أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لا يشكل مؤتمر باريس حول ليبيا، الذي انعقد في 12 نوفمبر الجاري (2021)، مرجعية جديدة للتسوية السياسية للأزمة الليبية، وإنما يشكل مؤتمراً ختامياً يهدف إلى التأكيد علىتنفيذ أولويات الاستحقاقات المرحلية المتمثلة في إنجاز الانتخابات الليبية الرئاسية والتشريعية، والتصدي لمحاولات تأجيلها أو عرقلتها والتأكيد على القبول بنتائجها، أما باقي الملفات، فأكد المؤتمر على استمرار دعم الآليات التي تعمل عليها مثل دعم اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) التي تتولى ملف إجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب، ودعم إنشاء هيئة للمصالحة الوطنية لاستكمال الخطوات التي قطعها المجلس الرئاسي خلال المرحلة الانتقالية، ودعم آلية دول الجوار في تقويض العديد من المُهددات مثل عملية ضبط الحدود الليبية وحل المشكلات المتنامية في الجنوب الليبي والبناء على الخطوات التي تم التوصل إليها في جولتى الجزائر والقاهرة (سبتمبر- نوفمبر 2021).

واقعية سياسية: البناء على مكتسبات المرحلة الانتقالية

تعكس نتائج المؤتمر على هذا النحو واقعية سياسية من جانب الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الشأن الليبي، تتمثل في الحفاظ على المكتسبات التي تم تحصيلها خلال المرحلة الانتقالية منذ التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020)، وترحيل الملفات المعقدة إلى ما بعد المرحلة الانتقالية. فلم تتم الإشارة، على سبيل المثال، إلى ملف توحيد المؤسسة العسكرية، بالنظر إلى التحديات العميقة في هذا الملف، وكذلك العديد من الملفات المحلية الأخرى، التي لا يمكن إنجازها في ظل وجود سلطة انتقالية مثل ملف الوجود العسكري الأجنبي الذي يتطلب سلطة منتخبة قوية قادرة على فرض قرار من هذا النوع.

ويعني هذا الاستنتاج أن هناك استيعاباً دولياً للدروس المستفادة من التجربة الليبية على مدار عشرية الأزمة الماضية، وأن المراحل الانتقالية بشكل عام لا تكفي لإنجاز خريطة الطريق، وأن ما جرى في عِقد من فوضى وانهيار للدولة يصعب معالجته كليةً في عام انتقالي، بل إن الحاجة إلى استكمال خريطة الطريق التوافقية بشكل جدي تتطلب وجود سلطة شرعية منتخبة، وأن المرحلة التالية لما بعد عملية الانتقال السياسي ستكون بمثابة مرحلة انتقالية أخرى لاختبار الاستقرار الليبي، من خلال تحسين الأوضاع بشكل متدرج، وفق سياسة "الخطوة – خطوة".   

وعلى هذا النحو، تتمثل القيمة المضافة لمخرجات مؤتمر باريس في تحصين موعد الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر المقبل، وعدم القبول بتعديله أو تأجيله، بناءً على رغبة بعض القوى والأطراف السياسية، وهو ما انعكس داخل المؤتمر ذاته، في خطاب رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة الذي سعى خلاله إلى التأكيد على عدام التوافق حول القوانين الانتخابية، وبالتالي يتبنى رؤية رئاسة المجلس الأعلى للدولة الاستشاري الذي يرفض تلك القوانين ويتجه للطعن عليها، ويعتقد أن هدف الدبيبة هو استغلال عملية تعديل القوانين لتغيير المادة 12 التي تفرض على المرشح التقاعد الوظيفي قبل الانتخابات بثلاثة أشهر.

وعلى الرغم من إشارة المبعوث الأممي يان كوبيش في المؤتمر إلى أهمية التوافق، لكن لم يكن هنا اتجاه داخل المؤتمر يساند ذلك، بل على العكس تم التوافق على  فرض عقوبات على الأطراف التي ستعمل على عرقلة الانتخابات. كما أن المسار الإجرائي لن يسمح غالباً بذلك، فقد فشلت محاولات داخل البرلمان ذاته في عقد جلسة لتعديل القوانين، فضلاً عن أن المفوضية أعلنت فتح باب الترشح للانتخابات رسمياً وفق تلك القوانين.

