د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

إلى الآن، لم تكشف حركة "طالبان" عن نظام الحكم الذي ستتبعه في أفغانستان بعد سيطرتها على السلطة في كابول في 15 أغسطس 2021، باستثناء الإعلان عن الحكومة الانتقالية في 7 سبتمبر من العام نفسه. وبصرف النظر عن أن هذه الحكومة "انتقالية" كما جاء في الإعلان عن تشكيلها، فإنها تبدو قسماً من ما يمكن تسميته بـ"جبل جليد" تظهر قمته فقط فيما تختفي أقسامه الأخرى- التي ربما تكون أكثر تأثيراً- تحت الماء.

حرص "طالبان" على إخفاء ملامح نظام حكمها بدا جلياً في الظهور الاستثنائي لزعيمها الملا هبة الله اخوند زاده- بصوته فقط- بعد أن زار مدرسة دار العلوم الحكيمية القرآنية في قندهار في 30 أكتوبر الفائت. إذ سمحت الحركة فقط ببث تسجيل صوتي لكلماته في المدرسة، ولم تنشر فيديو أو تسمح بالتقاط صوره له، لتبقى صورته الوحيدة هى المتداولة في وسائل الإعلام.

هنا، فإن الاكتفاء بالإعلان عن تشكيل حكومة جديدة لا يستوعب مجمل التساؤلات التي طرحت دون إجابة منذ سيطرة الحركة على السلطة في منتصف أغسطس الماضي، على غرار ماهية التراتبية الجديدة للنظام الذي ستحكم به "طالبان"، وموقع زعيم الحركة والقيادات الرئيسية فيه، وحدود العلاقة بين الجناح العسكري للحركة والجيش النظامي الذي اختفى فور وصولها لكابول، لكنها قد تستدعي قوامه الرئيسي أو تعمل على تكوينه من جديد في مرحلة لاحقة، باعتبار أن طبيعتها "الميليشياوية" لا تتوافق مع المهام الجديدة التي ستقوم بها، على غرار حماية حدود الدولة.

في هذا السياق، طرحت أدبيات مختلفة اجتهادات كثيرة، كان أبرزها أن الحركة قد تؤسس نظاماً أقرب إلى النظام البرلماني، من خلال وضع معظم الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة، مع تحديد نطاق الدور الذي سيقوم به الزعيم- الملا هبة الله اخوند زاده- في الإطار الديني، باعتبار أن مؤهلاته الأساسية دينية وفقهية وقضائية قبل أن تكون عسكرية، فضلاً عن أن اختياره في الأساس لزعامة الحركة في مايو 2016، بعد مقتل الملا أختر منصور، كان، وفقاً لذلك، حلاً وسطاً لاحتواء الصراعات التي كان من الممكن أن تندلع في هذا التوقيت على قيادة الحركة.

مع ذلك، فإن هناك اتجاهاً آخر يرى عكس ذلك، ويرجح أن الحركة قد تستعين بأحد النماذج المختلفة معه أيديولوجياً لكنها قد تتوافق معه سياسياً، لاسيما فيما يتعلق بكيفية إدارة شئون الدولة والعلاقات مع الخارج، والبحث عن آلية للحكم تستند إلى ظهير ديني وسياسي في آن واحد، وهو النموذج الذي تتبعه إيران منذ اندلاع الثورة التي أطاحت بالشاه رضا بهلوي في عام 1979، الذي يعتمد نظرية ولايةالفقيه كآلية للحكم تجمع بين الديني والسياسي في الوقت نفسه.

لماذا إيران؟

اللافت في هذا الصدد، هو أن الحركة بالفعل بدأت في اتخاذ إجراءات توحي بأن تبني هذا النموذج ليس بعيداً عن تفكير قياداتها: أولها، تعيين الحكومة الانتقالية برئاسة الملا محمد حسن أخوند أحد كبار قيادات الحركة لإدارة شئون الدولة من الناحية التنفيذية، أى التعامل مع الملفات المعيشية المختلفة، فضلاً عن تحديد اتجاهات العلاقات مع الخارج والسياسة الخارجية إزاء القضايا التي تحظى باهتمام خاص من جانبها.

