بعد فترة اضطربت فيها المفاهيم على أثر التحولات الاستراتيجية الأمريكية عالمياً وإقليمياً، والتحولات المصرية بعد ثورتى 2011 و2013، تتجه العلاقات المصرية- الأمريكية الآن نحو شراكة من نوع جديد، حيث يعيد كل طرف إدراكه للقيمة الشاملة للآخر وللشراكة الخاصة بينهما، وهو الأمر الذي كشفه الحوار الاستراتيجي المصري– الأمريكي الذي عُقد في واشنطن يومى 8 و9 نوفمبر 2021.
كانت فترة الرئيس السابق دونالد ترامب استثنائية في العلاقات المصرية- الأمريكية؛ حيث طغى دور الرئيس على دور المؤسسات الأمريكية، وتوارت قضايا الخلاف التي طفت على السطح خلال فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وخلق ترامب حالة في القرار الأمريكي أدت إلى استقطاب شديد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومن ثم ركزت مختلف الدول في علاقاتها بالولايات المتحدة على مواقف الرئاسة، على حساب باقي المؤسسات، وهذه الحالة قد لا تتكرر على الصعيد الأمريكي.
كانت حالة ترامب مريحة لمختلف الدول، لكن الحالة الراهنة هى الحالة الصحيحة للسياسة الأمريكية، التي تشارك فيها مؤسسات مختلفة لصنع القرار، على نحو يبنيها على تفاهمات وتقديرات متوازنة بشأن المصالح. وهذه التقديرات الاستراتيجية تضمن لمصر وزنها الطبيعي وتضعها في التقدير والمكانة اللائقين بها. لذلك لم يكن غريباً التوافق الذي عكسته كلمات الوزيرين سامح شكري وانتوني بلينكن، اللذين كان كلاهما يتحدث بلهجة متقاربة حول القضايا ذاتها، حتى في القضايا التي كان يُفترض أن تكون محل خلاف، مثل الملف الحقوقي.
السردية المتكافئة
لم يكن غريباً أن تسعى إدارة بايدن إلى استكمال الخطوة التي اتخذتها إدارة أوباما عام 2015، باستئناف الحوار الاستراتيجي بين البلدين؛ حيث مارست مصر على مدى سبع سنوات سياسات مكنتها من استعادة دورها وتجربتها الخاصة في التنمية والتحديث الداخلي، بشكل فرض سردية مصرية جديدة، فيما يتعلق بالقضايا التي يجري تصديرها كقضايا خلافية في العلاقات.
لم تمل الدولة المصرية والرئيس عبد الفتاح السيسي في مختلف المحافل واللقاءات من إبداء وجهة نظر مصر الخاصة بضرورة النظر إلى حقوق الإنسان على نحو شامل، يأخذ في الاعتبار الخصوصيات الوطنية والظروف الاستثنائية لدولة تكافح الإرهاب، ويدعو للتبصر بالحقوق الاقتصادية وأوضاع المعيشة الخاصة بالفقراء والمهمشين والمناطق العشوائية، وهى أمور لم تدخر مصر وسعاً في شرحها، ومعالجتها بتطوير الأوضاع على الأرض، على نحو خلق سردية فكرية جديدة، كانت جديرة بأن تُحدِث ثقوباً في السردية الغربية الخاصة بالحقوق والحريات. وفي الوقت نفسه، خطت الدولة المصرية خطوات مهمة على صعيد سردية حقوق الإنسان بالمفهوم الغربي؛ كان أبرزها مؤخراً إصدار الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإلغاء حالة الطوارئ، وتحسين أوضاع السجون، واستصدار تشريعات جديدة.
كل ذلك أوجد صدى لكلمات الوزير سامح شكري في المؤتمر الصحفي مع نظيره الأمريكي، حين قال إنه "يعتقد بأن التحديات التي تواجه القيادة السياسية في مصر هى أن المجتمع يجب أن يتطور إلى الأرقى"، وتأكيده على أن "الشعب المصري هو من يقرر نظامه السياسي ونظامه الاقتصادي"، وهو ما يعني إدارة حوار على أرضية متكافئة.