القيمة المضافة الأخرى، هى أن مؤتمر باريس يشكل تراكماً جديداً لتوافق الإرادة الدولية حول ليبيا. فقد تقاسمت منصة المؤتمر كل من ألمانيا- راعية مرجعية المرحلية الانتقالية- وإيطاليا أيضاً إلى جانب فرنسا، إضافة إلى تمثيل من دول الجوار الليبي، على غرار مصر التي مثلها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتونس التي مثلتها رئيسة الوزراء نجلاء بودن، وتشاد التي مثلها رئيس المجلس الانتقالي محمد ديبي، والجزائر التي مثلها وزير الخارجية رمطان لعمامرة، بالإضافة إلى رفع مستوى المشاركة الأمريكية بحضور نائبة الرئيس كامالا هاريس، كما شارك وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بينما شاركت تركيا على مستوى نائب وزير الخارجية، في إشارة إلى تأكيدها أيضاً هذه المرة على السير عكس اتجاه التوافق الدولي، وهو ما ظهر بوضوح مع إعلان المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تحفظ أنقرة على تشديد القوى الإقليمية والدولية على إنهاء الوجود العسكري الخارجي وإجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا.

ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب: المتغير الروسي والمعضلة التركية

كما سلفت الإشارة، لم تستجب تركيا للنداءات الدولية المتكررة لسحب مرتزقتها من ليبيا. وفي المقابل كررت روسيا موافقتها على الصيغة التبادلية – وفق ميركل- للانسحاب المتزامن والمتدرج. وعلى هذا النحو، تخلط تركيا الأوراق في هذا الملف، فمؤتمر باريس يركز على بدء تفعيل مبادرة إجلاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب كأولوية يليها إنهاء الوجود العسكري الأجنبي، بينما قال إبراهيم قالن المتحدث باسم الرئاسة التركية رداً على ذلك: "إن الهدف من تواجدنا العسكري هناك يكمن في تدريب الجيش الليبي، ونتواجد هناك كقوة استقرار تساعد الشعب الليبي، وأولويتنا فيما يخص الأمن تعود إلى مساعدة الليبيين في إنشاء جيش وطني ليبي موحد". وتنطوي تصريحات قالن على هذا النحو على عدة مؤشرات هامة، في المقدمة منها أن تركيا تؤكد على أنها لن تستجيب مطلقاً لمبادرة إجلاء المرتزقة، وإذا ما وضع في الاعتبار ما أشار إليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من أن 300 من المرتزقة سيغادرون ليبيا تحت إشراف الأمم المتحدة، فإنه لا يتوقع أن تقدم تركيا سوف مساعدة في هذا السياق، وما طرحه ماكرون يعني أن هناك خطة بديلة للتعامل مع الملف من خلال الأمم المتحدة. لكن هذه الخطة ضعيفة واعتراف بعدم القدرة على الضغط على تركيا لتنفيذ تلك المبادرة.

المؤشر الآخر، هو اعتراف قالن ضمنياً بالمسئولية عن وجود المرتزقة، لكنه لا يريد مساواة المرتزقة السوريين بنظرائهم من تشاد والسودان، وحتى "فاجنر" الروسية التي قال عنها: "أصدقاؤنا الأوروبيون لا يركزون على ما يفعل هؤلاء"، وهى مغالطة للواقع، فروسيا أكدت على الاستجابة من طرفها وفق ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر برلين الثاني بخطة الانسحاب المتبادل، كما أن دول الجوار الليبي التي تتعامل مع ملف المرتزقة والمتمردين التشاديين والسودانيين كانت ممثلة في المؤتمر والذي ينعقد بعد أقل من أسبوعين على انعقاد جولة لدول الجوار واللجنة العسكرية المشتركة في القاهرة مطلع نوفمبر الجاري.

