهية، والجهل باللغات الأجنبية، فى أوساط بعض المثقفين، والروائيين، والقصاصين، والشعراء والفنانين، والتشكيليين في عصر السادات ومبارك .
ارتحلت هذه الظواهر بين أجيال التسعينيات، والعقدين الأول والثاني من القرن الحادى والعشرين، إلى عديد من المقاهي الشعبية كزهرة البستان، والندوة الثقافية، والحرية، وبعض مقاهي وسط المدينة أو ممراتها الداخلية، كمقهى التكعيبة، ثم إلى بعض المقاهي على النمط الأمريكي، التى غزت القاهرة والإسكندرية، وذلك بعيدا عن النمط الفرنسى للمقهى، مثل ريش. يدلف العابرون من "الطبقة المتوسطة" إلى المقهى كحالة تاريخية عريقة لتناول الطعام والشراب، وهم ينظرون إلى رواده المعروفين الراحلين وصورهم على الحوائط، أو بعض بقاياهم من الجالسين، من رأوا صورهم فى الجرائد الورقية قبل أفولها، أو فى الحوارات والتعلقيات المتلفزة فى الفضائيات العربية. نظرات عابرة على الوجوه المعروفة وبقاياها، أو إلى الأزمنة التى تتدفق عبر صور الراحلين من روادها.
تبدو مقاربة الكاتبة ميسون صقر لكتابها متميزة فى الحوار بين الوثائقي، والشفاهي، والكتابي، وفى وضع حالة المقهى فى سياقاته التاريخية والسياسية منذ النشأة، ومع عالم وسط المدنية، أو مقاهيها التاريخية، وبما فيها، وطرزها المعمارية، وكبار مهندسيها المصريين، والأجانب، والمتمصرين، وإبداعهم المعمارى.
من الجوانب المهمة في مقاربة المقهى التركيز أيضا على الدور السياسى للمقهى، فى بعض اللحظات، وخاصة لحظة 25 يناير 2011، و 30 يونيو 2013، وما بعد. وكان المطلوب هو تحليل ووصفت هذه الحالة، لأنها لم تكن عابرة من حيث رواد المقهى، أو العابرون، ولكنهم من الأجيال الستينية، والسبعينية، والأجيال الشابة الجديدة، وينتمون إلى الفئات الوسطى– الوسطى. وبعض الصغيرة قليلا، حيث كان من الملاحظ هيمنة اللغة الشعاراتية الخشبية، ومفارقة مواقع القوة الحقيقية فى الدولة وأجهزتها، وسيولة ميدان التحرير، وعدم تبلور روئ لإدارة الانتفاضة وأحلامها، ومابعد بعدها. كانت مقهى ريش، وميدان التحرير، وما يجرى داخلهما وحولهما مؤشرات على تفكك، وانهيار الانتفاضة، وجاء بعض من ينتمون إلى جماعة الإخوان إلى المقهى، وبعضهم وزراء لإبلاغ بعض المثقفين بقرارات سياسية سعيا وراء تهدئة أصواتهم الغاضبة أثناء حكمهم مع السلفيين. من مقهى "ريش" أيضا مرت حركة تمرد من خلال المقهى، وكان أي عقل سياسى لماح يمكنه أن يعرف كيف تم تشكيلها وتوظيفها فى مواجهة سطوة جماعة الإخوان والسلفيين.
كان المقهى فضاء للمعارضة والتمرد إزاء الحكم باسم الدين وهو ما كان يرهق عقل بعض المثقفين ويشيع الخوف بينهم.
من ناحية أخرى، تبدو الأمكنة والمقاهي التاريخية، وروادها البارزين فى الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، أحد حوامل الهوية، بل وبعض نزاعتها، وأزماتها كما فى الحالة المصرية والعربية[8]. الأمكنة التاريخية، كالمعابد الفرعونية والأهرامات والمساجد والتماثيل والميادين التاريخية، تمثل علامات هوية المكان، ومنها المقاهي.