استعادة الدور
جاء الحوار الاستراتيجي المصري- الأمريكي 2021 نتاجاً للتحولات في السياسة المصرية التي تمكنت من إعادة بناء اقتصاد الدولة وتأهيله للمنافسة الدولية، وأعادت موضعة ذاتها في قلب حركة التجارة العالمية بتشييد قناة السويس الجديدة، واستعادت هيبة الدولة عبر بناء قوة عسكرية بهيكلية ونوعية مختلفة، وتمكنت من فرض الاستقرار ومكافحة الإرهاب في سيناء، ومارست دورها في أمن المضايق والممرات الملاحية، وباشرت مسئوليتها في الأزمات والقضايا الإقليمية، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والتطورات في غزة، أو ليبيا أو السودان أو العراق أو لبنان أو سوريا أو حتى شرق المتوسط، وقبل كل ذلك كانت سياستها بشأن السد الإثيوبي (الذي يتعلق بحياة المصريين) نموذجاً في الصبر الاستراتيجي المدروس. وأخيراً، عكس الاتفاق على تعديل البروتوكول العسكري لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل مقدار الثقة في مصر، الأمر الذي أدرك معه الجميع أن مصر الجديدة محل جدارة بثقة القريب والبعيد، وأن الدور المصري الجديد هو صمام أمان، ليس فقط للأمن الإقليمي وإنما للأمن العالمي.
ذلك كله ما عكسه التقدير الذي بدا جلياً في حديث وزير الخارجية الأمريكي عن دور مصر، في القضايا العالمية، مروراً بالإشادة بالدور الذى تلعبه في ملفات الشرق الأوسط، وانتهاءً بتثمين علاقة البلدين في مجالات البحث العلمي والأكاديمي والتعليمي والثقافي والشراكة المجتمعية والشعبية، وحتى الحديث عن الدكتور مجدي يعقوب رائد زراعات القلب العالمي، والممثل المصري رامي مالك الحائز على جائزة أوسكار عام 2019، لينتهي الوزير الأمريكي بأن بلاده "تستفيد من إنجازات مصرية كل يوم".
يشير ما سبق إلى حجم ما بُذل من جهود من أجل إعادة العلاقات المصرية- الأمريكية إلى مسارها الصحيح، بعدما كانت قد انحرفت قليلاً في عهد أوباما واختزلت في عهد ترامب، وهي جهود على الأرجح كانت مجالاً للبحث الطويل خلال اللقاءات التي جرت بين الجانبين، فلم تخرج الإدارة الأمريكية فجأة لتكتشف أهمية مصر الاستراتيجية، وإنما كان ذلك نتاجاً للمسار الهادئ الرزين الذي انتهجته مصر منذ 2014، وتمكنت به من نيل ثقة الآخرين واحترامهم. وباختصار، لم تهتم مصر على مدى سبع سنوات بشىء أكثر من اهتمامها ببنائها وتطورها الداخلي، وربما لم يدفعها إلى الالتفات إلى قضايا الإقليم إلا اندفاع الأزمتين الإثيوبية والليبية إلى عقر دارها. هكذا -بصدقها في توجهها نحو البناء الداخلي وبدبلوماسيتها الهادئة- دفعت الآخرين إلى مطالبتها باستعادة دورها.
الشراكة الجديدة
يتسع حجم القضايا التي وردت بالحوار الاستراتيجي المصري- الأمريكي ليشمل كل قضايا المنطقة تقريباً، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة -في ظل توجهاتها العالمية الجديدة- ترغب بالدور المصري في قضايا الإقليم، وتعتبر مصر طرفاً أساسياً في شراكات الاقتصاد والطاقة، وفي الشراكات العسكرية والدفاعية، وفي مكافحة الإرهاب، وفي القضية الفلسطينية وليبيا والسودان وسوريا والعراق ولبنان، وحتى في أمن الخليج وشرق المتوسط وإيران وإثيوبيا.
هذا التوجه الأمريكي يعني الرغبة في تسكين مصر في وضعية جديدة من قضايا الإقليم والتحالفات الدولية الناشئة، وهو ما يمثل فرصة بالنسبة لمصر، لكنه يتطلب الانتباه في الوقت نفسه إلى أهمية أن تبقى الأعين المصرية موجهة إلى النموذج الداخلي في التطوير وبناء الدولة الحديثة، على نحو يضمن تعزيز القيمة الاستراتيجية لمصر بشكل مستمر.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 13 نوفمبر 2021.