والمغالطة الأخرى هى أن وجود المرتزقة السوريين والوجود العسكري التركي في ليبيا هو عامل قوة يهدف إلى استقرار ليبيا، ودعم توحيد الجيش، وهو أمر غير منطقي، فتركيا هى أحد أسباب استمرار انقسام الجيش الليبي، حيث ترفض القيادة العامة الإقدام على عملية التوحيد في ظل الوجود العسكري التركي في غرب البلاد، كما أن اللجنة العسكرية المشتركة ذاتها هى أول من وضع صيغة تقويض الوجود العسكري التركي الذي فرضته حكومة الوفاق، بتضمين وثيقة جنيف لوقف إطلاق النار (أكتوبر 2020) تجميد مظاهر التعاون العسكري الخارجي لاسيما التدريبات وكانت الإشارة واضحة إلى الدور التركي تحديداً في هذا الصدد.

من الناحية العملية، تراهن تركيا على الإبقاء على مرتزقتها كورقة ضغط يمكن استغلالها فيما بعد المرحلة الانتقالية، ففي حال جاءت سلطة متوافقة معها، سيكون لملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب مقابل تحصل عليه تركيا من القوى الدولية لتعزيز حصة مصالحها في ليبيا، والعكس في حال وصول سلطة غير متوافقة معها، فإنها ستعيد توظيف أدواتها مرة أخرى لإعادة إنتاج الصراع المسلح أو التوتر الأمني والسياسي بشكل عام.

وهناك عامل آخر من الأهمية بمكان الإشارة إليه في هذا السياق، وهو تراجع حصة القوى السياسية التي تراهن عليها تركيا على الساحة الليبية، لاسيما تنظيم الإخوان المسلمين، الذي انقسم على نفسه، بين تيار مؤيد للانتخابات وإجراءها في موعدها ووفق القوانين التي أقرها البرلمان، وهو التيار الذي تشكل مؤخراً في إطار الحزب الديمقراطي بزعامة محمد صوان، رئيس حزب العدالة والبناء السابق، وتيار آخر يناهض الانتخابات ويُحرِّض ضدها بطرق مختلفة تنوعت ما بين المقاطعة والطعن والمقاومة المسلحة، وهو التيار الذي يتزعمه رئيس مجلس الدولة الاستشاري خالد المشري، الذي كان لافتاً أنه قام بزيارة إلى تركيا قبيل مؤتمر باريس بأيام، وفى أعقاب مؤتمر تحريضي تضمن توجيه انتقادات للبرلمان والمفوضية العليا، لكن لا يعتقد أن هذا التيار قادر على تحويل مسار المشهد الحالي المتجه بقوة نحو إجراء الانتخابات والاعتراف بمشروعية نتائجها.

ويمكن القول هنا إن روسيا بدت أكثر تفاعلاً في مؤتمر باريس من تركيا، فكما سبقت الإشارة أبدت استعداداً للتجاوب مع ملف المرتزقة، كما أبدت أيضاً تجاوباً كبيراً مع دفع ملف الانتخابات قدماً، باشتراط مشاركة أنصار النظام السابق، وتحديداً السماح بمشاركة سيف الإسلام القذافي في الانتخابات الرئاسية، وهو ما تحقق بالفعل بعد إعلان ترشحه في 14 نوفمبر الجارى، خاصة أن المفوضية العليا سبق أن ألمحت إلى قبول أوراق ترشحه، بناءً على عدم وجود عائق قانوني، حيث لم تصدر ضده أحكام قانونية نهائية محلياً أو دولياً، بالإضافة إلى إدراج اسمه في كشوف الناخبين في دائرة سبها الانتخابية في الجنوب الليبي، وهو ما يعني أنه يحق له الترشح، وبالتالي يمكن القول إن الموقف الروسي متقدم خطوات على نظيره التركي في مقاربة توافق الإرادة الدولية حول عملية الانتقال السياسي في ليبيا.