8- الأمكنة والمقاهى فى مصر، وبيروت، هي تواريخ من النشأة والازدهار، والإغلاق، والتغيير، والهدم، وفق التحولات الاقتصادية والجيلية لروادها. هكذا صعدت بعضها وتألقت، ثم غادرها تألقها ورونقها، وصدُّ عنها روادها، أو بعضهم إلى أمكنة ومقاهي ومنتديات جديدة للقاء. فى بيروت تحول شارع الحمراء إلى غابة من محلات الملابس والخدمات، وضاعت أهم معالمه من المقاهي، وحتى سيتى كافيه City Cafe الأكثر أناقة واحتفاءاً بالفن التشكيلي عن بعض أكثر من المقاهي الباريسية الشهيرة حول منزل سعد الحريرى، بيعت إلى مؤسسة اقتصادية/ مصرف.
مقهى ريش ظل قائماً بفضل الأخوين مجدى عبد الملك، وميشيل عبد الملك، وبعض رواده القدامى، غادروا الحياة، وبقيت صورهم على الحوائط، ولا يزال بعض قليل جدا من جيل السبعينيات، وآخرين، وقلة من أجيال أخرى، لايزال مقهى ريش جزءاً من مألوف حياتهم.
9- هذا الدور الوظيفى للمقهى، وذاكراته التاريخية والثقافية والاجتماعية، هي الموثقة بهذا الكتاب[9] "ريش عين على مصر". واهتمت الكاتبة ميسون صقر بتوثيق مدقق لعلاقة المقهى بأجهزة الدولة، من تصاريح، وغيرها من الأمور المنظمة لعالم المقاهي، فى مقاربة تجمع بين السرد الشيق، واللغة المؤنقة، والتوثيق فى كتابها، الذى يحُمد له، ودرس تاريخ الأمكنة والمقاهى، حيث لا يعرف أحد عن تاريخ الأمكنة والمقاهي التاريخية التى اندثرت إلا من بعض المقالات والإشارات إليها فى بعض الكتابات عن تاريخها، وأدوارها، ولم يكتب تاريخها إلا قليلا جدا كما فعلت الكاتبة ميسون صقر فى كتابها الشيق.
[1] داريوش شايغان، الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الدينى، ترجمة جلال بدلة (القاهرة: دار الساقى، ٢٠١٩)، ص 154.
[2] المرجع السابق ذكره، ص 156.
[3] أنظر فى ذلك ميشال دوسارتو، ابتكار الحياة اليومية، فنون الأداء العملى، ترجمة محمد شوقى الزين (بيروت، الجزائر: الدار العربية للعلوم والفنون، ومنشورات الأختلاف، 2011)، ص 180.
[4] المرجع السابق مباشرة، ص 188.
[5] المرجع السابق مباشرة، ص 188.
[6] أنظر فى ذلك، شاكر نورى، "مقاهي باريس.. مهد الحركات الأدبية فى العالم"، جريدة البيان الإماراتية، 26 يونيو 2010، فى عرضه لكتاب: المقاهي الأدبية من القاهرة إلى باريس.
[8] كلود دوبار، أزمة الهوية: تفسير تحول، ترجمة رندة بعث (بيروت: المكتبة الشرقية، الطبعة الأولى، 2008). أنظر أيضا: كاترين البيرن وجان كلود روافنوبوربالان (محرران)، الهوية والهويات، الفرد، والزمرة والمجتمع، ترجمة إياس حسن، جزئين (دمشق: دار الفرقد، الطبعة الأولى، 2017). وانظر كذلك: داريوش شايغان، أوهام الهوية، ترجمة محمد علي مقلد، (بيروت: دار الساقي، ١٩٩٣).
[9]ميسون صقر، ريش عين على مصر (القاهرة: نهضة مصر، 2021). وانظر أيضا: محمود الورداني، الإمساك بالقمر... فصول من سيرة زماننا (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الأولى،٢٠٢١) ص ص ٦٨- ٩٦. مكاوي سعيد، مقتنيات وسط البلد (القاهرة: دار الشروق، ٢٠١٠). محمود خير الله، بارات مصر، قيام وانهيار دولة الأنس (القاهرة: دار روافد، ٢٠١٦).