ثانيها، فرض مكانة خاصة لزعيم الحركة الملا هبة الله أخوند زاده، الذي وصفته أدبيات عديدة بأنه أشبه بموقع المرشد الأعلى للجمهورية في إيران، باعتبار أنه يمتلك من الصلاحيات- الدينية والسياسية- ما يقترب بالفعل من السلطات التي يتولاها الأول، مع الوضع في الاعتبار الفارق الذي يفرضه الموقع الديني للولى الفقيه في المذهب الشيعي، والذي يتيح له صلاحيات دينية وسياسية متفردة، لا يمكن مقارنتها بمواقع دينية وسياسية أخرى لاسيما في المذهب السني.

ثالثها، اختيار كابول العاصمة السياسية للحكومة، وقندهار العاصمة الدينية للدولة، على غرار الوضع بين طهران وقم في إيران، حيث تمثل الأولى العاصمة السياسية، فيما تعد الثانية العاصمة الدينية، وإن كان هناك فارق آخر يتعلق بوجود المرشد خامنئي -بصفة شبه مستمرة- في طهران، لكن هذا الفارق لا يقلص من أهمية المكانة التي تحظى بها "قم" على المستويين الديني والسياسي، حيث أن ثمة أسباباً عديدة ربما تدفع المرشد الحالي إلى تقليص فترة وجوده في "قم"، يتعلق أبرزها بموقعه في الهيراركية الدينية الشيعية التي يفرضها وجود رجال دين كبار "آيات الله" في "قم".

رابعها، دعوة قوات الجيش السابق إلى الاندماج في النظام الجديد، حيث قال الناطق باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، في 6 سبتمبر الماضي، إن "القوات الأفغانية التي تلقت تدريبات في السنوات العشرين الماضية سيُطلب منها الانضمام إلى الإدارات الأمنية إلى جانب أعضاء طالبان". ويعني ذلك في المقام الأول أن الحركة ربما تفكر في إعادة تأسيس الجيش مرة أخرى، لتولى المهام الكلاسيكية للقوات المسلحة، على أن تتحول الميليشيا التابعة للحركة إلى ما يشبه "الحرس الثوري" في إيران. ويكتسب ذلك وجاهته من أن الحركة لن تستطيع الوثوق تماماً في ولاء الجيش -بنمطه الجديد- في حالة إعادة تأسيسه مرة أخرى، وأنها سوف تعتمد على قادتها وعناصرها في حماية نظامها ضد أى مصدر تهديد محتمل داخلي أو خارجي، تماماً كما فعلت إيران عندما أسست "الباسداران" أو الحرس الثوري.

خامسها، توفير مساحة أوسع لبعض القيادات الرئيسية في الحركة، لإدارة العلاقات مع الخارج، لاسيما نائب زعيم الحركة ونائب رئيس الحكومة وقائد الجناح السياسي الملا عبد الغني برادر، الذي أدار المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي انتهت بإبرام اتفاق سلام في فبراير 2020. وربما يمكن القول إن برادر يتبوأ موقعا أقرب إلى الموقع الذي سبق أن تولاه رئيس الجمهورية الأسبق في إيران أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي كان له الدور الأبرز في إدارة العلاقات مع الخارج، لاسيما خلال مرحلة التأسيس الأولى للجمهورية الجديد في عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

ربما تبقى هذه مجرد اجتهادات، لكن في النهاية لا يمكن استبعاد حدوثها، لاسيما أن "طالبان" سوف تكون مضطرة -عاجلاً أم آجلاً- إلى الكشف عن طبيعة نظام حكمها، الذي يبدو متغيراً مهما للمجتمع الدولي في إدارة علاقاته معها خلال المرحلة القادمة.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 10 نوفمبر 2021.