ملامح اليوم التالي

يمكن أن نلاحظ أيضاً أن الخطوط الفاصلة بين الفصائل المسلحة وبين المكونات العسكرية باتت واضحة هى الأخرى. فقد تم تشكيل أركان غرب ليبيا، والتي أصبحت تتقدم خطوات على غرف عمليات الفصائل المسحلة مثل "بركان الغضب"، أو المليشيات المناطقية. كذلك من الأهمية بمكان النظر إلى أن اللجنة العسكرية المشتركة أصدرت تقريراً كشف عن وضع هذه الفصائل والمليشيات، عندما أكدت على أن العديد منها لا دور له ومن غير المعروف ما هو طبيعة العلاقة بين هيكله والهيكل الأمني لوزارة الداخلية أو الأركان العسكرية، وهى أيضاً نقلة نوعية على مستوى الرؤية والمعالجات. لكن كما سلفت الإشارة، فالأمر لا يتوقف عند حد التشخيص بقدر الحاجة إلى إيجاد بدائل استراتيجية لاستيعابها، وأن تشمل المعالجة إطاراً متكاملاً للتعامل معها، فعملية التسريح وإعادة الإدماج لا تكفي بمفردها إن لم تتم عملية سحب الأسلحة التي تمتلكها المليشيات، فخلال الفترة السابقة وقعت العديد من المعارك فيما بينها استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، بالإضافة إلى أهمية تفكيك شبكات المصالح التي تشكلت في هذا الإطار.

في السابق، كانت الطعون القانونية سبيلاً للعودة إلى ساحة الصراع المسلح، على غرار ما جرى في أعقاب الانتخابات التشريعية عام 2012. لكن يبدو أن السياق المقبل مختلف عن تلك المرحلة، فربما لا تزال هناك مساحة حركة للفصائل المسلحة لتوتير الأجواء أمنياً، لكن يصعب القياس على ما جرى آنذاك، فحتى الانقسام القائم في المؤسسة العسكرية لا يسمح باستعادة تلك الأجواء، أو حتى أجواء معركة طرابلس 2019-2020. صحيح أن أدوات الصراع لا تزال موجودة، لكن مصالح أغلب القوى المحلية والدولية باتت واضحة، والكل ينتظر العنوان السياسي لمرحلة الاستقرار لجنى ثمار هذه المصالح. لكن أيضاً من المهم الوضع في الاعتبار أن أدوات الصراع- كالفصائل المسلحة- ستحتاج إلى معاول كبح داخلية، قد يكون منها توفير البدائل الاستراتيجية لاستيعابها في منظومة أمنية جديدة. أما ما يتعلق بالأدوات الأخرى مثل المرتزقة والمقاتلين الأجانب، فالقضية لم تعد قضية ليبية خالصة، وأصبحت مشكلة المجتمع الدولي المعني بليبيا، وفى هذا السياق أشار مؤتمر باريس إلى أولوية دور المراقبين الدوليين الذين بدأوا في التوافد. وهناك أيضاً دور رئيسي للجنة العسكرية المشتركة (5+5)، ويكتسب وجود هذه الأدوات وهذه الخطة أهمية خاصة حتى لو كانت النتائج محدودة أو يتم تنفيذها بشكل بطئ.

لا تعني هذه المحصلة بالضرورة أن ليبيا ستنتقل إلى مرحلة الاستقرار التام، أو يمكن التبشير بأنها ستكون نموذجاً ديمقراطياً بعد إتمام عملية الانتخابات، لكن من المؤكد أنها ستراكم على هذه التجربة بمرور الوقت إلى الوضع الأفضل، إذا ما تمكنت السلطة المنتخبة من وضع خريطة طريق للاستقرار. فقد كانت خرائط الطريق السابقة انعكاساً لإرادة القوى الدولية، ومن ثم سيتعين أن تنجز الإرادة الوطنية خريطة الطريق الخاصة بها، للتعامل مع الملفات التي تم ترحيلها من المراحل السابقة. يضاف إلى ذلك أن هناك أربعة روافع مهمة لإسناد السلطة المقبلة، وهى الآلية الدولية التي تمثلها مرجعية مؤتمرات برلين، والتي تُحصِّنها مرجعيات الفاعليات الدولية المتراكمة مثل مؤتمر باريس الذي انعقد برئاسة متعددة الأطراف مثلت فيها القوى الأوروبية، إلى جانب التمثيل الأمريكي الأعلى مستوى بحضور نائبة الرئيس كامالا هاريس، ثم الآلية الإقليمية المتمثلة في دول الجوار، وأخيراً الآلية المحلية المتمثلة في اللجنة العسكرية المشتركة.